يمضي (و.ب) ذو الاثنين وأربعين ربيعًا، يومه في الشغل في انتظار موعده القار في إحدى حانات العاصمة، حيث اختار أن يخفّف عبء ما يعانيه من ضغط بشرب بضع قوارير من الجعّة "ليستطيع العودة لمنزله وملاقاة زوجته وابنه".

ورغم أنّ هذه العادة تأتي على ما في الجيب وتخرج ما فيه من عيب، إلّا أنّه لم يستطع التخلّي عنها ويذهب "منوّمًا" ليلاقي رفقاء "محنته"، كما وصفها لـ"ألترا تونس".

وجد جزء مهم من الشعب التونسي في الكحول والخمور على اختلافها ملجأ إمّا للترفيه أو للهروب

تزايد استهلاك (و.ب) للكحول بعد ولادة طفله حيث أحسّ بتضاعف حجم مسؤوليّاته ولم يستطع مجاراة النسق الجديد الذي أضحى يؤرّق حتى نومه، فكانت "البيرة" سبيله الوحيد ليتأقلم مع حياته كأب وزوج.

ولا يختلف محدّثنا، عن جزء مهم من الشعب التونسي، الذين وجدوا في الكحول ملجأ إمّا للترفيه أو للهروب. وقد كان حجم استهلاك التونسيين للجعة 176 مليون لتر سنة 2021 ممّا جعل شركة صنع المشروبات بتونس، حسب موقع "البورصة"، تحقّق رقم معاملات قدره 731.8 مليون دينار.

فما هي أسباب ارتفاع نسبة استهلاك الكحول لدى الشعب التونسي؟ ومن هي الشخصيّات الأكثر عرضة للجوء للكحول عند الأزمات؟، أسئلة يجيب عنها "ألترا تونس" في هذا التقرير.

حجم استهلاك التونسيين للجعة 176 مليون لتر سنة 2021 ممّا جعل شركة صنع المشروبات بتونس تحقّق رقم معاملات قدره 731.8 مليون دينار

اقرأ/ي أيضًا: النبيذ التونسي.. رسالة "ماغون" إلى العالم

• باحث في علم الاجتماع: "استهلاك الخمر ليس حقًا بل منّة من السلطات"!

يرى الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير أن ارتفاع نسبة استهلاك الكحول يعود لعدة أسباب، من أهمها تأزم الحالة النفسية والاجتماعية للعديد من التونسيين، إضافة لارتفاع نسبة التشاؤم لدى الشباب والذي يعتمد بعضه استراتيجية خاصة للهروب من الواقع عبر شرب الخمور، مضيفاً "أن الكثير من الناس الذين يعانون من الضغوطات الحياتية والمشكلات في العمل يبحثون عن طرق مختلفة من خلالها يستطيعون الهروب من المشاكل، والانفصال عن الواقع، ومن بين تلك الطرق تناول الكحول، والدخول في حالة بعيدة نسبياً عن المشاكل".

ويؤكّد بن نصير لـ"ألترا تونس" أنّ الأسرة تعد واحدة من العوامل الرئيسية لجعل الفرد يُقبل على إدمان الكحول، ففي حالة الأسرة المتماسكة، والتي تحرص على اتباع القيم والمبادئ، إلى جانب متابعة الأبناء ومراقبتهم وتنشئتهم تنشئة سليمة، تجد أفرادها بعيدين كل البعد عن تناول الكحول وتعاطيه، أما بالنسبة لتلك الأسرة المفككة، فإن دورها سلبي تجاه الأبناء، حيث أنها تغفل عن رعايتهم، وتجد الأفراد فيها أكثر عرضة لتناول الكحول وتعاطيه، على حدّ تعبيره.

ويعتبر محدثنا أنّ الظروف المادية مهمة جدًا لفهم خلفيات ظاهرة شرب الكحول "البديلة"، فأسعار المشروبات الكحولية "القانونية" المصنوعة في تونس وإن كانت "معقولة" مقارنة بالأسعار في العالم فإنها مرتفعة مقارنة بالمقدرة الشرائية للتونسيين، خاصة الفقراء منهم. 

