عاد مقترح إرساء المجلس الأعلى للتربية ليطفو على السطح مؤخرًا تزامنًا مع الحملة الانتخابية بمناسبة تعهد رئيس الجمهورية قيس سعيّد في أكثر من مناسبة أن إرساء مجلس أعلى للتربية والتعليم سيكون من أولوياته حال فوزه بالانتخابات القادمة، وقد تعهد، بالخصوص، في المناظرة الرئاسية في الدور الثاني أن هذا المجلس هو موضوع أول مبادرة تشريعية سيقدمها للبرلمان.
دعا قيس سعيّد لإحداث مجلس أعلى للتربية "حتى لا يكون التعليم في مهب الريح في ظل التوازنات بين الأطراف لأن الثروة البشرية لا تنهض إلا بالعلم والمعرفة"
وتطالب جمعيات متخصّصة في مجال الإصلاح التربوي، منذ سنوات، بتأسيس هذا المجلس "حتى لا يكون التعليم في مهب الريح في ظل التوازنات بين الأطراف لأن الثروة البشرية لا تنهض إلا بالعلم والمعرفة" وذلك كما جاء على لسان رئيس الجمهورية قيس سعيّد.
وقد تقدّمت، في هذا الجانب، الجمعية الوطنية للائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية بطلب للبرلمان لتقديم مقترح قانون صاغته لإحداث مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي اطلعت "ألترا تونس" على نسخة منه ووثائق أخرى، وذلك حسب ما أفادنا به رئيس الجمعية الخبير الدولي في تقييم المنظومات التربوية وإصلاحها محمد بن فاطمة.
اقرأ/ي أيضًا: الخبير محمد بن فاطمة: منظومة التربية منهارة ولا بدّ من منهجية للإصلاح (حوار)
ما هي ملامح المجلس الأعلى للتربية كما يحدده الائتلاف المدني؟
يتولى المجلس بحسب ما يحدده مقترح القانون المقدّم" إبداء الرأي وتقديم التوصيات حول السّياسة الوطنيّة للتّربية وفقًا لمتطلّبات التّنمية الاقتصادية والاجتماعيّة والثّقافيّة للبلاد وباعتماد للمعايير الدولية وذلك ترسيخًا لهويّة الشّعب التّونسي العربيّة الإسلاميّة ودعمًا لمكاسبه الوطنيّة وتكريسًا لقيم المواطنة والحداثة والدّيمقراطيّة والكرامة والعدالة والمساواة والخطط التّنفيذيّة وبرامج ومنظومات التّكوين الأساسي والمستمرّ وكذلك منظومات الجودة والرّقابة والتّقييم والمتابعة والاعتماد اللاّزمة لتنفيذ السّياسة الوطنيّة للتّربية والتّعليم".
يتولى المجلس بحسب ما يحدده مقترح القانون المقدّم إبداء الرأي وتقديم التوصيات حول السّياسة الوطنيّة للتّربية وفقًا لمتطلّبات التّنمية الاقتصادية والاجتماعيّة والثّقافيّة للبلاد وباعتماد للمعايير الدولية
ويتولى المجلس 9 مهام أخرى من أجل النهوض بالمنظومة التربوية وتعزيزها منها تقديم التوصيات حول "الدّراسات والبرامج المتعلّقة بتعزيز مكانة المؤسّسة التّربويّة"، و"المعارف والكفايات التي يتعيّن أن يتملّكها التلاميذ في نهاية التعليم الأساسي"، و"الخطط الوطنيّة لرصد ذوي الاحتياجات الخصوصيّة وذوي اضطرابات التّعلّم وصعوباته في مختلف مجالات التّربية والتّعليم والمساهمة في الإحاطة بهم" وحول "أداء المنظومة التّربويّة ونواتج التّعلم كمًّا ونوعًا اعتمادًا على الدّراسات والبحوث الّتي تنجزها لجان المجلس أو مراكز ومعاهد التّقييمات الوطنيّة أو الدّوليّة ذات العلاقة". ويتكون المجلس الأعلى للتربية والتكوين من الهيئة العامّة ومكتب المجلس ولجان حدد مشروع القانون تركيبتها ووظائفها.
