24-مايو-2023
حرية التعبير الفن الساخر

مثلت السخرية من الشخصيات والمؤسسات بأسلوب غنائي أو شعري ظاهرة ثقافية وفكرية وسمت حقبات مختلفة من تاريخ تونس (Getty)

 

شباب يواجهون القلق والخوف بنظم الكلمات وضبط الإيقاعات وصنع المعاني وإطلاق الضحكات. اجتمعوا على أريكة يرددون أغنية "الفيل بابار" ذات اللحن الراسب في ذاكرة هذا الجيل. فهزّهم "بابار" إلى عالمهم الجميل وارتفع بهم في سماء الطفولة برواية الفيل الظريف الذي بشّرهم بأن "العالم غير مخيف" وقال لهم إننا "بطبعنا لا نرضى ظلم الضعيف".

 ألحان أغنية استبدلوا كلماتها بما راقهم من عبارات، فمرّة "زارهم الحاكم في الليل وعدّاهم الكل تحليل"  فكان لهم "صرفاق" (صفعة) عظيم بأن اقتيدوا إلى السجن بين يوم وليلة. وكان مع الشباب ما كان من أهل هذا الزمان من معاملة "الإنسان الشريف" من أجل أن يبادروا بالاعتذار عن "الزلل".

لم تستقرّ تونس في تاريخها على نظام واحد فراوحت السلطة السياسية مكانها من "واقع الحرية" بين مدّ وجزر وكتب التاريخ أن السلطة الجائرة هي التي تعرّضت للنقد والتفكّه من أجل تصحيح بعض الأوضاع الخاطئة

ضج العالم بقصة شباب "بابار فيل" من ولاية نابل التونسية وذاع صيتهم في الفضاءات المخصصة للحريات وافتك الشباب رمزية ألحان طارق العربي طرقان وألقوا بكلماتهم في غياهب الصراع من أجل حرية التعبير والإفصاح عمّا في الوجدان.

 

 

لم تستقرّ تونس في تاريخها على نظام واحد ومنهج واحد، فراوحت السلطة السياسية مكانها من "واقع الحرية" بين مدّ وجزر. وكتب التاريخ أن السلطة الجائرة هي التي تعرّضت إلى النقد والسخرية والتفكّه من أجل تصحيح بعض الأوضاع الخاطئة. ومن أجل مقاومة الإحباط ومواجهة الخوف والقلق  كانت السخرية من الشخصيات والمؤسسات بأسلوب غنائي أو شعري ظاهرة ثقافية وفكرية وسمت حقبات مختلفة من تاريخ تونس الحديث.

الكلمات والشعر والأغنيات حين تولد من رحم الشوق إلى العدل والحرية والإنصاف تشقّ الصدور وتصدح بالحقيقة التائهة في أروقة الحكام و تترك أثرًا في الضمير الجمعي المشترك وتتوارثها الأجيال سرًا وجهرًا حتى تصل إلينا شذراتها ونتلقف منها بقاياها الراسبة.

من بين أبرز المنشدين الساخرين الناقدين بدايات القرن الماضي في تونس الشاعر عبد الرحمان الكافي صاحب "الملزومة" الشهيرة التي هزت عرش البايات وزعزعت السلطة وارتجف منها رجال الدين ووجهاء القوم

تفحصت بعض آثار الأوّلين من المنشدين الساخرين الناقدين بدايات القرن الماضي في تونس فعثرت على الشاعر عبد الرحمان الكافي (1885 – 1934)  صاحب الملزومة الشهيرة التي هزت عرش البايات وزعزعت السلطة الاستعمارية وارتجف منها رجال الدين والإدارة ووجهاء القوم. ملزومة شعرية اتسمت ببذاءة اللفظ وتمردت على القوالب الأخلاقية وتطبّعت بالثورية ومثلت صدمة على مر الأزمان حتى يومنا هذا.

