مقال رأي
لقد بات جليّاً أن تونس دخلت مرحلة خطيرة، بعد 25 جويلية/يوليو الماضي، بلغ فيها التجاذب السياسي ذروته. وهو ما أدّى إلى تعميق أزمة الثقة بين التونسيين والسياسيين، الذين اكتفوا خلال العشرية الفارطة بمجرد بث خطابات جوفاء دون أي رؤية أو مشروع حقيقي يمكن أن يغيّر على أرض الواقع.
فمن رحم الأزمات، تولد الخطابات المتطرفة كما هو الحال مع النازية في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية أو الفاشية في إيطاليا، أو تلك التي تستعمل استراتيجيات مختلفة هدفها التسرّب من ثقوب، خلفتها منظومات مترهّلة، بهدف الظهور تحقيقاً لرغبات شخصيّة أو خدمة لأجنداتٍ أجنبيّة لها امتداداتها داخل البلاد التونسية، وهي تسعى في كل مرّة إلى المراهنة على وجوه جديدة كخيول السّباق لكي تحافظ على مصالحها ولترسيخ أفكار محدّدةٍ في أذهان المتلقي.
وفي هذا السياق، تأتي مبادرة ألفة الحامدي، تلك القادمة من بعيد، من بلاد العم سام، أين تعلّمت (أو لُقٍّنَتْ؟) إدارة المشاريع الكبرى، وهي تصرّ، في كلّ مرة، على التذكير بذلك. كما لا تنسى، مع كل ظهور إعلامي، أن تبسط سيرتها الذاتية، رافعة شعار الإصلاح لهذا البلد الذي لا يفقَهُ جُلّ وزرائه في الاقتصاد ولا تُراهن منظّمته الشغيلة، التي أسسها فرحات حشاد للصمود في وجه المستعمر أساساً، على الإنتاجية كما ترى الوافدة الجديدة بحزبها الطليعي المتفرّد.
هل تكون "الجمهورية الثالثة" هي محطتنا القادمة بريح التغيير "الأمريكاني" الذي تتخّذه رئيسة حزب شجرة الزيتون نموذجاً؟
ألفة الحامدي التي تقدم الاقتصاد كأوليّة وتطرح النظريات في مختلف المجالات، تسعى إلى تطبيق رؤيتها من خلال حزب جديد ينضم إلى جوقة الأحزاب المتكونة من أكثر من مئتي حزب. لكن، بوصلته النهوض بالبلاد كما تقول مُؤَسِّسَتِه. فهل نحن إزاء المنقذ الأوحد الذي لطالما انتظرناه؟ وهل تكون "الجمهورية الثالثة" هي محطتنا القادمة بريح التغيير "الأمريكاني" الذي تتخّذه رئيسة حزب شجرة الزيتون نموذجاً؟ ماهي تفاصيل وملامح خطابها؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن نأخذ على محمل الجدّ، طرحاً طوباويّاً من حزبٍ يتكوّن مكتبه التنفيذي من أشخاص من مختلف التوجهات الفكرية ومن شتات أحزاب فشلت في إحداث أيّ تغيير في المرحلة السابقة؟ ألم تتّعظ ألفة الحامدي من تجربة نداء تونس؟ أين يتموقع هذا الحزب الجديد وماهي هويته؟ والأهم، من يقف وراءه وماهي مصادر تمويله؟
اقرأ/ي أيضًا: ألفة الحامدي تعلن عن تأسيس حزب "الجمهورية الثالثة"
- سياسة الأرض المحروقة: هل نحن إزاء نرسيس تونسي؟
ترتكز ألفة الحامدي في خطابها على تسليط الضوء على نتائج عشريّةٍ كارثيّة. وهي قراءة يتفّقُ فيها جلّ الفاعلين السياسيّين بما في ذلك من كانوا سبباً بطريقة أو بأخرى فيما نحن عليه اليوم. لكن اللافت أن خطاب رئيسة "حزب الزيتونة"، يعتمد التضخيم والتهويل من جهة والتقزيم لأي مجهودات قدمت خلال السنوات الفارطة. قد تصح القراءة التي ترى أنّ السلبيات كانت طاغية، لكن مؤسسات الدولة التونسية صمدت أمام صعوبات كبيرة وتمكنت من تجاوزها. لا ترى الحامدي الأمور من هذه الزاوية، فتونس -حسب رأيها- أرض لم تعد صالحة لأي شيء، والحلول المقدمة لا تفي بالغرض. وهي سردية هدفها المبالغة في قتامة المشهد أو استغلال الوضع لمحاولة التموقع وتقديم النفس كبديل أوحد هو المنقذ الحقيقي.
اللافت أن خطاب رئيسة "حزب الزيتونة" يعتمد التضخيم والتهويل من جهة والتقزيم لأي مجهودات قدمت خلال السنوات الفارطة وهي سردية هدفها المبالغة واستغلال الوضع لمحاولة التموقع وتقديم النفس كبديل أوحد هو المنقذ الحقيقي
خطاب يمزج بين الدارجة والإنجليزية - التي تستعملها السياسية الوافدة بغرض الإبهار في المواضيع التقنية- مع صوت متشنج وحركة أيدي دؤوبة، هي أبرز المميزات الظاهرة في حواراتها مع مختلف وسائل الإعلام. وضعية، تكاد تكون مكررة - بحركاتها وأفكارها- للإصرار على أن هذا البلد يحتاج المهدي المنتظر الذي لا يمكن أن يكون سوى ألفة الحامدي. فكل التحاليل تصب في خانة واحدة: لا أمل في الخلاص سوى بحزب الجمهورية الثالثة.