وتحدث رئيس الائتلاف محمد بن فاطمة، في وقت سابق، أن وزارة التربية لم تتمكّن من إرساء الإصلاح بصفة وجيهة بسبب ضعف مشاركة المجتمع ومنظمات المجتمع المدني في هذا الإصلاح، إضافة إلى أنه لم يتم الاعتماد على منهجية علمية بالرغم من ظهور منهجيات هندسة الإصلاح التربوي، وفق تأكيده.
أي حاجة لمجلس أعلى للتربية؟
في حديثه مع "ألترا تونس"، أكد رئيس الجمعية التونسية لصعوبات واضطرابات التعلم محمد السندي، أن المجلس الأعلى التربية ليس تجربة جديدة إذ بدأ العمل به في فرنسا منذ سنة 1989 وفي دول أخرى على غرار كندا وغيرها، مشيرًا إلى أهمية الاستنجاد بالخبراء لأن وزارة التربية مكوّنة من موظفين إداريين غير قادرين على وضع البرامج والاستراتيجيات، وفق تأكيده.
وأضاف أن النجاح البيداغوجي يُقيّم بمردوديته ونتائجه مشيرًا إلى أن تونس موجودة دائمًا في أسفل سلم التقييم مكتسبات التلاميذ منذ سنوات بحلولها في المرتبة 65 من ضمن 70 دولة. وقال إن وزارة التربية تتجه إلى عدم المشاركة في هذه المسابقات مستقبلًا وبالتالي سيصبح التعليم في تونس خارج التصنيف، وفق تعبيره.
محمد السندي (رئيس الجمعية التونسية لصعوبات واضطرابات التعلم): الوضع التربوي في تونس كارثي ليس من الناحية الأكاديمية فحسب بل أيضًا على المستوى العلائقي والأخلاقي والتربوي
اقرأ/ي أيضًا: التعليم في خطر: ثقافة "الموازي المدرسي" تهدد المدرسة التونسية
ووصف محدثنا الوضع التربوي في تونس أنه "كارثي ليس من الناحية الأكاديمية فحسب بل أيضًا على المستوى العلائقي والأخلاقي والتربوي لأن المدرسة هي جزء من مؤسسات الدولة ولأن الوزارة تخلت عن دورها بتبسيط الأرقام الخطيرة والمفزعة منها نسبة الانقطاع عن الدراسة وتعاطي المخدرات في صفوف التلاميذ" على حد قوله.
وأكد أن كل ما ذكره " يحث على التفكير في مجلس أعلى للتربية لأن المدرسة هي القاطرة التي ستقود إلى التنمية على كل المستويات الأخرى" معتبرًا أن اعتماد نماذج أجنبية مسقطة على المجتمع التونسي يكون فاشلًا في أغلب الأحيان، وشدد على ضرورة أن يكون الحل تونسيًا بالنظر الى وجود خبراء ومختصين تونسيين على قدر من المعرفة.
كما أعرب رئيـس الجمعية التونسيـة لصعوبات واضطرابات التعلم عن اعتقاده بأن تعطيل انشاء المجلس في تونس هو "قرار سياسي" لأن الأحزاب أدخلت العملية التربوية في التجاذبات السياسية وفق قوله، مضيفًا أن الحديث عن التربية يستحضر بالضرورة الحديث عن هوية وهو ما كانت محل تجاذبات منذ الثورة بين الفرنكوفونين وبين العروبيين من جهة، وبين الإسلاميين واليساريين من جهة أخرى، إذ أن كلّ فريق يرغب في فرض هويته وثقافته وهو خطر يهدد العملية التربوية البعيدة عن هذه المسائل وفق تقديره.
