مقال رأي
في تونس، كان الانتباه مبكرًا إلى العلاقة المتأكدة بين "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين" على معنى أنّ الاستبداد والاحتلال وجهان لحقيقة واحدة فضلاً عن كونهما العائق الأساسي في سبيل بناء المجال العربي كيانَه السياسي على غرار المجالين الجارين التركي والإيراني.
هذه الحقيقة/الخلاصة بدأت تُطل من كتابات بعض الكتاب والأكاديميين في المشرق العربي في سياق طوفان الأقصى وآثاره الإقليمية والدولية الخطيرة مع أنّه لم يكن متعسّرا الانتباه إلى بديهة الجموع المنتفضة يوم 14 جانفي/يناير 2011 وهي تجمع في هتافها بشارع الثروة بين "تحرير فلسطين" و"إسقاط النظام".
في تونس، كان الانتباه مبكرًا إلى العلاقة المتأكدة بين "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين" على معنى أنّ الاستبداد والاحتلال وجهان لحقيقة واحدة فضلاً عن كونهما العائق الأساسي في سبيل بناء المجال العربي كيانَه السياسي
ولئن كان المعني المباشر بالإسقاط هو نظام الاستبداد العربي لما يمثّله من قهر سياسي وظلم اجتماعي فإنّ تمدّد الربيع عربيًا ووصول صداه إلى كبرى عواصم العالم أجْرَأ نشطاء "ديكولونياليين" في نيويورك على رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" يوم 17 سبتمبر /أيلول 2011 في وول ستريت رمز العولمة والنظام الرأسمالي العالمي. وعنهم انبثقت حركة "احتلّوا وول ستريت" (Occupy Wall Street) في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
ملاحظة أساسية
الدرس الذي وجب استخلاصه ليس في تلازم المهمّتين وقد صار هذا التلازم أشبه بالمسلّمة والمعطى السياسي الذي لا غنى عنه في تشخيص المشهد العام وفهم المواقف والمآلات وإنّما في ضرورة تزامنهما حتّى تتكامل شروط التحرر والتحرير.
وأهمية تزامنهما مستخلصة من خلال مرحلتين برز في الأولى منهما عنوان "إسقاط النظام" وقد تجسّد في انهيار خمسة أنظمة استبداد عربي في أتون الربيع وشارعه الهادر وميادينه الثائرة.
وبرز في الثانية عنوان "تحرير فلسطين" مع طوفان الأقصى وهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وزلزاله الذي ما يزال يهز العالم، غير أنّ أثره توقف عند حدود الشارع العربي وركوده المتواصل. فما عرفته الحرب على غزة من فظاعات.
اندلعت الثورة في 2011 وكانت القضية الفلسطينية ملفًا شبه مطوي في متاهة أوسلو، وإن ركن ما سُمِّي بالمبادرة العربية جانبًا من قبل نتنياهو الذي كان يحث الخطى نحو مشروع "يهودية الدولة" تزامنًا مع صعود اليمين المتطرف وما ارتبط به من رفض جذري لفكرة الدولتين.
اندلعت الثورة في 2011 وكانت القضية الفلسطينية ملفًا شبه مطوي في متاهة أوسلو، وحين انفجر الطوفان كان الربيع العربي قد صُفّي تقريبًا
وحين انفجر الطوفان كان الربيع العربي قد صُفّي تقريبًا بتحويل الثورة إلى حرب أهلية في بعض السياقات (سورية، اليمن، ليبيا) والانقلاب على ما نجح منها إلى الانتقال نحو بناء الديمقراطية (مصر، تونس).
ولم يمض عقد على الثورة حتى كانت الثورة المضادة بقيادة الصهاينة العرب تنجح في العصف بسقوف الحرية العالية التي أقامتها الثورة وتعيد عقارب السياسة إلى الوراء وتفسح المجال لظهور أنظمة تبدو في منتهى الضحالة مقارنة بأنظمة الاستبداد العربي التي قامت عليها الثورة. ومعها انفتح باب نظام التفاهة على مصراعيه. وبدا واضحًا أنّ نظام الاستبداد العربي غير قادر على إعادة إنتاج نفسه وأقصى طموحه إفساد ما بني على طريق تأسيس الديمقراطية والعبث بما بقي من مؤسسات الدولة وعائداتها المالية.
لم يمض عقد على الثورة حتى كانت الثورة المضادة بقيادة الصهاينة العرب تنجح في العصف بسقوف الحرية العالية التي أقامتها الثورة وتعيد عقارب السياسة إلى الوراء
الحرب على غزة
من المهم التذكير في كل مرة بأن الحرب على غزة حربان: حرب الطيران وهي حرب يشنها سلاح طيران جيش الكيان على المدنيين وعلى مدينة غزة وأبنيتها وكل بنيتها التحتية، وحرب الميدان التي يتواجه فيها جيش الاحتلال مع كتائب القسام وسائر فصائل المقاومة.
وتدخل الحرب على غزة يومها الـ87 وقد تم تدمير أكثر من 70% من مدينة غزة. وبلغ عدد الضحايا بين شهيد وجريح ومفقود ما يقرب من المائة ألف في مجتمع يمثل الأطفال نسبة 50% منه. وتشير مصادر غربية وأمريكية إلى أنّ ما صبّ من حمم القنابل الثقيلة والمتفجرات المرعبة يفوق حجم قنبلتين نوويّتين وهو ما يقرب من 60 ألف طن من أسلحة الدمار الشامل.
في غزة، غدا تحقيق الهدف المرسوم (القضاء على حماس وتحرير الأسرى) أبعد منالاً كلما طالت الحرب. وبدا جيش الاحتلال تائهًا وهدفًا سهلاً لنار المقاومة وقناصيها
هذا وجه من وجهي الحرب التي تشن على غزة، وهو الوجه الذي يحاول الكيان وشركاؤه في الجريمة والعدوان التغطية على فظاعته وبشاعة ما ارتكب من استهداف للمدنيين العزّل وقتل كل أسباب الحياة فضلاً عن أنّ المدينة التي تفتقد إلى الماء والغذاء والدواء مهددة بالمجاعة وتفشي أخطر أنواع الأمراض والأوبئة نتيجة الحصار وصورة عن استهداف مشافي غزة ومراكزها الصحية التي وقد أخرج جلّها عن الخدمة.
وأمّا الوجه الثاني للحرب على غزة فيتمثل في المواجهة الميدانية المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويمكن تلخيصها في النتيجة التي حققتها المقاومة بصمودها الأسطوري: تهشيم جيش الاحتلال الصهيوني. وهي نتيجة في غاية الخطورة يدركها نتنياهو الهارب من خطر إيقاف حربه على غزة، فمصيره السياسي والشخصي مرتبط باستمرار الحرب.
وليست الولايات المتحدة أقل إحساسًا بالخطر وبعمق الورطة من نتنياهو إذ غدا تحقيق الهدف المرسوم (القضاء على حماس وتحرير الأسرى) أبعد منالاً كلما طالت الحرب. وبدا جيش الاحتلال تائهًا في دروب غزة وهدفًا سهلاً لنار المقاومة وقناصيها المَهرة. وغدت دبابات الميركافا وحاملات النمر والجرافات العملاقة سلاحًا هشًّا ومرمى قريبًا رغم ما غطّاها من جلاميد الفولاذ وطبقات الحديد الصلب وأجهزة الرصد والإنذار والرد الآلي السريع.
جيش الاحتلال الصهيوني انكسر بلا ريب، ورغم توغله في أعماق غزة شمالاً وجنوبًا إلاّ أنّه عجز عن تأمين مربعات ثابتة تكون قواعد له يضمن بها السيطرة على المدينة لضرب قاعدة المقاومة وبنيتها العسكرية القيادية واللوجستية والوصول إلى تحرير أسراه.
