"قبل إنشاء محطة تحلية المياه سنة 2018، كانت حياتنا أكثر صعوبة لا سيّما خلال فصل الصيف لأن المياه كانت تنقطع باستمرار في جزيرة يزورها مئات الآلاف من السياح كل سنة"، بهذه الكلمات تُبدي رحاب امتنانها لوجود محطة لتحلية مياه البحر بجزيرة جربة (جنوب شرق تونس).
وتعتبر الشابة، البالغة من العمر 25 عامًا، في حديثها مع "الترا تونس"، أنّ هذا الحل كان ضروريًا لتخفيف معاناة قسم واسع من سكان الجزيرة الساحلية والمناطق المجاورة لها خصوصًا مع انحسار التساقطات في السنوات الأخيرة.
وكشفت رحاب، التي أنهت دراستها الجامعية حديثًا، أن جودة المياه تحسنت إلى حد ما (منذ تأسيس المحطة) بالنظر إلى أنّ مياه الحنفية "كانت ذات جودة متوسطة وغير صالحة للشرب"، حسب رأيها.
تراهن تونس على مشاريع تحلية المياه لإنعاش مواردها المائية الشحيحة التي تواجه ضغطًا متناميًا بسبب تداعيات تغيّر المناخ والتوسع العمراني وضعف حوكمة الموارد المائية
وتنتج محطة تحلية مياه البحر بجربة 50 ألف متر مكعب في اليوم قابلة للتوسعة إلى 75 ألـف متر مكعب في اليوم، وفق الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، بهدف تغطية احتياجات الجزيرة من المياه، وتخفيف وطأة العجز المسجل في المياه في عدد من محافظات الجنوب الشرقي للبلاد الذي تشهد أغلب مناطقه انقطاعات متكررة.
-
"الحلّ الوحيد لتأمين موارد مائية جديدة"
تراهن تونس على مشاريع تحلية المياه لإنعاش مواردها المائية الشحيحة التي تواجه ضغطًا متناميًا بسبب تداعيات تغيّر المناخ والتوسع العمراني وضعف حوكمة الموارد المائية.
وتقلصت حصة المواطن التونسي من المياه إلى 460 مترًا مكعبًا سنويًا، مما يضع تونس في فئة "فقراء المياه" (التي يحصل فيها الأفراد على أقل من 1000 متر مكعب سنويًا من الموارد المائية المتجددة)، التي يعيش حوالي 60% منهم في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
بدأت تونس في استخدام تقنية تحلية المياه سنة 1995 بإنجاز محطة لتحلية المياه الجوفية بقابس بعد تجربة محتشمة سنة 1983 في قرقنة، لكن أكبر إنجاز تحقق حين دخلت محطة جربة طور الإنتاج في 2018 بكلفة تناهز 200 مليون دينار
ودشنت الحكومة التونسية محطتين لتحلية مياه البحر هذا العام، وهي الزارات (مدينة تقع على السواحل الجنوبية للبلاد) بطاقة إنتاجية تبلغ حوالي 50 ألف متر مكعب يوميًا لحل مشاكل الإمداد في ولايات الجنوب التونسي وقابس ومدنين وتطاوين، وصفاقس بحوالي 100 ألف متر مكعب يوميًا. ومن المنتظر أن تدخل محطة سوسة حيز التشغيل نهاية العام الحالي بقدرة إنتاجية تبلغ 50 ألف متر مكعب يوميًا.
ويندرج مشروع محطة تحلية مياه البحر بالزارات الذي سينتفع به حوالي 1.1 مليون ساكن ضمن البرنامج الاستراتيجي للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، الرامي إلى "تعزيز الموارد المائية بالجنوب الشرقي وتأمينها بحلول سنة 2035".
وبدأت تونس في استخدام تقنية تحلية المياه سنة 1995 من خلال إنجاز محطة لتحلية المياه الجوفية بمدينة قابس بعد تجربة محتشمة سنة 1983 في جزيرة قرقنة، لكن أكبر إنجاز تحقق عندما دخلت محطة جربة طور الإنتاج في ماي/أيار 2018 بكلفة تناهز 200 مليون دينار.
بعد تردد دام عقودًا لتوسيع نطاق مشاريع التحلية بسبب ارتفاع قيمة الاستثمار وكلفة الماء المنتج، أكدت شركة استغلال وتوزيع المياه في تونس أن اللجوء إلى تحلية المياه "هو الحلّ الوحيد اليوم لتأمين موارد مائية جديدة
وتواجه الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه معضلة ملوحة الموارد المائية الجوفية لعدد كبير من مناطق البلاد وارتفاع مستويات الحديد بها، وهو ما يفرض على الشركة الحكومية الاستعانة بحلول أكثر تعقيدًا وأغلى تكلفة.