 

 

في إحدى الدراسات المنشورة للمؤرخ عبد الواحد المكني، رئيس جامعة صفاقس، يقول عنه: "تحضر في أشعار الكافي ظاهرتان، الأولى هي الحماسة الدعائية الملهبة والثانية هي السخرية والاستهزاء الفاضح. لقد تجرّأ الكافي على السخرية من حكّام ذلك العصر والنيل من هيبتهم بأسلوب خفيّ حينًا وواضح أحيانًا، ومعلوم أنّ السخرية من الحاكميّة تتفاقم في عصر الاستبداد وخنق الحريات فيلجأ المتضلّعون إلى الترميز والنقد بلسان الحيوان وتراثنا العربي زاخر بهذا اللّون، وفي كل قطر عربي يلبس "كليلة ودمنة" ثوبًا محلّيًا شعبيًّا".

المؤرخ عبد الواحد المكني: الشاعر عبد الرحمان الكافي تجرأ على السخرية من حكام تونس بداية القرن الماضي من خلال مواقفه وأشعاره الناقدة للسلطات الاستعمارية

ويضيف عبد الواحد المكني: "عمّمت شهرة عبد الرحمان الكافي مع مرحلة الصحوة الوطنية التي بدأت في العشرينات مع تأسيس الحزب الحر الدستوري ومع تفاقم نشاط التونسيين ضمن التنظيمات الاشتراكية والشيوعية وذاع صيت الكافي من خلال مواقفه وأشعاره الناقدة للسلطات الاستعمارية والتي أصبحت تنشر بصفة دورية في صحف "جحا" و"جحجوح" و"النديم" و"المضحك" وأصبح الكافي يلقي أشعاره في المقاهي الشعبية بباب سويقة والحلفاوين ورحبة الغنم وباب الجديد وقد كان يتجول بين مجالس الأعيان والمثقفين الذين استظرفوه".

ومن بين أشعاره الشهيرة:

أهل الشورى والدبارة رضيتو*** وقت الوباء في قوتنا تراخيتو

آشكون فيكم فالح *** ينفع الأمة ويجلب المصالح

ترضاو شعبكم في المعيشة كالح *** القلِّـيل حاير جايعة ذرِّيتو

رحنا ضعنــــــــا *** بين المناهل من المعاش تمنعنا

أرباب المناصب ليس حد نفعنا *** هذا العجب يا ناس ليس رضيتو

صرنا فضيـــــــحة *** نتأسفو على قوتنا بقريحة

كيلو السميد ناكل عليه طريحة *** وانتم عجبكمشي ما حسِّيتو

آش هالحــــــــــــــالة *** إتكلمو عالحق يا رجَّالة

خيار الحديث يكون دالة بدالة *** إذا عزمتو في الصلاح بديتو

ما تكلُّوشِـــــي *** إتكلمو في الحق ما تذلـُّوشي

ربِّي مع المضطر ما تخافوشي *** هاذي معاني لاش عنها سهيتو

غُلـْو المعاش وفَّانا *** الدولة علينا كانها غضبانة

الظـَّاهر معاها ما عملنا دوانة *** مُحال على السميد وزيتو

(نشرت في جريدة المضحك بتاريخ 12 جوان/يونيو 1920)

 

احتفظت الذاكرة الشعبية التونسية بعديد الأغاني والأشعار التي استنفذت روح المقاومة للمستعمر الفرنسي والسلطة الجائرة في جميع مظاهرها وتشكلاتها المؤسساتية، كما شمل النقد كافة أشكال الحيف الاجتماعي والاقتصادي. ويبقى الفنان صالح الخميسي (1912-1958) علامة فارقة في تاريخ الفن الساخر التونسي والذي عبّر عن "أزمة جيل همّشته شواغل الحياة ومظالم الاستعمار ومآسي الحرب العالمية الثانية، بأسلوب مضحك مبك، ساخر ناقد، خاصّة إذا كان الموضوع مستمدًّا من حياته الشّخصية القلقة في البيت والحانة والسّجن" وفق ما جاء في الموسوعة التونسية المفتوحة.

