16-نوفمبر-2023
غصن الزيتون

المقاومة الفلسطينية ستنتصر في هذه الحرب لكن سيبقى الانتصار الأكبر هو انبثاق المشروع العربي الذي سيغير جذريًا توازنات المنطقة (HENRY NICHOLLS/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

ببنادق بدائية وطائرات شراعية ودراجات نارية مهترئة وعقيدة راسخة بأنّ الحق الفلسطيني لن يسقط بالتقادم وأن الأرض كل الأرض فلسطينية، سطّر جنود كتائب الشهيد عز الدين القسام فصلًا آخر من فصول المقاومة. فمنذ ساعات الفجر الأولى، وفي فيديو أخفى وجهه في الظلام، أطل محمد الضيف رئيس أركان الكتائب والمطلوب منذ سنوات على لوائح من يدعون العظمة الاستخباراتية، ليعلن بداية معركة طوفان الأقصى. 

يذكرونهم بحرب العبور في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 وكأنهم يقولون إنّ معركة الأقصى ليست سوى جزء من أجزاء حرب التحرير الكبرى، اخترق جنود كتائب القسام السياج الفاصل الذي حول قطاع غزة إلى سجن وسط سجن، ومحلقين فوق رؤوس عدو ظن أنه هنأ بالأرض متواكلًا على جيش من الكرتون يصور نفسه  كأقوى جيوش المنطقة. وماهي إلا ساعات قليلة حتى وقع في قبضة المقاومة مئات الأسرى من عسكريين ومدنيين، وسط ابتهاج شعبي عربي أعاد للمقاومة بريقها كخيار وحيد لاسترداد الحق المسلوب.

المقاومة الفلسطينية كانت تعلم دون شك أنّ الاحتلال لن يبقي حجرًا فوق حجر في غزة وأن آلته الدموية ستكون بغطاء أطلسي أوروبي لكنها تعلم أيضًا أن آلة القتل الصهيونية إن لم تقتل الفلسطينيين دفعة واحدة فستفعل ذلك على دفعات

وبعيدًا عن الانفعالات التي تطلقها الجماهير العربية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حول كيفية إدارة المعركة، لا تزال المقاومة الفلسطينية بفصائلها الداخلية المختلفة ومحورها الخارجي المساند تدير المعركة برصانة وحكمة لم تغب منذ حرب 2008 وما تلاها من الحروب بتعدد ظروفها. 

فكتائب القسام، المخطط الرئيسي لعملية "طوفان الأقصى"، كانت تعلم دون شك أنّ الاحتلال بعد هذه العملية لن يبقي حجرًا فوق حجر في غزة وأن آلته الدموية ستكون بغطاء أطلسي أوروبي يؤكد دائمًا أن هدفه الوحيد وأد أي حركة مقاومة فعلية تظهر في المنطقة. لكنها تعلم في ذات الآن أن آلة القتل الصهيونية إن لم تقتل الفلسطينيين دفعة واحدة فستفعل ذلك على دفعات. فعملت على عنصر المباغتة الذي أوقع كل تلك الخسائر في الكيان.

تعلم حماس أن الدعم العربي وحتى غير العربي سيكون مفقودًا، وإن وجد فسيكون ضئيلًا وغير قادر على الحسم سريعًا في المعركة، لكنها تعلم أيضًا أنّ تشتيت تركيز المحتل واستنزافه سيعطي شيئًا من الوقت دائمًا للمقاومة في غزة من أجل الاستمرار

واستطاعت حنكة القيادة العسكرية أن تجرّ الجيش المحتل إلى حرب برية. وهذا النوع من الحروب هو المفضل لدى كتائب القسام وذكريات جيش إسرائيل معها مرّة وأليمة. 

وتحقق المقاومة أهدافها وإن كان ذلك مقابل دم فلسطيني بريء، فالعدد المعلن من الجنود الذين وقعت تصفيتهم في غزة يؤشر على سيطرة القسام على الميدان والفيديوهات التي تلي خطابات الملثم تؤكد أن "الميركافا" ليست سوى وهم زائف على أرض فلسطين. 


صورة

على محور المقاومة، تعلم حماس الجناح السياسي لعملية "طوفان الأقصى" أن الدعم العربي وحتى غير العربي سيكون مفقودًا، وإن وجد فسيكون ضئيلًا وغير قادر على الحسم سريعًا في المعركة، لكنها تعلم أيضًا أنّ تشتيت تركيز المحتل خلال هذه الحرب واستنزافه على جبهات مختلفة سيعطي شيئًا من الوقت دائمًا للمقاومة في غزة من أجل الاستمرار. 