وبعد تردد دام عقودًا لتوسيع نطاق مشاريع التحلية بسبب ارتفاع قيمة الاستثمار وكلفة الماء المنتج، أكدت الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه أن اللجوء إلى تحلية المياه "هو الحلّ الوحيد اليوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتأمين موارد مائية جديدة".
وتساهم محطات تحلية مياه البحر بالإضافة إلى 15 محطة أخرى لتحلية المياه الجوفية بحوالي 5% من مجموع المياه الصالحة للشرب في تونس. وتعمل الحكومة على رفع هذه النسبة إلى 30% بحلول العام 2030.
-
أي تكلفة مادية وطاقية لهذا التوجّه؟
تبلغ تكلفة تحلية متر مكعب واحد من المياه ثلاثة دنانير(حوالي دولار واحد)، وهو ثلاثة أضعاف تكلفة المتر المكعب من المياه المتأتية من السدود، لكن الشركة تبيعه للمواطنين بأقل من سعر التكلفة بكثير (200 مليم فقط للمتر المكعب الواحد للفئات الأقل استهلاكًا) وهو ما يؤثر على التوازنات المالية للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه التي تجاوزت خسائرها المالية 860 مليون دينار. وتبدو هذه التكلفة مرشحة للارتفاع خصوصًا إذا ارتفعت أسعار الطاقة، التي تستخدم في تشغيل محطات التحلية.
وتستحوذ الطاقة على ما يناهز الـ40% من نفقات إنتاج متر مكعب واحد من المياه الصالحة للشرب في تونس. لهذا السبب، تسعى الشركة إلى دراسة إمكانية الاعتماد على الطاقة الشمسية للحد من التكلفة.
تستحوذ الطاقة على ما يناهز الـ40% من نفقات إنتاج متر مكعب واحد من المياه الصالحة للشرب في تونس، لذلك تسعى الشركة إلى دراسة إمكانية الاعتماد على الطاقة الشمسية للحد من التكلفة
وتاريخيًّا، تعدّ تونس من أولى دول شمال إفريقيا التي تمّ فيها اختبار فعالية تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية.
وأجريت العديد من الأعمال البحثية والتجارب في هذا المجال منذ عشرينيات القرن العشرين. وفي عام 1927، تم تصميم جهاز تجريبي لتحلية المياه بالتبخير باستخدام الطاقة الشمسية في تونس قبل أن يتم تركيب جهازين يعملان بالطاقة الشمسية في جنوب البلاد لتزويد القوات العسكرية الفرنسية المتمركزة في المنطقة بالمياه الصالحة للشرب.
وبعد مطالبات مستمرة من الشركة لمراجعة أسعار المياه، رفعت الحكومة التونسية أسعار مياه الشرب بنسبة تصل إلى 16% في مارس/آذار 2024، لمواجهة الشح المائي نتيجة الجفاف طيلة السنوات الخمس الماضية.
ويقع إنجاز محطّة تحلية مياه البحر بالزارات بتقنية التناضح العكسي وهي من أعلى التقنيات تكلفة وأكثرها نهمًا للطاقة، وهو ما يعيد إلى الواجهة آفاق استدامة هذه المشاريع.
يقع إنجاز محطّة تحلية مياه البحر بالزارات بتقنية التناضح العكسي وهي من أعلى التقنيات تكلفة وأكثرها نهمًا للطاقة، إذ تلتهم محطات التحلية التي تعتمد على تقنية التناضح العكسي أكثر من 13 كيلوواط/ ساعة مقابل كل ألف جالون يتم إنتاجه من المياه
وتلتهم محطات التحلية التي تعتمد على تقنية التناضح العكسي أكثر من 13 كيلوواط / ساعة مقابل كل ألف جالون (الجالون يساوي 3.7854 لتر) يتم إنتاجه. كما تتطلب هذه المحطات معالجة مسبقة ومعدات متخصصة وأغشية عالية الجودة، مما يزيد من التكلفة الإجمالية لهذا النوع من المشاريع.
والتناضح العكسي هو عملية ترشيح تزيل الملوثات من الماء باستخدام غشاء شبه نافذ. تتضمن هذه العملية تطبيق الضغط للتغلب على الضغط التناضحي، مما يسمح للماء بالمرور عبر الغشاء مع الاحتفاظ بالمواد الصلبة الذائبة والبكتيريا والشوائب الأخرى.
