مقال رأي
قالت الممثلة الأمريكية مريل ستريب ذات حوار إنّها لم تكن يومًا على ثقة من نفسها بالمقدار الذي كانته في أواسط العشرينات من عمرها. لا تبدو الجملة في ذاتها عظيمة، فالجميع تقريبًا يعرف ذلك، لكن عندما تقترن سنّ العشرينات، لا بالثّقة في الذّات فقط، بل بالنّجاح الباهر يكون ذلك حقّا أمرًا استثنائيًا. ففي تعقّد الأمور الذي نحياه كلّ يوم، وفي الزّمن الطّويل الذي تستنزفه المدارس من أعمارنا بلوغ النّجاح مبكّرًا علامة لا تخطئها العين عن استثنائيّة الشّخص.
ليست أنس جابر أوّل بطلة تونسية تصل إلى تحقيق نجاحات استثنائيّة، فقبلها سطعت أسماء رجال ونساء كثيرين كمحمّد القمّودي، وأسامة الملّولي، وكمال بوعلي، وتوفيق البلبولي وغيرهم في الملاكمة، وحبيبة الغريبي، إضافة لمنتخب كرة اليد في مونديال 2005 وفريق الكرة الحديديّة إلخ. لكن ما ينبغي ألّا تأخذنا إليه النّزعة الافتخاريّة هو أن ننسى أنّ عدد التّونسيّين الذين خرقوا حاجز المحلّيّة والقارّيّة في الرياضة هم للأسف عدد قليل قياسًا إلى ممكنات هذه البلاد، وموقعها القريب من أوروبا، وتقاليدها القديمة في الرّياضة جماعيّها وفرديّها.
الرّياضة قبل أن تكون منتجة للبطولة هي منتجة للمعنى وفي البلاد التي معظم الشّباب فيها إمّا يمارسون الرّياضة وإمّا هم من عشّاقها ليس من طريق لنجاتهم ونجاتنا بهم إلّا صناعة القدوة
مناسبة هذا الحديث بلوغ أنس جابر الدّور الثّمن النّهائي لدورة أستراليا المفتوحة للتنس، وهو بكلّ المقاييس أمر رائع، ليس لها فحسب، بل لكلّ من له موهبة، وتعترضه كلّ يوم مصاعب إثبات الذّات في وسط تونسي للأسف لا ينمّي الوسائط الضّروريّة كي يجد كلّ صاحب مهارة طريقه. والحديث عن أنس جابر ليس لأنّها بلغت هذا الدّور من الدّورة، ففي سنّ الأواسط كانت حازت على جائزة "رولان غاروس" ذات الصّيت الكبير. ولو كانت افتراضًا سقطت قبل هذا الدّور ما كان هذا الكلام ليتغيّر كثيرًا إذ وجودها في قلب المائة الأوائل في حدّ ذاته نجاح باهر.
في كلّ الحوارات التي قرأتُها لهذه الرّياضيّة المشرقة بهمّتها وولعها بمضربها، كانت تشير إلى قيم جوهريّة مثل قيم العائلة المتكاتفة، والمثابرة، والتّضحية رغم عدم وضوح الأفق أحيانًا. وحتّى حين سُئلت مرّة عن دعم الجامعة لها قالت إنّه قليل، وإنّها تتفهّم ذلك. وهذا ينقل أنس جابر من رياضيّة مميّزة، يوجد قبلها الكثيرون وسيوجد بعدها الكثيرون، إلى مثال اقتداء في بلاد ما أكثر الشّباب فيها، وما أقلّ أمثلة الاقتداء.
اقرأ/ي أيضًا: عن ثقافة "العيب" و"العار".. أو التطبيع مع العنف
لا أحد يمكنه اليوم أن يتنبّأ إلى أيّ رتبة قد تصل الرياضية التونسية في قادم الأيّام والسّنوات. ففي الخامسة والعشرين، مازال أمامها زمن للمضي أبعد في حلمها، لكن ما يمكن التّنبّؤ به يقينا هو أنّ أيّ نجاح سيتمّ استقباله سياسيًا باستضافة هنا أو هناك، وبباقات ورود تافهة، وبكلمات أكل عليها الدّهر وشرب.
مازالت الرّياضة لا تعني عند معظم السّياسيّين شيئًا، ومثلما هم في السّياسة يستنسخون التّجارب الفاشلة مازالوا في الرّياضة تحت وطأة عقليّة الاستبداد في توظيفها والرّكوب عليها وجعلها أداة تسويق صورة لا يمكن لشيء مهما عظم أن يسوّقها.
الرّياضة قبل أن تكون منتجة للبطولة هي منتجة للمعنى وفي البلاد التي معظم الشّباب فيها إمّا يمارسون الرّياضة وإمّا هم من عشّاقها ليس من طريق لنجاتهم ونجاتنا بهم إلّا صناعة القدوة. وأنس جابر من الممكن أن تصبح منتجًا إنسانيًا جيّدًا في هذا الباب، مثلها طبعًا مثل رياضيّين وفنّانين وقامات علميّة كثيرة تنتجها تربة البلاد وكثيرًا ما تزدريها السّلطة أو تتركها تكابد وحدها مشاقّ طريق مَن يسقطون أثناءه أكثر بكثير ممّن يصلون منتهاه.
