03-سبتمبر-2018

تبنى جزء من الإعلام التونسي رواية الحكومة دون بحث وتمحيص (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

شكّلت الإقالة المفاجئة لوزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجدّدة وأربعة من كبار مساعديه من بينهم كاتب الدولة للمناجم، وإلحاق جميع مصالح هذه الوزارة بوزارة الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة مع تشكيل لجنة خبراء لدى رئاسة الحكومة لإعادة هيكلة الوزارة ومراجعة حوكمة قطاع الطاقة وذلك نهاية شهر أوت/أغسطس المنقضي، شكّلت نوعًا من المباغتة الاتصالية من طرف الحكومة ما انجر عنه إرباك واضح في الساحة الإعلامية التونسية.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو: ما رأي المواطن في الإعلام التونسي؟

إذ اكتفى الفاعلون الإعلاميون والصحفيون في الساعات الأولى من صدور البلاغ بمجرّد الإخبار الحذر والذهاب مباشرة لما يمكن أن نسمّيه "الشارع الافتراضي" المعروف بشبكات التواصل الاجتماعي، والاكتفاء بالدردشات الفضائحية السطحية المليئة بالسخرية والتهكم السياسي المبتذل. لم يكن ثمة العمق المطلوب من الأقلام التي بدت متسرعة، وذلك في غياب التناول العميق للخبر وفهم زواياه المتعددة وإحاطته الإحاطة العلمية حتى يفهم المتلقي ما يحدث في كواليس رئاسة الحكومة، خاصة وأنه في صبيحة عملية الإقالة التقى رئيس الحكومة برئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وذلك في محاولة إلى توجيه الرأي العام والتأكيد على نهج مقاومة الفساد، الذي رفع شعاره رئيس الحكومة الحالي منذ توليه السلطة.

 لم يكن ثمة العمق المطلوب من الإعلاميين التونسيين في تناول مسألة إقالة وزير الطاقة وذلك في غياب التناول العميق للخبر وإحاطته الإحاطة العلمية حتى يفهم المتلقى ما يحدث في كواليس رئاسة الحكومة

وهو شعار ثمّنه الإعلام التونسي وروّج له دون توخيه بعض المحاذير المهنية، وقد حمل ذلك على محمل الوطنية والنّبل، في حين أن علوم الإعلام والاتصال والإخبار لا تتوخى هذه المعايير المشحونة بالعواطف، بل تتوخى الموضوعية والدقة العلمية والمهنية العالية سواء في نقل الخبر أو في تحليله فيما بعد. وهكذا، وعلى النحو المذكور، نجحت السياسة الاتصالية للحكومة بشكل من الأشكال، خاصة إذا علمنا أن رئاسة الحكومة عدلت في الفترة الماضية من استراتيجياتها الاتصالية وذلك إثر موجة النقد العنيفة التي تعرضت لها زمن حكومة الحبيب الصيد.

وهنا نفهم أن رئاسة الحكومة وقبل المباغتة بالبلاغ المذكور آنفًا، درست الأمر من جوانب عديدة، ومن أبرزها الجانب الإعلامي والاتصالي. ومن ضمن النقاط التي تم الاشتغال عليها هي وضع "فخاخ اتصالية" قد ينطلي بعضها على الإعلام التونسي، ولعل الطريقة التي سرد بها الناطق الرسمي للحكومة حادثة إقالة وزير الطاقة والطاقم المساعد له تؤكد ذلك. حيث لم تكن الرواية مثخنة بالمعلومات والأسماء والحجج والترابط الزمني، وهذا ما حدث تقريبًا بالاطلاع على التناول الإعلامي، فنسبة وافرة من المقالات والتقارير الإذاعية والتلفزية نحت في اتجاه أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى ملف فساد من الوزن الثقيل في حين أن الملف ظاهره فساد وباطنه تطاحن سياسي بين رئيس الحكومة المتوثب لرئاسيات 2019 والمطالبين بتنحيته وبالخصوص الاتحاد العام التونسي للشغل، وشق كبير من حزبه نداء تونس.

