24-يونيو-2023
زياد الهاني

لم تعد تونس نموذجًا لحرية الصحافة في المجال العربي، بل تحوّلت إلى مثال سيء عن انتكاسة لا تزال للآن لا يُعلم مداها (صورة فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

قدّم الصحفي زياد الهاني، في برنامج إذاعي، تفسيرًا قانونيًا لجريمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، التي تكثّفت إثارة عديد القضايا على أساسها مؤخرًا، ليُلقى عليه القبض ويُقتاد من منزله إلى مقر فرقة مكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصال للحرس الوطني بالعوينة، ثم تم منع المحامين من الدخول لمقرّ الفرقة بتعلّة أن "المشتبه به" يريد سماعه دون حضور محامين والحال أنه أعلم زوجته وصديقه الذي كان يرافقه حين القبض عليه بلزوم إعلام أصدقائه المحامين للالتحاق به.

ما حصل مع زياد الهاني من إيقاف ومنع حضور محامين وغير ذلك..  أ ليس هذا "المسلسل" هو الأمر الموحش بحق؟

تباعًا أصدرت النيابة العمومية بشأنه إذنًا بالاحتفاظ، وفي اليوم الموالي تم منع المحامين من مقابلته كما يسمح القانون، إذ اشترطت النيابة مقابلته من محام وحيد فقط، وهو شرط غير شرعي تم رفض الاستجابة له تمسكًا بلزوم تطبيق القانون دون عرقلة أو تقييد. لاحقًا وفي اليوم الثالث، أخلت النيابة العمومية سبيل زياد الهاني. أليس هذا المسلسل سيئ التنفيذ والإخراج هو الأمر الموحش بحق؟

 

 

أثار إيقاف الهاني لمدة يومين من أجل تعليقه الصحفي موجة استنكار واسعة باعتباره شاهدًا جديدًا على انحدار واقع ممارسة الحريات في تونس ومنها حرية الصحافة. فقبله، تم استدعاء كل من الصحفيين منية العرفاوي ومحمد بوغلاب وهيثم المكي وإلياس الغربي لبحثهم كـ"مشتبه بهم" بارتكاب جرائم، على خلفية مقالات صحفية وتعليقات إخبارية، تارة يكون الشاكي وزيرًا وتارة نقابة أمنية.

أثار إيقاف الهاني لمدة يومين من أجل تعليقه الصحفي موجة استنكار واسعة باعتباره شاهدًا جديدًا على انحدار واقع ممارسة الحريات في تونس ومنها حرية الصحافة

ويكشف مسارعة النيابة العمومية لإثارة تتبّع ضد صحفي لتعليق صحفي حرّ لم يتضمن أي جُرم، عن حالة إسهال في إثارة التتبعات القضائية ضد أصحاب الرأي في تونس. ولكن هل صدر القرار من جهة قضائية فقط؟ لا يُرجح ذلك. هذه "الفضيحة القضائية" كما وصفها الهاني بعد إخلاء سبيله لم تكن إلا بطلب أو توجيه سياسي.

 

 

لا يمكن تصوّر أن النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس "تغامر"، باجتهاد قضائي بحت، في طلب تتبّع الصحفي على تعليقه، خاصة وأن "المظنون فيه" من الوجوه الصحفية البارزة، وهو من المساهمين في صياغة مرسوم الصحافة عدد 115 سنة 2011، وهو حاليًا كاتب عام الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية. هذه نتيجة وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء، وآخر مظاهر ذلك تسمية وزيرة العدل لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس.

هذه "الفضيحة القضائية" كما وصفها زياد الهاني بعد إخلاء سبيله لم تكن إلا بطلب أو توجيه سياسي

والغاية الحقيقية من إيقاف الهاني لمدة يومين، مع العلم أنه لم يتحدد بعد مآل الملف إما بالحفظ وإما بإحالته على القضاء، هو بث مناخ من الخوف والترهيب ليس بالنسبة إليه فقط، وهو المعلوم بمواقفه الحاسمة وبصوت عال في مواجهة عبث السلطة، ولكن أيضًا في صفوف الصحفيين والناشطين في الفضاء العام إجمالًا.

تؤكد التتبعات القضائية المتسارعة ضد الصحفيين بالخصوص على وجود سعي لتقليص مساحة ممارسة حرية الرأي والتعبير، ودفع الصحفيين لممارسة رقابة ذاتية خشية من تتبّعات وإيقافات في إطار النفق السلطوي الذي دخلته البلاد زمن "الصعود الشاهق غير المسبوق في التاريخ"، كما يشدو الرئيس. 

تؤكد التتبعات القضائية المتسارعة ضد الصحفيين على وجود سعي لتقليص مساحة ممارسة حرية الرأي والتعبير، ودفع الصحفيين لممارسة رقابة ذاتية خشية من تتبّعات وإيقافات في إطار النفق السلطوي الذي دخلته البلاد

إيقاف زياد الهاني تزامن مع تعيين المكلفة بتسيير التلفزة العمومية منذ نحو عامين رئيسًا مديرًا عامًا للمؤسسة وذلك بعد إثبات ولائها و"انخراطها" في المشروع الرئاسي بعد أن تحوّلت التلفزة التونسية، والمموّلة من دافعي الضرائب، إلى بوق للسلطة، بإقصاء المعارضين من البرامج السياسية.

تعيش الصحافة التونسية محنة عكسها تراجع ترتيب تونس إلى المرتبة 121 من جملة 180 بلدًا في الترتيب السنوي لحرية الصحافة عام 2023 بعد أن كانت في المركز 73 عام 2021، وتراجعت تباعًا من الصدارة العربية إلى المركز الخامس. لم تعد تونس نموذجًا لحرية الصحافة في المجال العربي، بل تحوّلت إلى مثال سيء عن انتكاسة لا تزال للآن لا يُعلم مداها.

 

 

مهزلة إيقاف زياد الهاني لمدة يومين تكشف عن حجم الفظاعات التي باتت تشهدها البلاد بشكل يومي، فيما يتعلق بمؤشرات الانتكاسة الحقوقية وتدهور واقع ممارسة الحريات. إطلاق سراحه لم يكن إلا محاولة للتدارك بعد أن تبيّن أن الجريمة هي تعليق صحفي مضمونه قراءة لجريمة ارتكاب أمر موحش ضد الرئيس.

هو نفسه الرئيس الذي ارتكب الأمر الموحش الأكبر بخياره أن يقرّر لوحده مصير البلاد وأن يستفرد لوحده بكتابة دستورها بعد أن حلّ المؤسسات الشرعية واستهدف بشكل ممنهج المكاسب الحقوقية. هو نفسه الرئيس الذي أعاد البلاد من جديد إلى نادي بلدان الرعايا لا المواطنين. 

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"