أن تحبّ فتاة التنس في بلد ليست له تقاليد حقيقية في هذه الرّياضة المكلّفة جدّا، وأن تتدرّب وتثابر في ظروف ليست سهلة، وأن تعطي حياتها لشغفها رغم أنّه لا شيء مضمون ثمّ تنجح، فهذا حقًا ملهم جدًا
وسأتحدّث عن بعض هذه المعاني التي تنتجها الرّياضة حين تكون رياضيّة كأنس جابر تمثّلها، إذ أن أوّل هذه المعاني إمكان النّجاح حتّى في أكثر الأوساط صعوبة. فأن تحبّ فتاة التّنّس في بلد ليست له تقاليد حقيقية في هذه الرّياضة المكلّفة جدّا، وأن تتدرّب وتثابر في ظروف ليست سهلة بالمرّة، وأن تعطي حياتها لشغفها رغم أنّه لا شيء مضمون، ثمّ تنجح فهذا حقًا ملهم جدًا. وحين يكون المزاج التّونسي العام فيه ما صار بمنزلة المعتقد بأنّه لا نجاح في هذه البلاد يكون أمثال أنس جابر بمثابة أمثلة مشرقة عن خطأ ذلك المزاج، وعن إمكان إنشاء مزاج آخر يصبح فيه النّجاح أفقًا ممكنًا بالاجتهاد، لا بالإلقاء بالنّفس في قوارب الموت لتقديم شباب تونس طعمًا لقارّة عجوز ساهمت بما أمكنها كي نكون على ما نحن عليه.
اقرأ/ي أيضًا: أحبّ تونس.. وتونس تحب الفرجاني ساسي
ثاني هذه المعاني في الأزمنة الوعرة التي نمرّ بها جميعًا، والتي فضّلناها على أزمنة لم تكن بالوعورة نفسها، لكنّها كانت مشحونة بالرّداءة المؤدّية قطعًا إلى الموت الحضاري والسياسي هو إمكان التّأسيس على النّجاحات لبثّ روح مختلفة في جسم حيّ تكبّله وسائل إعلام رديئة يوميًّا بما يخنقه ويتفّهه.
لقد خرجت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثّانية منهارة تمامًا، وكان من بين ما بثّ فيها مجدّدًا روح التّحدّي والبحث عن استعادة التّفوّق فوز فريقها، فريق ما كان يسمّى ألمانيا الغربيّة بكأس العالم سنة 1954، إثر مباراة مذهلة بتقلّباتها ضدّ واحد من أعظم فرق التّاريخ هو الفريق المجري. وتونس اليوم ليست ألمانيا الأمس، ولا ألمانيا اليوم، لكنّ فيها روحًا اشتعلت أيّام 17/14، وتلك روح تبحث كي تستمرّ عن نجاحات ما تكون وقودًا لنهضة ممكنة، ونجاحات الرّياضيّين، حين يتوفّر لها حاضن إعلامي وسينمائي ووسائطي اجتماعي أقلّ رداءة ممّا هو موجود يمكنها أن تحقّق في إيقاظ حسّ النّجاح ما لا تصنعه عشرات الخطب والمواعظ.
أنس جابر هي ليست امرأة سياسيّة وربّما لا تهمّها السّياسة كما تراها وتقرأ عنها، لكنّها من حيث تدري ولا تدري هي في قلب السّياسة الحقيقيّة
ثالث هذه المعاني الانتهاء مرّة وإلى الأبد من قصص النّجاحات الصّغيرة، فما قدّمته أنس جابر وقدّمه قبلها غيرها هو أنّ مقياس النّجاح كونيّ، وأنّ من يولد هنا، وفي يده أو قلبه موهبة ما ينبغي أن يقيس نفسه على العالم. وأن تكون تونسيّة في قلب دورة أستراليا المفتوحة، وتهزم مصنّفات الأخيرة منهنّ كارولين فوزنياكي الدنماركيّة كانت المصنفة الأولى عالميًا على امتداد أكثر من سنة فهذا يعني هزيمة مدقعة لخطاب بائس ينشأ عليه صغيرنا ويموت عليه كبيرنا قوامه القول إنّ العبرة بالمشاركة، وقوامه، وهو الأخطر إحساس مستمرّ بالنّقص أضاع تاريخيّا الكثير من المواهب التّونسيّة في ميادين كثيرة.
في تونس صراع دائم بين سرديّتين، سرديّة تحقير للذّات، نراها في السّياسة عند أولئك الذين يقولون إنّ الديمقراطية لا تلائمنا وأنّ عصا الشّرطي وحدها التي تصلح لنا، ونراها في الثّقافة عند بعض النّخب من ذوي المخيّلات المحدودة الذين تستعبدهم الثّقافة الاستعماريّة الرّديئة فيصدّرون إليها ما تريد أن تراه بعينها الاستشراقيّة الاستعلائيّة فينا؛ وسرديّة تحفيز للذّات، رأينا نشأتها في تحدّي الاستبداد وما رافقه من شعور عام من أنّنا لسنا أسوأ من الأمم في الضّفّة الشّماليّة للمتوسّط، ويمكننا في جيل أو جيلين أن نبني تجربتنا الخاصّة بنا.
أنس جابر سطر من سطور هذه السردية التي تكابد كي تنكتب، هي ليست امرأة سياسيّة، وربّما لا تهمّها السّياسة كما تراها وتقرأ عنها، لكنّها من حيث تدري ولا تدري هي في قلب السّياسة الحقيقيّة، سياسة صناعة المعنى والقدوة والبحث الدّؤوب عن مغالبة الواقعيّة الحزينة التي توهمك أنّك محكوم مسبقًا بحدود الظّروف القائمة، والحال أنّ حدودك مثلما قال يوما أحدهم ليست حدود قريتك حيث تقيم، بل حدود العالم الذي تمتدّ إليه عيناك، ويلاحقه حلمك.
اقرأ/ي أيضًا: