17-نوفمبر-2022
مقر القناة الوطنية

صورة لمقر التلفزيون العمومي التونسي إبان 25 جويلية 2021 (وسيم الجديدي/Sopa images)

مقال رأي

 

لا يحتاج المشهد اليومي في التلفزة "الوطنية" في تونس (عمومية) إلى تحليل معمّق وآراء الخبراء في المجال لكي نفهم أنّ الخط التحريري بوصلته قصر قرطاج. فمنذ 25 جويلية/يوليو 2021، لا صوت يعلو فوق صوت الشعارات كالقطع مع المنظومة والعلو الشاهق وغيرها من المفردات التي شكّلت مرتكزات لخطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد

لا يحتاج المشهد اليومي في التلفزة "الوطنية" في تونس إلى تحليل معمّق وآراء الخبراء في المجال لكي نفهم أنّ الخط التحريري بوصلته قصر قرطاج

ولعلّ أبرز تجسيد لهذا الوضع هو برنامج "الوطنيّة الآن" في هذه القناة وهو برنامج يحمل طابعاً سياسيّا. لكن الظروف حكمت كما يقول المثل التونسي والإكراهات السياسية حالت دون ذلك.

يؤثّث البلاتو ـ المسرح الإعلامي ثلاثة أشخاص يطلون يوميّا على المواطن التونسي. في إدارة الحوار "إنصاف اليحياوي" والتي كان من المفترض أن تحرص على أن يكون الإنصاف حاضراً في المادة الإعلامية التي تقدّمها. غير أنّ الأمر مختلف تماماً خاصّة إذا ما اطّلعنا على من يشاركها هذا البرنامج.

 

 

يلعب خليفة الشيباني – الأمني المتقاعد – دور المحلّل الذي يفقه كلّ شيء. ويرتكز خطابه أساساً على التفجّع ومحاولة تقديم قراءة قوامها ما يسمّيه هو "العشريّة السوداء" ليخلص في أغلب الأحيان إلى أنّ البلد الآن بصدد التعافي والعودة إلى ما كان عليه. وهي سرديّة يتبنّاها الشريك الثالث على المسرح والذي يعطي لصمت اليحياوي وانحياز الشيباني صوت المؤرّخ الإضافي (الذي لا يحمل أية إضافة في الحقيقة) ليكمل المسرحيّة اليوميّة. يركّز خالد عبيد كلّ تحليلاته على شذرات تاريخيّة لقراءة واقع سياسي مأزوم ومعقّد دون أيّ مرجعيّة أو خيط رابط في التحليل.

تتناغم أصوات المحلّليْن مع مراوحة مديرة الحوار بين الصمت وتأكيد كلامهما ليكتمل المشهد الإعلامي الهزلي الذي يذكّر كلّ يوم بأنّ الاعلام الذي يبثّ بفضل دافعي الضرائب أصبح بوقاً للرئيس وللحكومة.

وعلى عكس ما يعتقده الكثيرون، ثمّة استراتيجيّة مدروسة من طرف المذيعة في توظيف سرديّة تخدم مسار 25 جويلية – أو ربّما تذكّرها بالجو البنفسجي قبل الثورة التونسية – قائمة أساسًا على محاولة الايهام بالحياد من قبيل التظاهر بالتنسيب في بعض المواضيع.

تتتالى الأزمات في تونس ويمكن أن يختار فريق برنامج في التلفزيون العمومي الخوض منذ البداية وفي حيّز زمني كبير في مواضيع لا تمتّ بما يحصل بصلة وتغطية ما يحصل في جرجيس دليل على ذلك

فالمذيعة المؤتمنة على نقل صورة تونس الآن مباشرة من التلفزة الوطنيّة لا تتردّد في الإشارة إلى أنّ التعميم مرفوض عندما نتحدّث عن فساد الإدارة أو الفساد في عمليّات الرقابة في مختلف القطاعات. في حين أنّ الأصل في الأشياء أنّ دور الصحفي هو تسليط الضوء على الإشكاليّات ولا حاجة للتذكير في كل مرّة بـبديهيات العمل الصحفي.

يُجمع أغلب المختصّين في المجال الإعلامي أنّ دور الصحافة والإعلام عمومًا هو تسليط الضوء على السلبيّات وهو بذلك ينتج الأزمات. وهو ما لا نراه في المسرحية اليوميّة التي تعطينا فكرة على الوطنيّة.. الآن وفي فترة ما بعد 25 جويلية. إذ تتتالى الأزمات السياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة ويمكن أن يختار فريق البرنامج الخوض منذ البداية وفي حيّز زمنيّ كبير في مواضيع لا تمتّ بما يحصل بصلة (عودوا إلى كيفيّة التعامل مع أحداث جرجيس).

باليحياوي على رأس البلاتو والثنائي الذي يصحبها كلّ يوم تسقط مقولة الحياد وتتقهقر. فهو ليس سوى واجهةٍ للتخفّي والتغطية على الحقائق في ضرب علني ومفضوحٍ لسمة العمل الصحفي الحقيقي الذي يجب أن يتّسم بالموضوعيّة.

منذ شهور، يغيب السياسيون عن البرنامج "السياسي" في التلفزيون العمومي التونسي مع حضور قويّ لخطاب سياسي مساند لمسار 25 جويلية

وككل مسرحيّة (هزليّة أم تراجيديّة؟) لا يكتمل المشهد بلا إيهام بالواقعيّة. إذ لا تنصف إنصاف كلّ المتدخلين في المجال السياسي والاقتصادي، بصفتهم خبراء أوّلًا، صانعي الحدث السياسي ثانيًا وتونسيين يمارسون حقهم في التواجد في الإعلام العمومي. فمنذ شهور، يغيب السياسيون عن بلاتو "الوطنيّة الآن" مع حضور قويّ لخطاب سياسيّ مساند لمسار 25 جويلية يؤمّنه مشاركي المذيعة في المسرحية اليوميّة.

ههنا، تتضّح الصورة من خلال المخاتلة واللعب على كيفيّة تقديم الضيوف- الممثّلين القارّين. فالشيباني يقّدَم – كما أسلفنا- على أنّه محلّل سياسي، في حين يقدَّم خالد عبيد على أنّه مؤرّخ. ولكن لكل منهما أجندا-دور يخدمه وسيناريو يحاول أن يتقنه على ركح برنامج "الوطنيّة الآن".

ليس صحيحًا إذًا أنّ البرنامج المذكور لا يستقبل السياسيين سواء كانوا من مساندي مسار 25 جويلية أم معارضين له. بعبارة أخرى، لا يحتاج مناصرو الرئيس إلى من ينوبهم لأنّ المهمّة تقوم بها المذيعة ومن معها على أكمل وجه. أمّا على المستوى الاقتصادي والديبلوماسي فلا نرى إلاّ "خبراء" يقدّمون وجهات نظر وكأنّها وحي منزّل دون أيّ معارضةٍ خاصّة للسياسات الحكوميّة.

أمام استفحال الأزمة السياسيّة والاقتصاديّة في تونس، تستميت التلفزة الوطنية في تكريس الإعلام العمومي لصالح السلطة من خلال مسرحَته وتوجيه الرّأي العام

أمام استفحال الأزمة السياسيّة والاقتصاديّة في تونس، تستميت التلفزة الوطنية في تكريس الإعلام العمومي لصالح السلطة من خلال مسرحَته وتوجيه الرّأي العام. وهو ما يؤكّد أنّ البعض ممّن يحنّون إلى فترة الصوت الأحادي اغتنموا الفرصة لمحاولة العودة إلى الأجواء البنفسجيّة.. وإنصاف اليحياوي التي تجّدد التحيّة كلّ يوم بابتسامة عريضةٍ تتجاهل حقّ المواطن في المعلومة. الوطنيّة الآن؟ لا.   

ربّما بعد الانتهاء من التطبيل.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"