لذلك يحرص حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي اليمنية وهي عناصر أساسية في محور المقاومة على توجيه ضربات متفرقة ومحدودة كميًا. وهو ما أتى أكله، حيث يزداد التركيز شيئًا فشيئًا على الجبهة الشمالية دون فتحها كليًا، ولهذا فإن حماس تقدّر موقف لبنان المنهك اقتصاديًا وطائفيًا وتعلم حدود الاستنزاف الذي تطلبه من حزب الله. استنزافٌ يمنح شيئًا من الوقت ويضمن سلامة أراضي لبنان. 

دوليًا، يخسر الاحتلال مع الوقت دعمًا شعبيًا واسعًا وتتآكل الروايات الصهيونية الزائفة أمام صور الأبرياء الذين يقتلون بلا ذنب، وهذا السخط الشعبي سيؤثر في نهاية المطاف على دوائر القرار السياسي في العالم

دوليًا، يخسر الاحتلال مع الوقت دعمًا شعبيًا واسعًا، وتتآكل الروايات الصهيونية الزائفة أمام صور الأبرياء الذين يقتلون بلا ذنب. وهذا السخط الشعبي على حكومات الأطلسي والمشروع الصهيوني سيؤثر في نهاية المطاف على دوائر القرار السياسي في تلك الدول وهو ما يلاحظ في تغيّر خطابات القيادة الأمريكية من دفاع عن إسرائيل في كل حربها إلى طلب استبعاد المدنيين من الصراع وتأكيدها الدائم على ضرورة خفض التوتر. وهي سياسة تنتهجها الإدارة الأمريكية حفاظًا على مصالحها الحيوية حول العالم خصوصًا مع تنامي الكراهية تجاهها في الوطن العربي التي تمثل حاضنة لإسقاط الأنظمة العربية المتواطئة سرًا وعلنًا معها. 

 

 

ومع عجز الكيان الصهيوني على تحقيق نصف هدف من أهدافه المرسومة ستكون إدارة بايدن مجبورة على رفع يدها نهائيًا عن هذه الحرب، خصوصًا وأن الولايات المتحدة ستكون أمام سباق انتخابي قريب. لا بدّ أن يكون دعم الحرب من عدمه سلاحًا لكسب أصوات الطوائف المسلمة وذات الأصول العربية والإفريقية حتى.  وهذه الخسارة ستستغلها المقاومة لفرض شروط أكثر أريحية من ذي قبل، فلا شيء ستخسره المقاومة إن طال أمد الحرب أو قصر. 


صورة

أما أهم النتائج التي ستؤثر على المنطقة، فهي نجاح حماس والقسام في تعديل البوصلة الإيديولوجية، فحماس ذات النفس الإخواني أساسًا استطاعت أن تمد يدها لإيران والشيعة عمومًا، وهما العدوان اللدودان للجماعات الإسلامية ما بعد الثورات العربية. 

أهم النتائج التي ستؤثر على المنطقة هي نجاح حماس في تعديل البوصلة الإيديولوجية فقد استطاعت أن تمد يدها لإيران والشيعة عمومًا، وهذا المد سيعني بناء خطّ ثالث يوازي بين المشروع الديمقراطي ومشروع المقاومة

وهذا المد سيعني بناء خطّ ثالث يوازي بين المشروع الديمقراطي ومشروع المقاومة ليخرج مشروعًا وطنيًا عربيًا فريدًا من نوعه يكسر السرديات الماضية التي أكلها الزمن. وهذا الخط سيشكل خطرًا على الأنظمة القائمة في المنطقة والتي تستثمر أساسًا في الصراع بين الديمقراطية كعنصر غربي وبين المقاومة كمشروع قومي وطني. وهو ما يفسر انعدام الدعم العربي خاصة من دول الشرق الأوسط التي تسعى متحالفة مع الولايات المتحدة خفيةً لمنع نجاح هذا الخط.

خلاصة القول، إنّ المقاومة الفلسطينية ستنتصر في هذه الحرب كغيرها من الحروب وسيكون المتغير الوحيد هو عدد الأرواح التي ستزهق في سبيل النصر وهذه الأرواح هي التي ستسطّر حجم الانتصار وتحدده، ذلك أن المقاومة تعلم جيدًا كل تفاصيل المعركة وتستطيع قيادتها السياسة كما العسكرية التحكم في الميدان وتوجيهه، وهي قدرة متراكمة من الحروب السابقة. وسيبقى الانتصار الأكبر هو انبثاق المشروع الوطني العربي الذي سيغير جذريًا توازنات المنطقة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"