وضعت الحكومة "فخاخًا اتصالية" للإعلام التونسي للإيهام بأن المسألة تتعلق بملف فساد من وزن ثقيل وبتجاوز مسألة التطاحن السياسي بين رئيس الحكومة والمطالبين بتنحيته

أكدت حادثة إقالة وزير الطاقة وبصرف النظر عن مآلاتها السياسية والاجتماعية أنّ هناك هشاشة ما في الساحة الإعلامية ويدركها جيدًا أهل السياسة ويحاولون دائمًا استغلالها لصالحهم. هذا طبعًا إلى جانب الأذرع الإعلامية المحسوبة على بعض الأحزاب وشخصيات سياسية بعينها حيث المصالح السياسوية الضيقة والتجييش للمحطات الانتخابية.

وهو ما يحملنا، في تقديري، إلى تحليل مسألة التعاطي الميدياتيكي مع الملفات الكبرى التي تهم الرأي العام الواسع في مستويين إثنين. يهم المستوى الأول تطوير مهن الصحافة والإعلام والاتصال في مستوى التكوين الأكاديمي والمعرفي، وهو ما يقودنا للحديث عن المحتوى البيداغوجي للمواد التي تُدرّس بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار وشكل الدرس الجامعي وانفتاح هذه المؤسسة الجامعية على الميدان الإعلامي والصحفي وإقامة شراكات حقيقية مع مؤسسات شبيهة في العالم من أجل تطوير المعارف والقيام بتربصات للطلبة. وهذا الأمر من شأنه أن يبني جيلًا من الصُحفيين والإعلاميين والاتصاليين من ذوي المهارات العالية في الجوانب التقنية والمعرفية ولديهم القدرة على التعاطي مع الملفات الكبرى.

اقرأ/ أيضًا: النهاية: هل حان وقت موت الصحافة على يد الإعلام؟

ويأتي، في الأثناء، الدور الذاتي للصحفي والفاعل الإعلامي والاتصالي في تطوير وإعادة بناء القدرات على أكثر من صعيد حتى لا يتم اصطياده ونصب الفخاخ السياسية له من أجل استغلاله والانزياح بالرّسالة الإعلامية إلى منطق "ساعات الرولاكس" كما سمّاها أحد أساتذة الصحافة في تعليق له عن التعاطي الإعلامي مع الأزمة الحالية.

ويتأتى بناء القدرات الذاتية من ناحيتين، تتمثل الأولى في إرادة الصحفي نفسه ودافعيته الداخلية في صناعة مجده الخاص الذي يقوم على اعتقاد الحرية كقاعدة أساسية، ومتابعة المستجدات في العالم والتحلي بروح الاستقصاء والتثقيف في مجال الاختصاص. فيما تتمثل الناحية الثانية في إيلاء المؤسسات الإعلامية بشقيها العام والخاص التكوين العناية الخاصة بجعله من الأولويات وتحفيز الصحفيين والإعلاميين على الانخراط في المسار التكويني.

 يجب تطوير مهن الصحافة والإعلام في مستوى التكوين الأكاديمي من أجل بناء جيل من الصُحفيين والإعلاميين من ذوي المهارات العالية في الجوانب التقنية والمعرفية ولديهم القدرة على التعاطي مع الملفات الكبرى

أما المستوى الثاني لمسألة التعاطي الإعلامي مع القضايا الكبرى، يتمثل، في تقديري، في الدور الأساسي للنسيج الجمعياتي والمنظماتي الناشط في المجال الإعلامي والصحفي باعتباره فضاءً عامًا تتم فيه مناقشة القضايا التي تهم المجتمع. فهذا النسيج الجمعياتي ورغم كثرته في تونس إلا أنّ دوره بدا منحسرًا في إسناد العملية الإعلامية والصحفية، وهو ما لاحظناه بالخصوص في قضية الحال.

إنّ التعاطي الإعلامي مع قضية إقالة وزير الطاقة التونسي ومدى انعكاس ذلك على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبقدر المخاوف التي أحاطت بهذا التعاطي، كانت فرصة لطرح الأسئلة الحارقة بخصوص تكوين وبناء قدرات الإعلاميين والصحفيين، وذلك حتى يكونوا كالأنبياء في مجتمعاتهم يرفعون ألوية الصدق والبحث عن الحقيقة التي تشبه الشمس في سطوعها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حين تطبّع وسائل الإعلام التونسية مع الذكورية..

الإعلام التونسي.. خريف الأزمة يتلو ربيع التعددية