لن يكون من الغريب إذا شبّهنا الباعة المتجوّلين على طول الشواطئ التونسية خلال فصل الصيف، بالنوارس، التي يدلّ طيرانها غير بعيد عنك، على اقترابك من اليابسة. الأمر نفسه ينطبق على هؤلاء الباعة المتجوّلين الذين يُستشفّ من تواترهم على الشاطئ، دخول فصل الصيف رسميًا، وانطلاق موسم الاصطياف والسباحة والتمتّع بانتعاشة البحر.
بأقدام حافية، تداعبها أمواج الشاطئ حينًا والرمال الملتهبة حينًا آخر، يجوب بعض الشبّان والكهول الذين لفحت الشمس بشرتهم، بما لذّ وطاب من "التسالي" والمقرمشات على المصطافين
بأقدام حافية، تداعبها أمواج الشاطئ حينًا والرمال الملتهبة حينًا آخر، يجوب بعض الشبّان والكهول الذين لفحت الشمس بشرتهم، ولم يتسلّحوا أمامها سوى بمظلة عملاقة من القشّ، بما لذّ وطاب من المأكولات التي يمكن إدراجها في خانة "التسالي" والمقرمشات والحلويات عمومًا.
فلا يكاد يغيب الشاب صاحب عربة رقائق البطاطا "الشيبس"، حتى يظهر أمامك بائع الشاي بإبريقه الضخم الذي يتربّع على "كانون" يحوي جمرات متّقدة، تؤمّن حرارة الشاي على طول النهار.. يشير إليه رجل من تحت شمسيّته، فيهرع له ليسلّم حمولته إلى الرمال تعبًا، قبل أن يلبّي الطلب. يرفع ذراعه عاليًا بالإبريق ليملأ كأسًا ورقيًا بالسائل الأسود الدافئ اللذيذ، قبل أن يسأل إن كان يريده بالنعناع أم بـ"الكاكاوية" (الفول السوداني).
يطلب البائع على أحد شواطئ ولاية نابل، دينارين مقابل كوب من الشاي العاديّ (بالنعناع)، وثلاثة دنانير مقابل كوب من الشاي بـ"الكاكاوية". الأسعار في المتناول عمومًا، وتتضمّن هامش ربح يفوق المتعارف عليه بقليل، باعتبار "مصاريف الشحن"، إذ لن تحتاج إلى التنقّل إلى أيّ مكان، فطلبك يصلك حيث أنت، ومن المنتج إلى المستهلك مباشرة.
يظهرون تباعًا من اللامكان، ويتكرّر مرورهم قربك عشرات المرات. قد تتردّد في الشراء في المرة الأولى، قد لا تتمكّن من اللحاق بهم في الوقت المناسب في المرة الثانية، لكنّ هذا الظهور المتكرّر يكون أحيانًا حافزًا خفيًا للاستجابة في آخر الأمر لنداء البطون، فتتحرّك الأيادي إلى الجيوب والحقائب لتنقد هؤلاء أجرهم مقابل التمتّع بمنتجاتهم.
البمبلوني والفريكاسي والكاكي والقطانية والقلوب، والشاي.. وغيرها، كلّها مأكولات يذرع بها هؤلاء الباعة الشواطئ جيئة وذهابًا على مدار اليوم
الفطائر الحلوة (البمبلوني) والمالحة (الفريكاسي) و"الكاكي" و"القطانية" (الفشار)، و"القلوب" (اللّب).. وغيرها، كلّها مأكولات تُحمل في أطباق واسعة، فوق رؤوس الباعة، أو عبر سواعدهم، وأحيانًا عبر عربات خفيفة، وتكون غالب الوقت مغطاة بورق السلوفان، الأمر الذي يستنكره كثيرون، باعتبار أنّ تعرّض هذه المنتجات لأشعة الشمس لأوقات طويلة، قد يشكّك في مدى صلوحيتها للاستهلاك.
حاور "الترا تونس"، الشاب محمد علي، وهو بائع "بمبلوني"، أكّد لنا أنه يزاول هذه المهنة منذ 27 سنة، ووصف نفسه بأنه "أقدم بائع متجوّل على الشاطئ في نابل"، وأنه ورث عن أبيه هذه المهنة، بعد أن ظلّ والده يمارسها لـ 46 سنة كاملة، حسب قوله.
يتابع محمد علي: "ترعرعتُ وأنا أشاهد والدي يمارس هذه المهنة، وبالتالي يمكن القول إنّ هذه المهنة هي من اختارتني لا أنا من اخترتها، وقد مارستها حتى أثناء دراستي"، يضيف: "جرّبت كلّ المهن، من الاعتناء بالحدائق إلى حراسة العمارات إلى العمل في المقاهي والمطاعم والحانات وفي السوق، لكن تبقى هذه المهنة الموسمية الأقرب إلى قلبي" وفقه.
يضيف محمد علي بعد أن سألناه عن باقي فصول السنة، باعتبار العدد القليل من الأيام التي يمكن أن يشتغلها في مهنته هذه، فقال: "أغلب الباعة الذين اختاروا هذه المهنة الموسمية الصيفية، يشتغلون في مجال البناء بقية أشهر السنة، ويفضّلون في قيظ الصيف، التسلّح بمظلّة وترك الأمواج تعبث بأرجلهم على ممارسة مهنة البناء الشاقة والمتعبة، والتي يزداد تعبها في درجات الحرارة المرتفعة التي تعرفها البلاد"، على حد تعبيره.
بائع "بمبلوني"لـ"الترا تونس": أغلب الباعة الذين اختاروا هذه المهنة الموسمية الصيفية، يشتغلون في مجال البناء بقية أشهر السنة، لكنهم يهربون من هذه المهنة الشاقة صيفًا
وحول المرابيح التي يجنيها من هذه المهنة، قال محدّثنا: "صافي الأرباح اليومية التي أجنيها من عملي كبائع متجوّل على الشاطئ، يساوي أو يفوق في بعض الأيام ما أجنيه من أجرة يوم كامل في البناء.. أبدأ تجوالي على الشاطئ منذ الساعة التاسعة صباحًا إلى غاية الساعة السادسة والنصف مساء، أكون قبلها قد مررتُ في الصباح الباكر على بعض البيوت والإقامات أين أسلّم حرفائي الفطائر والبمبلوني تحت الطلب، خاصة وأنّ كثيرين يطلبون مني إيصالها لهم في الصباح الباكر".
ولدى سؤاله عن الإقبال على شراء بضاعته عمومًا، وخاصة في هذا الموسم، أجابنا محمد علي بقوله: "يمكنني القول ببساطة إنّ الإقبال على الشواطئ التونسية هذا العام من قبل المصطافين، قد تراجع بنحو 60% تقريبًا، فعديد العائلات التونسية المقيمة بالخارج، اختارت عدم العودة لتونس هذا الصيف نظرًا لارتفاع كلفة هذه العطلة، بين تذاكر سفر ومعاليم ديوانية وهدايا، وذلك حسبما حدّثني به عديد الزبائن الذين أصبحت صديقًا مع العديد منهم".
بائع "بمبلوني"لـ"الترا تونس": صافي الأرباح اليومية التي أجنيها من عملي كبائع متجوّل على الشاطئ، يساوي أو يفوق في بعض الأيام ما أجنيه من أجرة يوم كامل في البناء
يبيّن محمد علي بائع البمبلوني في أحد شواطئ ولاية نابل، أنه في آخر الأسبوع، وتحديدًا يوميْ السبت والأحد يتضاعف العمل للإقبال المتزايد على البحر في عطلة نهاية الأسبوع، وقال إنه يفضّل العمل خاصة في المناطق التي تعرف سلسلة من الفنادق المتتالية، لأنها تعجّ بالسيّاح، الذين يُقبلون على شراء فطائره رغبة في اكتشافها، وفق قوله.
تحدّث "الترا تونس" لإحدى السيدات التي اشترت بعض أكواب الشاي، فقالت: "ربّي يعين كل شخص يريد أن يكسب رزقه بعرق جبينه، أنا أميّز جيّدًا بين البضاعة التي يمكنني تناولها من عدمه، ولهذا أنتقي الباعة الذين أشتري منهم، ويكون لي معهم حديث حول طريقة صنعهم لهذه المنتجات ومدى سلامتها من الناحية الصحية".
مصطافة لـ"الترا تونس": أنتقي جيدًا الباعة الذين أشتري منهم، ويكون لي معهم حديث حول طريقة صنعهم لهذه المنتجات ومدى سلامتها من الناحية الصحية
تضيف المصطافة في إجابة عن سؤال "الترا تونس"، أنها لا تتذمّر أبدًا من هؤلاء الباعة، بل إنّها بالعكس، تشعر بأمان أكبر وألفة أكثر نحو المكان الذي يكون عامرًا بالحركة والذهاب والإياب، ولهذا تختار أساسًا الشواطئ المهيّئة للاصطياف وتبتعد عن الأماكن غير المأهولة التي قد يفضّلها البعض.
باعة الشواطئ المتجوّلين هم أقرب إلى النُدُل الحفاة الذين يلبّون طلبك بلا كلل أو ملل، يسرقون من الصيف حيويته وعنفوانه، ومن البحر هدوءه وثورانه.. وهم يطلبون رزقهم في مثابرة حارقة بين مدّ وجزر.