كشفت دراسة لمجموعة من الباحثين التونسيين أنّ استهلاك الطاقة الكهربائية لمحطة تحلية مياه البحر في جربة يمثل حوالي 14% من إجمالي استهلاك الطاقة الكهربائية في المنطقة
وتوفّر محطات التحلية أقل من 1 في المائة من احتياجات المياه العالمية على الرغم من أنها تستهلك ربع إجمالي الطاقة المستخدمة في صناعة المياه.
وكشفت دراسة لمجموعة من الباحثين التونسيين أنّ استهلاك الطاقة الكهربائية لمحطة تحلية مياه البحر في جربة يمثل حوالي 14% من إجمالي استهلاك الطاقة الكهربائية في المنطقة.
-
التنوع البيولوجي في خطر
لا تقتصر التحديات التي تواجه مشاريع تحلية المياه على الإنفاق الاقتصادي الضخم، بل إن الكائنات البحرية الساحلية قد تدفع ضريبة الآثار الجانبية لهذه المشاريع.
وفي غياب دراسات أثر بيئية متاحة للعموم عن التداعيات البيئية لمشاريع تحلية المياه في تونس، أظهرت دراسة نشرتها مجلة "ساينس" العلمية الأمريكية سنة 2019 أنّه مقابل كل لتر من المياه العذبة المستخرجة من البحر أو المياه المالحة، يُرمى لتر ونصف لتر من الطين المالح في البحر أو على اليابسة.
أظهرت دراسة نشرتها مجلة "ساينس" العلمية أنّه مقابل كل لتر من المياه العذبة المستخرجة من البحر يُرمى لتر ونصف لتر من الطين المالح في البحر أو على اليابسة وهو ما قد يجعل الكائنات البحرية الساحلية تدفع ضريبة الآثار الجانبية لهذه المشاريع
وأرجع الباحث بمركز بحوث تكنولوجيا المياه، حمزة الفيل، هذا الأمر إلى نقص الخبرات في مجال دراسات الأثر البيئية في المجال البحري في تونس، معتبرًا أنه "سينعكس سلبًا على تحديد التأثير المتوقع على التنوع البيولوجي في البحر الأبيض المتوسط".
ويطرح توسيع نطاق محطات تحلية مياه البحر في تونس إشكالات بيئية متعددة، خصوصًا في بلد يواجه تحديات جمة للتصرف في النفايات.
مستشارة السياسات بالصندوق العالمي للطبيعة مروه بن فرج لـ"الترا تونس": الاهتزازات الصادرة عن محطات تحلية مياه البحر قد تخلق اضطرابات ومصادر إزعاج قد تسبب هجرة الكائنات البحرية من ضواحي هذه المحطات
واعتبرت مستشارة السياسات بالصندوق العالمي للطبيعة (منظمة غير حكومية) مروه بن فرج، أن الاهتزازات الصادرة عن محطات التحلية قد تخلق اضطرابات ومصادر إزعاج قد تسبب هجرة الكائنات البحرية من ضواحي هذه المحطات.
وأضافت بن فرج، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن تصريف المواد الكيميائية والمياه شديدة الملوحة الناتجة عن هذه العملية في الوسط الطبيعي يهدّد الأنظمة البيئية والتوازن الإيكولوجي، وقد يتسبب في فقدان الأنواع النباتية والحيوانية المتواجدة"، وفق تصورها.
مستشارة السياسات بالصندوق العالمي للطبيعة مروه بن فرج لـ"الترا تونس": تصريف المواد الكيميائية والمياه شديدة الملوحة الناتجة عن عملية التحلية في الوسط الطبيعي يهدّد توازن الأنظمة البيئية، وقد يتسبب في فقدان الأنواع النباتية والحيوانية المتواجدة
وتطلق محطة تحلية المياه بجربة كمية ضخمة من المحلول الملحي تصل إلى 58 طنًا في اليوم، وفق الدراسة ذاتها. ورغم أن المحطة خططت لتمديد أنابيب طويلة لنقل المخلفات إلى عمق كبير، يدعو نشطاء بيئيون إلى مراقبة تركيبة هذا المحلول الملحي مسبقًا لتجنب تدهور المساحة البحرية.
وتحاول السلطات التونسية تبديد هذه المخاوف من خلال تصريحات بأنّ "نظام ضخ وإرجاع المياه ذات الملوحة العالية يخضع لقواعد علمية ولا يؤثر على الجانب البيئي".
وأشار خبراء تحدثوا لـ"الترا تونس" إلى أنّه يمكن إعادة استخدام الصوديوم والمغنيسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم الناتجة عن محطات التحلية في مجالي الصناعة والزراعة على غرار زراعة الطحالب أو إنتاج هيدروكسيد الصوديوم واستخدامه لمعالجة مياه البحر قبل دخولها إلى محطات التحلية.