يبقى الفنان صالح الخميسي (1912-1958) علامة فارقة في تاريخ الفن الساخر التونسي والذي عبّر عن أزمة جيل همّشته شواغل الحياة ومظالم الاستعمار بأسلوب مضحك ومبك وساخر وناقد

 وقد تميّز صالح الخميسي "بروح مرحة وملكة بارعة في الفكاهة والتّقليد غناء وتمثيلًا، حتّى أحرز ثلاثة عشر وسامًا، أهمّها وسام الفكاهة الموسمي. وبسبب نقده السّياسي سنة 1955 سُجن فاعتلّت صحته وألّف أغنيته الشهيرة "في بودفّة"، كما حرمت الإذاعة عليه وعلى أغانيه إثر تهكّمه بسكاتش "الراديو"، فالتجأ إلى بيع الفحم وغنّى: "تدوير الدّم ولا الهمّ م الفنّ لخدمة الفحم".

 

 

 

لم تكن الأغنية النقدية الساخرة للكيانات السياسية والاجتماعية القائمة والشخصيات المسؤولة في الدولة بأقل وطأة في فترة ما بعد الحقبة الاستعمارية الفرنسية فالنظام البورقيبي (1956- 1987) تعرض بدوره إلى موجة من الانتقادات بأسلوب فني غنائي وكذلك بأسلوب ركحي مسرحي وانتشرت موجة "المونولوغ" (حوار يكون قائمًا ما بين الشخصية وذاتها أي ضميرها) وأظهرت الملاهي والسهرات الخاصة والفضاءات العامة قدرة على استقطاب نخبة من الفنانين تمكنوا من إشهار أسلوبهم الهزلي النقدي في تمرير الرسائل السياسية والاجتماعية وانقسمت بين مؤيد للسلطة الحاكمة وبين منتقد لها (المورالي، الجزيري، الجراري، السملالي) ثم أبانت فترة الثمانينات عن جيل جديد صعّدته أحداث 1978 النقابية وأثرته الحركة الطلابية وغذت فيه الروح الشبابية الثورية.

تعرّض بورقيبة إلى موجة من الانتقادات بأسلوب فني غنائي ومسرحي وأظهرت الملاهي والسهرات الخاصة قدرة على استقطاب فنانين تمكنوا من إشهار أسلوبهم الهزلي النقدي في تمرير الرسائل السياسية

ولعلّنا نتذكّر أواخر الثمانينات عندما اهترأ النظام السياسي البورقيبي حينها انتشرت الأشرطة السمعية "الكاسات" وانتشرت معها الأغاني والسكاتشات الهزلية التي تنتقد السلطة وتسخر من الواقع الذي آلت إليه البلاد من قمع للحريات وتمكن آلة الاستبداد من السياسيين المعارضين والمفكرين وتتالي الحملات الأمنية ذات الخلفية السياسية والإيديولوجية وامتلاء السجون بخصوم الحزب الاشتراكي الدستوري.

وفي خضم هذا الشأن، يقول الإعلامي بشير حسني، وهو مؤثث برنامج الخيمة للفن الشعبي بإحدى الإذاعات الخاصة، لـ"الترا تونس": الأغنية الفكاهية في تونس خاصة في بداية الثمانينات عرفت ظهور جيل جديد من "الفوكاهجية" الذين استغلوا أشرطة الكاسيت لترويج أعمالهم ونذكر هنا على سبيل المثال شريط بنديري يا بنديري للمنجي العوني الذي صدر سنة 1982، والذي قدم فيه مجموعة من السكاتشات تنقد ظاهرة الوصولية في المجتمع، وتعبر أغنية "بنديري يا بنديري" عن الشخص الذي يتملق للمسؤول خاصة لقضاء شأن من شؤونه.

الإعلامي بشير حسني لـ"الترا تونس": الأغنية الفكاهية التي كانت تؤثث السكاتشات عبرت عن هموم المجتمع ونقدت عدة آفات اجتماعية رافقت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

وأضاف حسني: ثم جاءت مرحلة مرور الثنائي المنجي العوني ونور الدين بن عياد في برنامج "لو سمحتم" للإعلامي الراحل نجيب الخطاب، الذي قدم فيه الثنائي عدة سكاتشات نقدية لعدة ظواهر في المجتمع مع تقديم أغانٍ فكاهية في ظاهرها هزل وفي باطنها نقد للمجتمع التونسي خاصة في السنوات الأولى بعد التحول السياسي لسنة 1987"، مشيرًا إلى "استبعاد الثنائي من التلفزيون بعد تقديم سكاتش مسمار مصدد".

وتابع أن "الأغنية الفكاهية التي كانت تؤثث السكاتشات سواء في أشرطة الكاسيت أو في المنوعات التلفزية عبرت عن هموم المجتمع ونقدت عدة آفات اجتماعية رافقت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، واضمحلت نهائيًا من المشهد الغنائي التونسي وبذلك تركت فراغًا رهيبًا ملأه مغنّو الراب"، وفق تقديره.

زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي انتشرت الأغنية الفكاهية الهزلية، لكنها اصطدمت بالسلطة الاستبدادية النوفمبرية حتى بات إعلانها نشاطًا ملعونًا لدى السلطة وموجبًا للعقاب. وظهرت أصوات جريئة من هنا وهناك تملقت حينًا وتجرّأت أحيانًا وبلغت أوجها مع "الهادي أولاد باب الله" الذي تجرّأ على انتقاد بن علي وأصهاره في سهرات عائلية خاصّة ظهرت للعلن في شكل تسريبات صوتية للحفل تم على إثرها إيقافه وتلفيق تهم له باستهلاك مخدر.

زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي انتشرت الأغنية الفكاهية الهزلية، لكنها اصطدمت بالسلطة الاستبدادية النوفمبرية حتى بات إعلانها نشاطًا ملعونًا لدى السلطة وموجبًا للعقاب

ثم كان الموعد الفارق في الأغنية الثورية التهكّمية مع بروز فن الراب قبيل ثورة 14 جانفي/يناير 2011 وبرزت خاصة في تلك الجرأة التي أبداها حمادة بن عمر الملقب في الوسط الفني بالجنرال واشتهرت أغنيته "رئيس البلاد" التي كان مطلعها:

"رئيس البلاد شعبك مات

 برشة عباد من الزبلة كلات

هاك تشوف آش قاعد صاير في البلاد

مآسي بارتو وناس ما لقاتش وين تبات

هاني نحكي باسم الشعب اللي تظلمو واللي نداسو بالصباط

وينها حريّة التعبير؟

 ريت منها كان الكلام

سمِّيتو تونس بالخضراء رئيس البلاد هاك تشوف

اليوم البلاد ولّات صحراء مقسومة على زوز الطروف

سرقات بالمكشوف بالغورة ملكو البلاد"

 

الثورة التونسية كانت علامة فارقة في تاريخ تونس وعمت أجواء استثنائية من الحرية بلغت مداها الأبعد وكانت محل اهتمام داخلي وخارجي؟ وبقدر ذاك الانفتاح على الأجواء الديمقراطية بقدر انتشار الأغنية الهزلية السياسية التي تنتقد الرؤساء والحكومة والسلطة السياسية والهياكل الإدارية علنًا وبجميع الوسائط المكتوبة والمسموعة والبصرية والإلكترونية ونتطرّق هنا على سبيل الذكر لا الحصر أغاني "كافون" و"كلاي بي بي جي" والقلابس (على القنوات التلفزية) والسكتشات والمسرحيات حتى بات انتقاد السلطة تقليدًا ممتعًا داخل ديمقراطية ناشئة.

تاريخ 25 جويلية/يوليو 2021 كان بدوره ارتدادًا على تلك الحرية كما حدث في مراحل عديدة من تاريخ تونس وأسهم القانون عدد 54 في تراجع منسوب الحريات بشكل مباشر وخفتت الأصوات الصاخبة التي تعالت على مدى 12 سنة التي مضت وبات الصمت يتسلل في أركان المجتمع إلا من بعض الحناجر مثل أحمد بن أحمد الملقب بـ"كلاي بي بي جي" في أغنية "ملزومة2"، و لعل قصة "شباب بابار فيل" إحدى الحلقات الهامة التي كشفت عن تدخل السلطة والوظيفة في تقييد حرية التعبير رغم ما أبداه رأس السلطة التنفيذية من حمايته للحريات في أكثر من محفل.