باحث في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": الكثير من الناس الذين يعانون من الضغوطات الحياتية والمشكلات في العمل يبحثون عن طرق مختلفة من خلالها يستطيعون الهروب من المشاكل، والانفصال عن الواقع، ومن بين تلك الطرق تناول الكحول

ويطرح الباحث في علم الاجتماع بعدًا آخر للموضوع، إذ يرى أنّه قانونيًا لا يحق للتونسيين المسلمين اشتراء المشروبات الكحولية، مستشهداً بنصّ الفصل 317 من المجلة الجزائية (التي تعود لسنة 1913) والذي يقرّ بمعاقبة "الأشخاص الذين يناولون مشروبات كحولية لمسلمين أو لأناس بحالة سكر" بالسجن لمدة 15 يومًا ودفع غرامة مالية، مشيرًا إلى وجود نصوص قانونية أخرى تقيّد "حركة" المشروبات الكحولية خارج الحانات والأماكن السياحية. ويعتبر معاذ بن نصير أنّ هذه القيود لا تقلل من الكميات المستهلكة ولا تزيد في منسوب التقوى والأخلاق الحميدة، لكنها تخلق بيئة خصبة للفساد، على حدّ قوله.           

اقرأ/ي أيضًا:  "هنا يباع الخمر خلسة".. حينما يتحدى باعة الخمر الأمن وكورونا معًا                                          

ويؤكد بن نصير أن تجارة الخمور مربحة سواء للدولة أو للباعة وأنّ الحصول على رخصة للبيع يعدّ خطوة على طريق الإثراء، ويستطرد أنّ هذه الرخص لا تمنح بصفة آلية عند تقديم مطلب مكتمل الشروط، فالسلطات المختصة تماطل وتقتّر الرخص بشكل مزاجي، على حدّ قوله.

معاذ بن نصير لـ"الترا تونس": القيود القانونية لا تقلل من الكميات المستهلكة من الخمور ولا تزيد في منسوب التقوى والأخلاق الحميدة، لكنها تخلق بيئة خصبة للفساد

ويختم بن نصير حديثه قائلاً "ربح كبير وسهل مقابل رخص قليلة وصعبة المنال، لا يحتاج الأمر للكثير من الذكاء لنفهم ما ينتجه هذا الوضع: رشاوى ضخمة واستغلال نفوذ وشبكات زبائنية. والسماح للمواطنين التونسيين المسلمين باستهلاك الخمر ليس حقًا بل "منّة" من السلطات يمكن أن تستردها في أي وقت. ويمكن لأجهزة الأمن أن تضايقك وتضيق عليك شراء واستهلاك الكحول (خارج أماكن الاستهلاك المحددة) بعدة أشكال وفي أي وقت وفي إطار القوانين الفضفاضة".

اقرأ/ي أيضًا: حزب تونسي يطالب بإلغاء التضييقات على بيع المشروبات الكحولية

• أخصائي نفسي: شرب الكحول يعتبر تقنية فعّالة للتخلص من الاكتئاب وقتيًا 

بحكم طبيعة المجتمع التونسي تاريخيًا كمجتمع تعرض للعديد من الغزوات وتلاقح مع العديد من الحضارات وأضف إلى ذلك الوضع الراهن المتسم بصعوبة التكهن بالمستقبل وتوالي الأزمات والهنات على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي فإن المزاج المهيمن هو الإحباط وعدم القدرة على المواجهة، وتعتبر كل هاته الظروف مناخًا خصبًا لزيادة شرب الكحول. 

وفي هذا السياق، يؤكّد الأخصائي النفسي كريم اليعقوبي أنّ سلوك الاستهلاك بطريقة مستمرة ومنظمة محكوم بعدّة عوامل أهمّها الجانب النفسي الذي يعتبر مؤشرًا على رؤية معينة للواقع وكيفية التفاعل معه لدى البعض، مشيرًا إلى أنّ شرب الكحول يعتبر سلوكًا اجتماعيًا من دونه لا يتمكّن بعض الشباب من الاندماج في مجموعة تنظر إليهم بطريقة إيجابية وبالتالي الكحول هي السبيل الوحيد لتحقيق مكانة اجتماعية تخوّل لهم التموقع في محيطهم الضيق. 

أخصائي نفسي لـ"الترا تونس": شرب الكحول يعتبر سلوكًا اجتماعيًا من دونه لا يتمكّن بعض الشباب من الاندماج في مجموعة تنظر إليهم بطريقة إيجابية ولتحقيق مكانة اجتماعية تخوّل لهم التموقع في محيطهم الضيق

ويضيف كريم اليعقوبي لـ"الترا تونس" أن هذا السلوك يندرج ضمن المؤثرات التي تساعد على مواجهة وضعيات حرجة على المستوى النفسي والاجتماعي، مستندًا إلى بعض الدراسات التّي تقرّ أن أخذ قرار عيش تجربة حميميّة يكون أسهل عندما نكون في حالة انتشاء لكن استهلاك كميات عالية من الكحول خلال العلاقة الحميميّة تكون أقل متعة وتؤثر سلبًا على القدرات الجسدية خاصة بالنسبة للرجال. 

اقرأ/ي أيضًا: "أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة

وعن الشخصيّات الأكثر استهلاكًا للكحول، يفسّر اليعقوبي أنّ هذه الفئة لها خصائص شخصية "قلقة" «personnalité anxieuse»  يكونون في حالة من الضغط العالي دون معرفة الأسباب الحقيقية وليست لهم القدرة على مواجهة الواقع فيلجؤون للكحول للهروب وقتيًا من الضغط والشعور بالارتياح على المستوى الذهني، مضيفاً أن درجة الانتشاء عندهم مرتبطة بحدّة الضغط التي يمكن أن تصل إلى حد عدم القدرة على التحكم في النفس. 

كريم اليعقوبي لـ"الترا تونس": شرب الكحول يعتبر تقنية فعّالة للتخلص وقتيًا من الاكتئاب لأنه يحفز إفراز مادة الدوبامين التي تساعد على الشعور بالسعادة لكن سرعان ما تعود الأزمة مضاعفة كلما استيقظ الفرد من حالة الانتشاء 

ويشير محدّثنا إلى نوع آخر من المستهلكين الذين يعتبرون شرب الكحول وسيلة للوصول إلى المتعة أو الهروب من الروتين أو المعاناة اليومية، فتتحرك عندهم حاسة الشم في البداية وتليها حاسة التذوق ثم تتغير مؤشرات الإدراك لدى الفرد لتترجم الحواس إلى مشاعر وأحاسيس في الاتجاه المطلوب ومن هنا يحصل التعود وربط شرب الكحول بحالة من السعادة والانتشاء، على حدّ تعبيره.

ويؤكّد اليعقوبي أنّ الإشكال في هذه الحالة الثانوية المفتعلة بشرب الكحول لا تدوم طويلاً وتنتهي بانتهاء مفعول الكحول وبالتالي تليها حالة من الإحباط لأنها ليست مبنية على أسباب واقعية وعند العودة للحياة يرتطم المستهلك بالواقع فتحتد عنده الأزمة ويرغب في إعادة التجربة، مضيفًا أنّ شرب الكحول يعتبر تقنية فعّالة للتخلص وقتيًا من الاكتئاب لأنه يحفز إفراز مادة الدوبامين "dopamine" التي تساعد على الشعور بالسعادة لكن سرعان ما تعود الأزمة مضاعفة كلما استيقظ الفرد من حالة الانتشاء وهذا ما يفسر السلوك الإدماني على الشرب.

وفي ختام حديثه، يقول كريم اليعقوبي إنّه  بقدر ما نشرب بقدر ما تعلو حالة الانتشاء بقدر ما تصبح الأزمة النفسية أقوى في حالات اليقظة، وفقه.

اقرأ/ي أيضًا:

أنيس حبيب.. شغف "الجعة الحرفية" قاده إلى الأرجنتين ليعود محملًا بحلم

هل تونس حقًا الأولى عربيًا والخامسة عالميًا في استهلاك الخمور؟