محمد السندي (رئيس الجمعية التونسية لصعوبات واضطرابات التعلم): الأحزاب أدخلت العملية التربوية في التجاذبات السياسية
واعتبر السندي لـ"ألترا تونس" أن التربية هي عملية لا تهم وزارة التربية فحسب بل تهم عدة وزارات أخرى لذلك الحل في مجلس يضم كل المكونات بما فيها التمثيليات التلمذية والطلبة والأولياء، مشددًا أن المنظومات التربوية لا يجب أن يتم فيها الفصل بين مراحل الابتدائي والثانوي والعالي لوجود الاستمرارية فيما بينهما قائلًا "نحن مشكلتنا في تونس في نقص التنسيق بين هذه المكونات وهذه الوزارات".
وأكد محدثنا على أهمية المجلس الأعلى للتربية بالنظر إلى دوره الاستشاري التشاركي لأن وزارة التربية لا يجب أن تستفرد بالقرار الذي يهم الأسرة والمجتمع، ولأن التقييم الصحيح للمنظومة والاقتراحات لا تهم التلميذ فقط لكن تهم أيضًا المعلمين والأساتذة وأن الإصلاح لا يتم فقط للتلاميذ، بل يهم أيضًا الكفاءة البيداغوجية والتواصل الجيد للأستاذ.
وأفاد أن الدور الاستشاري يكون بإبداء الرأي في الفضاء التربوي "حيث يكون مرحّبًا بالطفل خاصة وأن مدرستنا التونسية اليوم منفّرة، وتشمل الأولياء باعتبارهم شركاء في العملية التربوية والمتفقدين والمرشدين التربويين الذي بقي دورهم منحصرًا في دور المردود الأكاديمي للمدرسين".
إصلاح تربوي جديد
وعرفت تونس منذ الاستقلال 3 برامج لإصلاح المنظومة التربوية سنوات 1958، و1991 و2002، كانت كلها تقريبًا بنفس المضامين والأهداف ونفس المنهجية المعتمدة، كما أن نسبة الإنجاز في إصلاحات برنامج 2002 مثلًا انحصرت بين 15 و20 في المائة، وفق ما أفاد به الخبير الدولي في إصلاح المنظومة التربوية محمد بن فاطمة الذي تحدث أيضًا عن تقديم وزارة التربية لمقترح لإنشاء المجلس الأعلى للبرلمان سابقًا تم رفضه لتضمنه عدة إخلالات.
توفر الإرادة السياسية على مستوى رئاسة الجمهورية، في الوقت الحاضر، من المنتظر أن يحدث الفارق ويجعل من إحداث المجلس الأعلى للتربية، الذي طال انتظاره، واقعًا ممكنًا
وخلال جمعية منتدى الأكاديمية السياسية بعنوان "الإصلاح التربوي ضرورة من أجل التنمية" مؤخرًا، أقر المكلف بمأمورية بديوان وزير التربية يوسف التليلي بالفشل في تنفيذ الإصلاح التربوي على مدى 9 سنوات المنقضية، معتبرًا، أن الإصلاح يجب أن يستوعب تشتتت الأطراف المتداخلة في العملية، وقال إن" عدم وجود جهاز واحد يشرف على الاصلاح التربوي يمثل تحديًا، ذلك أن التعليم المنظم تشرف عليه عدة وزارات في مختلف مراحله من طوره المبكر الى غاية التعليم العالي". كما أكد المكلف بمأمورية بالديوان معز بوبكر ضرورة توفر الإرادة السياسية لإجراء الإصلاح التربوي لأنه مكلف.
غير أن توفر الإرادة السياسية على مستوى رئاسة الجمهورية، في الوقت الحاضر، من المنتظر أن يحدث الفارق ويجعل من إحداث المجلس الأعلى للتربية، الذي طال انتظاره، واقعًا ممكنًا، وهو ما سيدفع نحو المضي في إصلاح تربوي بمقاربات مختلفة ومنفتحة على الفضاء العام وشبيهة بالشخصية التونسية من أجل جودة التعليم.
اقرأ/ي أيضًا:
التعليم الديني الموازي في تونس.. لماذا الإقبال عليه؟ وماهي مخاطره؟
صيانة المؤسسات التربوية في تونس: انتفاضة المجتمع المدني وجدل التطوع والمصلحة