09-أكتوبر-2024
البارافارماسي الصيدلية البديلة

ثقافة البديل الطبيعي وخصوصًا الطبي منه آخذة في الانتشار في تونس (pexels)

 

بعد أن سئم الإنسان ما قدمته العولمة من قوالب مجهّزة مسبقًا نمّطته وحنّطت رصيده الحضاري وسلبته جوهر حريته وقادته إلى حياة معلّبة وجعلته كائنًا مستهلكًا يتباهى بفردانيته، يشهد العالم خلال العقود الأخيرة استفاقة فجئية ساهم في التعريف بها التفريع الذي شهدته العلوم الإنسانية وبروز علماء جدد في اختصاصات غير مسبوقة، و نشطاء البيئة في كل مكان من العالم وأيضًا أولئك المطالبين بالحد من الصناعات والأنشطة التجارية المستنزفة للثروات الطبيعية والمدمرة للبيئة. 

وهي مرحلة يعرّفها علماء الاجتماع  بـ"مرحلة ما بعد العولمة"، أو مرحلة العودة إلى الذات، ويتمثل جزء منها في عودة الإنسان إلى البدائل الطبيعية في كل شيء دون القطع بناصية التطور الحضاري والعلمي، محاولًا التخلص من كل ما هو مصنّع سواءً في الأكل أو اللباس أو في التداوي أو الترفيه، حيث أصبحت البشرية تستشرف مخاطر ما بعد أزمات المناخ وتعتبر العودة إلى الطبيعة ملاذًا وخلاصًا، بل هو اليقين المليء والعيش بامتلاء وتحويل الزمن المتبقي إلى قيمة حقيقية مستحقة.

ضمن الوعي المستجد بضرورة العودة إلى الطبيعة ونبذ الحياة المصنعة، ظهرت في تونس مؤخرًا ظاهرة "الصيدلة البديلة" التي تجلت للعيان في بعث محلات تشبه كثيرًا الصيدليات المتعارف عليه وتعرف بـ"البارافارماسي"

وضمن هذا الوعي المستجد وهذه العودة إلى الطبيعة التي تشبه الطفرة ونبذ الحياة المصنعة، برزت في تونس ظاهرة "الصيدلة البديلة"، وقد تجلت للعيان في بعث محلات تشبه كثيرًا في هندستها وألوانها وشعارها الصيدليات المتعارف عليها وجودًا وقانونًا، ومن شدة التشابه فإنه أحيانًا يتداخل الأمر على المواطن العادي وهو يبحث عن صيدلية لاقتناء الدواء.

هذه الصيدليات الجديدة تعرف لدى عامة الناس في تونس بـ"البارافارماسي" وهي منتشرة في العاصمة والمدن الكبرى بشكل لافت وأيضًا في بعض المدن الصغيرة، وهي تقدم خدمات صيدلية من نوع خاص تتمثل في البدائل الصيدلية والمكملات الغذائية المستخرجة من مواد طبيعية  مثل الحبوب بأنواعها والأعشاب والزيوت المقطّرة ومواد التجميل بشتى أنواعها المستخرجة من مواد طبيعية.

 

صورة
تقدم البارافارماسي خدمات صيدلية من نوع خاص تتمثل في البدائل الصيدلية والمكملات الغذائية المستخرجة من مواد طبيعية (pexels)

 

هذا العالم الصيدلي الجديد في تونس حمل "الترا تونس" إلى اقتحام المجال وفهم ما يحدث: 

التقينا "علي مهنّي"، وهو صاحب محل صيدلة موازية بمدينة منوبة بإقليم تونس الكبرى، الذي استحسن مبادرتنا في تسليط الأضواء حول هذا النشاط الصحي الاقتصادي الناشئ.

وذكر منذ البداية أنه متخرّج من كلية الصيدلة بالجامعة التونسية وله دراية واسعة في مجالات المخابر الصيدلانية، وقام بتربصات عديدة في هذا المجال. وبيّن أنّ هذه المشاريع الجديدة التي تشجعها الدولة التونسية عبر تيسير القروض البنكية والتسهيلات الإدارية من شأنها أن تساعد التونسيين على التخفيف من استعمال الأدوية الكيميائية.