تحتاج غزة إلى الشارع العربي البارد قياسًا إلى شوارع العواصم الكبرى في أوروبا وتحركها الدوري الهام بمطلب واحد هو إيقاف العدوان والحصار على غزة والحرية لفلسطين
وبسبب إدراكه هذه الحقيقة الميدانية لم يبق أمامه إلا الدفع بأكثر ما يمكن من الألوية في جنوب غزة خاصة (7 ألوية في خانيونس) في رهان غير مضمون على العدد وقوة التسليح وصلابته.
ومن جهتها تعي المقاومة أنّ شروط انتصارها فلسطينية بالأساس وأنّ شرطها الأقوى "وحدة الساحات" (غزة، الضفة، الداخل) بما هو نقل لنموذج غزة الكفاحي إلى الضفة والداخل، ولكنها في الآن نفسه في حاجة إلى الشارع العربي البارد قياسًا إلى شوارع العواصم الكبرى في أوروبا وتحركها الدوري الهام بمطلب واحد هو إيقاف العدوان والحصار على غزة والحرية لفلسطين (Free Palestine).
هل للصمود حدود؟
تُدرك المقاومة أكثر من غيرها أنها تواجه في حربها مع الكيان المحتل حلفًا عالميًا بقيادة الولايات المتحدة يملك المال والسلاح وكل أسباب القوة في المنطقة والعالم. مثلما تدرك الحصار المضروب عليها منذ 17 واشتد بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول ليسبح عملية كان أنفاس.
والمقاومة تعرف قدراتها جيدًا، وتعرف أنّها بعد حوالي ثلاثة أشهر من المواجهة الضارية كسبت رهان المعركة البرية ولئن نجحت في وضع الأسوأ وراءها فإنّ أسوأ العدو أمامه وهو ما ينتظره من انهيارات متوقعة سواء في مستوى البنية العسكرية أو في مستوى الحياة السياسية وانقساماتها والحياة الاقتصادية وأزمتها الهيكلية المتفاعلة.
ومع ذلك فإنّ ضعف ردّ الفعل الشعبي في المحيط العربي وميل الشارع إلى الدعة وانتظار نتيجة المعركة فيما يشبه متابعة شيقة لمنافسة رياضية يمثل عامل خذلان وتأخر عن الإسناد والإنجاد. وقد طفا هذا الشعور بالخذلان وقلة الناصر على خطاب القيادة الميدانية للمقاومة في ظهورها الدوري.
إنّ ضعف ردّ الفعل الشعبي في المحيط العربي وميل الشارع إلى الدعة وانتظار نتيجة المعركة فيما يشبه متابعة شيقة لمنافسة رياضية يمثل عامل خذلان وتأخر عن الإسناد والإنجاد
وهو إسناد لو كان على الوجه المطلوب لأمكن للمقاومة أن تختصر الطريق وتقلّص من التكلفة وضريبة الصمود من الأنفس والثمرات.
وهو إسناد لن يخرج ضرورة عن الربط بين الدفاع عن الحرية والانتصار لفلسطين. وأنّ العمل على تحرير مربع من مربعات الحرية انتصار فعلي للحق الفلسطيني وللمقاومة وغزة الشهيدة.
الإحساس بتخاذل الأقربين لم يفُتّ في عضد المقاومة، ويبدو أنها مثلما درست جيدًا وضع العدو والمرحلة التي يمر بها كيانه قرأت بنظرة ثاقبة واقع المحيط العربي بعد إجهاض ثورة الربيع ومحاولاتها في بناء الديمقراطية وتأسيس المواطنة وانتبهت إلى ما أصاب الشارع من انقسام والعجز عن الالتقاء على مشترك وطني.
وتعاملت بوعي استراتيجي مع جهتين تبدوان متقابلتين: النظام العربي الرسمي وما سمي بمحور المقاومة. فاختارت التعاطي مع الأدنى الذي يسمح به نظام الاستبداد العربي المجاور لغزة ولا يجعله في صف العدو صراحة، وتركت لمن اختار "موقف التعاطف مع المقاومة في غزة" أن يختار حدود تعاطفه ودرجة إسناده. وقد نجحت مع كل هذا في التمييز بين الاسترتيجيات رغم تداخلها، ووفرت من خلال أدائها الميداني والسياسي الاستقلالية والريادة لاستراتيجيتها التي عبّرت عن نفسها وعن ريادتها وقدرتها على احتواء الاستراتيجيات المحيطة.
