مقال رأي
ما هو تحديدًا "أمن الدولة"؟ هل هو أمن الرئيس حصرًا؟ هل هو أمن "حماية من في الحكم"؟ هل الدولة هي الرئيس/"الحاكم"؟ هل "الأمن" في استدامة حاكم الدولة؟ أم في أن تكون الدولة حامية لمواطنيها؟
ما هو تحديدًا "أمن الدولة"؟ هل هو أمن الرئيس حصرًا؟ هل هو أمن "حماية من في الحكم"؟ هل الدولة هي الرئيس/"الحاكم"؟ هل "الأمن" في استدامة حاكم الدولة؟
تتوالى مؤخرًا قضايا معنونة تحت هذا العنوان العريض والقابل لتمطيط بلا نهاية، قضايا "أمن الدولة"!
جربنا على مدى أكثر من خمسين سنة سردية "أمن الدولة" بمعنى "أمن الرئيس". جربنا أن معارضة الرئيس "مس" من أمن الدولة. حتى أننا استحدثنا محكمة مختصة بأعراف خاصة باسم "أمن الدولة".
وفي نهاية الأمر ماذا كانت الحصيلة؟! ببساطة مئات المساجين السياسيين مقابل دولة مهترئة دون تنمية مستديمة ولا أمن مائي أو طاقي واقتصاد دون قيمة مضافة أو إبداعي أو قدرة على التجديد.. وحاكم يموت في شيخوخته السياسية أو يهرب في أول طائرة عندما يتحسس غضب الشارع.
جربنا على مدى أكثر من خمسين سنة سردية "أمن الدولة" بمعنى "أمن الرئيس". جربنا أن معارضة الرئيس "مس" من أمن الدولة. حتى أننا استحدثنا محكمة مختصة بأعراف خاصة باسم "أمن الدولة"
كانت هذه المهزلة التي استمرت لعشرات السنين تقوم على أمر أشبه بمسرحيات الكوميديا السوداء حيث يتقلد دور القضاة سياسيون معادون بشكل علني للمتهمين وحيث تكون الأحكام جاهزة ويكون الحكم مخففًا عندما لا يصل إلى الإعدام.
طبعًا الإحالات تكون على أساس أن الأمر البديهي هو الإعدام وأن "رأفة" الحاكم و"عفوه" هو الذي يؤدي إلى تخفيض الأحكام إلى "مدى الحياة مع الأشغال الشاقة" مثلاً.
في حالة السياسي المعارض أحمد بن صالح مثلاً تم تشكيل هيئة محكمة من خصومه في الحكم وتم تمرير قانون خاص مع قانون إنشاء المحكمة يحاكمه على أفعال منسوبة بشكل بعدي. كان وزير العدل آنذاك قاضيًا وهو من صاغ الأمر من ألفه إلى يائه.
ألغى زين العابدين بن علي "محكمة أمن الدولة" لكنه حافظ على مبدأ المحاكمات على الرأي وتكييف القضايا على أنها "مس من أمن الدولة". ثم لم تغير "عشرية الانتقال الديمقراطي" الشكلي والعقيم من الترسانة التشريعية التي تسمح بمحاكمات عسكرية للمدنيين ولا بكل الفصول التي تسمح بتمطيط القانون للمحاكمة على أساس "أمن الدولة".
لنكن دقيقين فإنه لا توجد دولة حتى تلك الأكثر ديمقراطية "بلا أنياب". كل دولة حتى الأكثر تبنيًا لمعنى "دولة القانون" وعلوية المواطنة والتمييز الدقيق والصارم بين حرية الرأي و"تهديد أمن الدولة" لديها "الأجهزة"، أي الهيئات المعنية بمواجهة استعلامية و"أمنية" أي "اختراقات" من "أجهزة" مقابلة، لكن المسخ الحقيقي هو الخلط المتعمد والجاهل بين كل ذلك وبين تصنيف المعارضة كجريمة.. واعتبار مجرد التباين مع "الحاكم" مسًا من "أمن الدولة".
لنكن دقيقين فإنه لا توجد دولة حتى تلك الأكثر ديمقراطية "بلا أنياب". كل دولة حتى الأكثر تبنيًا لمعنى "دولة القانون" لديها "الأجهزة" لكن المسخ الحقيقي هو الخلط المتعمد والجاهل بين كل ذلك وبين تصنيف المعارضة كجريمة
يتأرجح الحكم الفردي لقيس سعيّد بين حالة بارانويا من "الغرف المظلمة" ومؤامراتية فجة ترى العالم من نظارات "تهديد" عصابات سرية والشبهات المعممة في كل مكان، واستسهال إثارة القضايا… لكن في معظمها ملفات دون قرائن أو مستندات مما يجعل صمودها في أروقة قضاء، مرهق أصلاً وصعب.
ومن جهة أخرى فيضان متواصل لا يمكن مجاراته من الانتقادات والسيل الجارف من التعبير النقدي تجاه الحكم. حالة أصر على تسميتها بـ"النصف تسلطية"، حالة هجينة لا يمكن تشبيهها بمراحل التسلطية الصريحة "الصافية" التي مررنا بها قبل 2011.
يتأرجح الحكم الفردي لقيس سعيّد بين حالة بارانويا من "الغرف المظلمة" ومؤامراتية فجة ترى العالم من نظارات "تهديد" عصابات سرية والشبهات المعممة في كل مكان، واستسهال إثارة القضايا لكن في معظمها ملفات دون قرائن أو مستندات
أصر أيضًا على تفسير هذا الوضع الهجين ليس فقط بميزان قوى موضوعي يصعب فيه "إعادة مارد الحرية" إلى العلبة بل أيضًا بتمنع قيس سعيّد من أن يتشبه بأي حاكم سابق لأنه يرى نفسه في ركن قصي شبه مقدس من التاريخ. للمفارقة هو سيكون أيضًا ضحية محتملة على الأرجح لهذه التمطيطات لمعنى "أمن الدولة" عندما يكون خارج السلطة.
نحن نحتاج فعلاً حماية "أمن الدولة"، ليس عبر المحاكم أساسًا لكن عبر سياسات اقتصادية واجتماعية مستديمة. "أمن الدولة" هو أمنها الطاقي وأمنها المائي.
نحن نحتاج فعلاً حماية "أمن الدولة"، ليس عبر المحاكم أساسًا لكن عبر سياسات اقتصادية واجتماعية مستديمة. "أمن الدولة" هو أمنها الطاقي وأمنها المائي وهو الأمان الاجتماعي بحماية الطبقات الفقيرة والوسطى
أمن الدولة هو الأمان الاجتماعي بحماية الطبقات الفقيرة والوسطى وتوفير الظروف المساعدة لبناء اقتصاد متجدد ومبدع وبقيمة مضافة والتخلص تدريجيًا من المنوال التنموي للبرجوازية الرثة التي بقيت تعيش على هامش "أمن الدولة" العتيق، تقتات من المنظومة الزبونية حيث التقاء طبقة سياسية رجعية مع السماسرة. حينها ستقوم "الأجهزة" بدورها الطبيعي كامتداد لمنظومة متكاملة صلبة. ذلك هو "أمن الدولة"، وحينها نبيت ليلنا جميعًا حاكمًا ومحكومين في أمان.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"