علي مهنّي (صاحب صيدلية بديلة) لـ"الترا تونس": الصيدليات البديلة تقدم مواد طبية مركبة من مكونات طبيعية وفي ظروف مخبرية لائقة، باتت تلاقي رواجًا بين عموم المواطنين خاصة وأن جزءًا كبيرًا من موادها متأتٍّ من طبيعة تونس وغاباتها

وأوضح علي مهنّي أنّ هذه الصيدليات الجديدة التي تقدم مواد طبية مركبة من مكونات طبيعية وفي ظروف مخبرية لائقة تلاقي الآن رواجًا بين عموم المواطنين، معقبًا: "ثمة من يأتي بدافع الفضول فيكتشف بدائل طبيعية للأدوية أو المراهم أو مواد التجميل التي يستعملها".

وأشار صاحب محل الصيدلة البديلة إلى أن وجود هذه الصيدليات الجديدة قانوني وأنها لا تزاحم الصيدليات المتعارف عليها، مضيفًا أنّ العاملين في هذا القطاع الجديد يأملون في التنظم في هيكل خاص بهم حتى يتسنى لهم معرفة بعضهم البعض، ومن ثمة تطوير القطاع في اتجاه مزيد بعث مثل هذه المشاريع وتوضيح القوانين المنظمة لهذه المهنة الجديدة، خاصة وأن التونسيين، على خطى العديد من المجتمعات الأخرى، باتوا ينزعون للعودة إلى الطبيعة في كل شيء، وخاصة في المسائل التي تتعلق بصحتهم، مؤكدًا أنّ على الدولة أن تساعدهم في ذلك بتثبيت مثل هذه المشاريع.

 

صورة
الصيدليات البديلة تتعامل مع مخابر باتت تصنع الأدوية من الأعشاب الطبية والمواد الطبيعية الغابية (pexels)

 

وأضاف محدث "الترا تونس" أنّ الصيدلة البديلة في تونس مهنة جديدة تعاني من بعض الصعوبات، منها ما هو تشريعي، إذ تنقصها العديد من النصوص التوضيحية والترتيبية وخاصة تلك النصوص التي توضح جيدًا العلاقة بالصيدليات المتعارف عليها منذ القِدم والفصل بينهما وبجدولة الأدوار والمهام ونقاط التماس.

علي مهني لـ"الترا تونس": قطاع الصيدلة البديلة يشهد نوعًا من الفوضى من خلال بعض الدخلاء على قطاع الصيدلة فثمّة من يقوم بفتح محل وهو لا يحمل شهادة اختصاص أو أو بعد تلقّيه تكوين غير عميق وغير علمي في شتى المجالات ذات الصلة

وبين الصيدلاني علي مهني أنّ هذا القطاع الجديد، في حدّ ذاته، يشهد فوضى من خلال ما يمكن تسميته بـ"الدخلاء" على قطاع الصيدلة بشكل عام، فثمة من يقوم بفتح محل وهو لا يحمل شهادة اختصاص أو ما شابه، أو بعد تلقّيه تكوين غير عميق وغير علمي في مجالات تقطير الزيوت أو صناعة مواد التجميل في مراكز تكوين خاصة.

واعتبر محدث "الترا تونس" أنّ ذلك يؤثر سلبًا على هذا القطاع ويضرب صورته لدى عامة الناس لأن التواصل مع المرضى أو الزبائن يتطلب دراية علمية ومعرفة بمحتوى البضاعة المعروضة.

وبالنسبة للمواد المقدمة في هذه المحلات، ذكر علي مهنّي أنّ "جزءًا كبيرًا منها متأتٍّ من طبيعة تونس وحقولها وجبالها وغاباتها"، موضحًا أنه يتعامل مع مصنعين محترفين وقانونيين في صناعة مواد التجميل الموجهة للغسل والدهن والمكملات الغذائية.

علي مهني لـ"الترا تونس": الصيدلة البديلة في تونس مهنة جديدة تعاني من بعض الصعوبات، منها ما هو تشريعي، إذ تنقصها العديد من النصوص الترتيبية وخاصة تلك التي توضح جيدًا العلاقة بالصيدليات المتعارف عليها والفصل بينهما وتحديد أدوار كلّ منها

أما المواد الطبية الأخرى والخاصة ببعض الأمراض الجلدية أو العضوية، يقول مهني إنّ اقتناءها يتم عبر مزودين مرخص لهم، ومن مخابر معروفة باتت تصنع الأدوية من الأعشاب الطبية والمواد الطبيعية الغابية.

وأضاف أنّ نسبة هامة مما تقدمه الصيدلة البديلة مستورد من عدة بلدان منها ما يأتي من مسالك تجارية شرقية وأخرى من مسالك تجارية غربية وهي مواد تخضع لتراخيص وزارة الصحة العمومية. 

وهنا أشار مهني إلى أنّ الصيدليات العادية التي تبيع المواد الطبية والمخبرية الصيدلانية، ورغم إحداث الصيدلة البديلة، لا تزال تستحوذ على اختصاصهم ببعث أجنحة خاصة بالمواد الطبية البديلة وهو ما يستوجب تدخل الجهات الرسمية القانونية للفصل بين الاختصاصين، حسب تقديره.

 

صورة
ثقافة البديل الطبيعي وخصوصًا الطبي منه آخذة في الانتشار (pexels)

 

وعن إقبال المواطنين التونسيين على ما تقدمه الصيدليات البديلة من مواد، قال علي مهنّي إنّ "ثقافة البديل الطبيعي وخصوصًا الطبي منه، آخذة في الانتشار وهي تتنامى يومًا بعد يوم"، مشيرًا إلى أنّ الأطباء يساعدونهم في بعض الأحيان بتوجيه بعض المرضى فيما يتعلق بأمراض بعينها إلى محلاتهم، معتبرًا ذلك أمرًا محمودًا ومساعدًا على البقاء والتطور، حسب رأيه.

علي مهني لـ"الترا تونس": "مهنة الصيدلة البديلة هي من المهن الجديدة التي تستحق دعم الدولة عبر المزيد من التشريع ووضع خطة اتصالية وترويجية تحث المواطن على الانتباه للبديل والعودة إلى الطبيعة بدل الأدوية الكيميائية"

وختم علي مهني حديثه لـ"الترا تونس" بالقول إنّ "مهنة الصيدلة البديلة هي من المهن الجديدة التي تستحق دعم الجميع وخصوصًا الدولة عبر المزيد من التشريع ووضع خطة اتصالية وترويجية تحث المواطن على الانتباه للبديل والعودة إلى الطبيعة بدل الأدوية الكيميائية"، محذرًا المواطنين من "التوجه إلى محلات إلكترونية تشتغل عبر شبكات التواصل الاجتماعي خارج الأطر القانونية وأحيانًا تقدم مواد طبية مهربة ومصنوعة من مواد غير طبيعية"، وفق قوله. 

 

صورة
تلجأ كثيرات لشراء مواد التجميل من الصيدليات البديلة (pexels)

التقينا أيضًا المواطنة "منية"، وهي بصدد اكتشاف محل علي مهنّي للصيدلة البديلة، وقد أوضحت أنها استحسنت وجود هذه المحلات واعتبرتها في صالح صحة المواطن.

وأضافت أنها، منذ أشهر عديدة، أصبحت تقتني أغلب مواد التجميل الخاصة بها من هذه المحلات لجودتها باعتبار أن مكوناتها مستخرجة من مواد طبيعية وأيضا لأثمانها المعقولة مقارنة بما يقدّم في المحلات التجارية.

 

منية (حريفة لإحدى الصيدليات البديلة) لـ"الترا تونس": أصبحت أقتني أغلب مواد التجميل الخاصة بي من الصيدليات البديلة لجودتها باعتبار أن مكوناتها مستخرجة من مواد طبيعية وأيضا لأثمانها المعقولة

"حياة"، وهي صديقة "منية"، أكدت من خلال تدخلها أنها لم تكن تعلم في السابق بهذا العالم من البدائل الطبية الطبيعية، مشيرة إلى أنها بصدد الانخراط فيه والترويج له في محيطها المهني والعائلي وأنها باتت تقتني لها ولعائلتها العديد من المواد من هذه المحلات. 

وأوضحت "حياة" أنّ ما ينقص هذه المهنة الجديدة هو وعي المواطن بها والوعي يتطلب الكثير من الوقت، حسب رأيها.

مديرة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة لـ"الترا تونس": محلات الصيدليات البديلة يتحصلون على ترخيص للعمل من قبل وزارة التجارة وفق شروط موضوعة مسبقًا، ووزارة الصحة تسعى حاليًا للتدخل حتى يصبح الترخيص للعمل مشتركًا درءًا للفوضى

"الترا تونس"، وبهذا الخصوص، اتصل بالدكتورة هدى الرحماني، مديرة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة العمومية، التي أوضحت أن محلات الصيدلة البديلة أو البارافارمسي لا يتجاوز عددها بضعة عشرات تتمركز أساسًا بالعاصمة وضواحيها، مقدّرة أن عددها يناهز 200 محلّ في أقصى الحالات.

ولفتت الرحماني إلى أنّ أصحاب هذه محلات الصيدليات البديلة يتحصلون على ترخيص للعمل من قبل وزارة التجارة وذلك وفق شروط موضوعة مسبقًا، مستطردة أنّ وزارة الصحة تسعى حاليًا للتدخل حتى يصبح الترخيص للعمل مشتركًا وذلك درءًا للفوضى وربما الضرر بصحة المواطن.

أما عن الدور الرقابي لوزارة الصحة، بينت الدكتورة هدى الرحماني أنه يقع أساسًا مراقبة الجهات المزودة لهذه المحلات الجديدة مثل مزوّدي الأدوية ومزودي المكملات الغذائية ومواد التجميل، وغيرها.

مديرة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة لـ"الترا تونس": وزارة الصحة تراقب الجهات المزودة لهذه المحلات كما تقوم بزيارات تفقد لها وقد أثبتت عدة تقارير تفقد أنّ هناك مواد معروضة مجهولة المصدر وأخرى مهربة

كما أفادت بأنّ المصالح الرقابية لوزارة الصحة تقوم أحيانًا بزيارات تفقد لهذه المحلات الجديدة، مشيرة إلى أنّ تقارير التفقد بيّنت أنّ هناك بعض المواد مجهولة المصدر وأخرى مهربة، حسب قولها. 

وأشارت محدثة "الترا تون" إلى أنّ مسألة التكوين في هذا المجال باتت ضرورية من قبل مؤسسات التكوين العمومية سواءً تلك الراجعة بالنظر لوزارة الصحة أو وزارة التكوين المهني أو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وذلك بالنظر إلى حساسية القطاع، مؤكدة أنّ "على وزارة التجارة أن تشترط التكوين في مهن الصيدلة قبل منح الترخيص"، حسب رأيها.

إن الصيدلة البديلة في تونس مهنة جديدة لها محلات أنيقة تشي بالجمال والجدية وموادها محفوظة في ظروف طيبة تشبه كثيرًا ما هو معمول به في الصيدليات الطبية، وأصحابها يقدمون خدمات جيدة منها النصيحة الطبية، لكن يبدو أن هذا القطاع تعترضه صعوبات  كثيرة. وطالما أنّ الأمر متعلق بصحة المواطن، فإنّ على الدولة التونسية وخصوصًا وزارة الصحة أن تتدخل للإحاطة والمساعدة على البقاء والاستمرار في عالم البدائل الطبية الطبيعية المتشعب.