وفي آخر كلمة للناطق الرسمي باسم كتائب القسام بدا واضحًا أنّ الكلمة لم تكن بغاية الإفادة بمعطيات جديدة عن واقع المواجهة الميدانية الضارية بين المقاومة وجيش الاحتلال بقدرما جاءت لتسجيل منعرج فعلي في هذا الصراع لفائدة أهل الأرض وأصحاب الحق، رغم ثقل الضريبة وحجم المعاناة. والكلمة علامة واضحة على صمود المقاومة وخطوة ثابتة على طريق انتصارها العظيم.
الكلمة كلها ثقة وقوة وعنفوان تضبط هوية المقاومة (شعب يطلب الحق والحرية في الحياة) وهوية العدو (احتلال نازي منذ 75 عاما/صهاينة البيت الأبيض) وتحدّد بدقة أولوية المقاومة المرحلية (وقف العدوان) وعنوان اللحظة السياسي (لا صفقة في ظل الحرب).
ومن جهة تنطق الكلمة بصمود غزة الأسطوري وأداء المقاومة البطولي وتفوقها الميداني، وتًسجّل ثقتها بمنجزها الميداني (تهشيم آلة جيش العدو) بعد 83 يوما من العدوان.
وبهذه الكلمة تتقدم المقاومة لتفرض شروطها على طاولة المفاوضات في مرحلة ضارية من المواجهة بدا فيها العدو أحوج إلى هدنة يوقف بها نسق خسائره المتعاظمة.
يَسعد أنصار المقاومة من المتفرجين القُعود،ونحن منهم، بانتصارات المقاومة ويحصل عندهم اطمئنان على مصير المقاومة لا ينتبه إلى فارق القوة والدعم بينها وبين جيش الاحتلال ومراهنته ومراهنة شركائه على عنصر القوة وكثرة المدد. وهو يدرك أنّ لقوة المقاومة المحاصرة في غزة قوة وحدّا لذلك هو يصبر على خسائره الفادحة ويراهن على محدودية سلاح المقاومة مهما كثر. لذلك فإنه إذًا كانت المطاولة في خدمة المقاومة بدءًا فإنّ المناجزة تصبح ملجأها.
ولا يمكن لهذه المواجهة أن تبقى مفتوحة فلا بد من هدف تستقر عنده وغاية تجري إليها.
لم يهب الشارع العربي لنصرة غزة والانخراط في طوفانها، ولكن ما يعتمل في الأنفس من مشاهد الغضب والقهر نتيجة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهل غزة وفلسطين يرشح لانفجار قادم تتزامن فيه لأول مرة مهمّتا "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين"
من خلال علاقة المهمتين يمكن تبين ثلاثة مراحل مرت بها حركة المقاومة وحركة المواطنة منذ 2011. كانت المرحلة الأولى لحركة المواطنة مع الربيع وكانت المقاومة في غزة تنتظر دورا للثورة وحركة المواطنة في رفع الحصار عن غزة قاعدة المقاومة.
وكانت المرحلة الثانية للمقاومة بعد إجهاض الربيع وهي أطوار طوفان الأقصى التي نعيش.
لم يهب الشارع العربي لنصرة غزة والانخراط في طوفانها، ولكن ما يعتمل في الأنفس من مشاهد الغضب والقهر نتيجة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهل غزة وفلسطين يرشح لانفجار قادم تتزامن فيه لأول مرة مهمّتا "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين". ويكفي أن يتدحرج نظام واحد من أنظمة الاستبداد العربي الضحلة لكي تتداعى بقية الأنظمة مثلما كان عليه الحال حين انطلقت شرارة ذلك من تونس في 2011. ولكن هذه المرة سيكون للحدث تداعياته الاستراتيجية الكبرى إقليميًا ودوليًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"