لا عيب في أن يطمح السياسي للسلطة، لا بل إن هذا هو المعنى الحقيقي للحزب السياسي. لكن اللافت أن السيدة الحامدي، بحزبها هذا اختارت استراتيجيا عنوانها: إما أنا أو الخراب. عملاً بالمثل الشعبي التونسي: "بعدي أنا تحزن" وهو مثل متداول في بعض المناطق من الجمهورية للإشارة إلى المغرور الذي يعتبر نفسه عنصرًا مهمًا في أمور لا يمكن أن تتم بدونه.
وهو تقريبًا ما ينطبق في هذه الحالة، فخريجة الجامعات الكبرى تقدم نفسها وحزبها كبديل أوحد يمكن أن يغيّر وينهض بالبلد.. وهي التي لم تكن لها تجارب سياسيّة سابقة ولم تتجاوز الستة أشهر على رأس الناقلة الوطنية التي خلف مرورها فيها ضجّة غير مسبوقة. فهل نسير نحو ما شهدناه مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد عندما قلب الوافد الجديد والناقد للمنظومة الطاولة على الجميع؟
خطاب يمزج بين الدارجة والإنجليزية، التي تستعملها السياسية الوافدة بغرض الإبهار في المواضيع التقنية مع صوت متشنج وحركة أيدي دؤوبة
- من قيس سعيّد إلى ألفة الحامدي: هل الشعبوية قدرنا؟
في حملته "التفسيرية" (الانتخابية)، وعد رئيس الجمهورية الحالي، بقلب الهرم وإعطاء السلطة للشعب الذي "يريد ويعرف ماذا يريد". عمل ساكن قرطاج أيضًا عندما كان مرشحًا للانتخابات على معاداة النخب ومقاطعة الإعلام واستثمر في جراح العشرية الأخيرة والمشاعر الحزينة كما يسميها الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي.
يبدو أن ألفة الحامدي تمكنت من إرساء خطاب مشابه لرئيس الجمهورية يدغدغ مشاعر من خذلهم المسار الديمقراطي. ففي برنامجها الاقتصادي، تشير إلى أنّها في أفق 2030 ستضاعف أجور التونسيين، وتجلب أكثر من 18 مليون سائح مع توسعة للمطارات التونسية بالإضافة إلى إعطاء الفلاحة أولوية من خلال تشجيع الفلاحين على الاستثمار وتمكينهم من الأراضي.
أهداف تبدو في ظاهرها نبيلة ولكن جمالها يخفي وَهَناً على مستوى آليّاتِ التطبيق. كيف يمكن أن ننهض بمجال الفلاحة الذي يشهد عزوفًا للشّباب (أكثر من 80 بالمائة من النشيطين في القطاع يتجاوز سنهم 55 سنًا) دون أن نرصد أموالاً طائلة لتمكينهم من الاستثمار؟ كيف يمكن أن تضاعف أجورًا ونحن نعاني من إشكالية على مستوى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ولا نعلم أي طريق نسلك والبلد على حافّة الانهيار (أسعفنا البنك الدولي، منذ فترة قصيرة ب400 مليون دولار كمساعدات اجتماعيّة)؟
بأيّ آليات يمكن لحزب الجمهورية الثالثة أن يوفر موارد مالية لتوسيع المطارات وجلب 18 مليون سائح في بلد مازال يعاني من آثار الأزمة الصحية التي قضت على جزء كبير من العاملين في القطاع؟ هل من المعقول طرح هذه النقاط والتعهد بتحقيقها في غضون ثماني سنوات دون التعرّض لأدقّ التفاصيل والاكتفاء بالخطاب الطامح للتغيير؟ هل يكفي التمني لتغيير سياسات بلد بأكمله؟
للإجابة عن كل هذه الأسئلة تعتمد الحامدي على وصفة سحرية مفعمة بالحلم الأمريكي: تغيير العقليات. نعم، تسعى مؤسِّسَةُ الحزب الوافد إلى تحقيق كل هذه النّقاط في ثماني سنوات من خلال الاشتغال على تغيير العقليات، وطبعًا، لا يحق لأحد أن يسأل عن كيفيّة تغيير حزب جديد لهذه العقليات التونسية ورئيسته لم تكمل بعد شهرها الأوّل في المشهد السياسي.
الأهم لديها هو التطلع إلى الحلم الأمريكي وفتح ما تبقى من أبوابنا لاستقبال السياسات النيوليبرالية وتعزيز الريع في مختلف المجالات وترسيخ المغالطة القائمة على ضرورة تسهيل الاستثمارات الخارجية مهما كان الثمن
لا تَسْأَل عن كل ذلك لأن الأهم هو التطلع إلى الحلم الأمريكي والحديث عن إدارة المشاريع الكبرى، وفتح ما تبقى من أبوابنا (ولم لا أحضاننا أيضاً!) لاستقبال السياسات النيو ليبرالية وتعزيز الريع في مختلف المجالات وترسيخ المغالطة القائمة على ضرورة تسهيل الاستثمارات الخارجية مهما كان الثمن حتّى وإن كان على حساب قوت التونسيّين.
اقرأ/ي أيضًا: تعيين ألفة الحامدي رئيسة مديرة عامة للخطوط التونسية
- صخرة الاتحاد أو في فن الخسارة قبل أن تبدأ المعركة
نقطة أخرى لفتت الأنظار في خطاب ألفة الحامدي، وهي عداؤها للاتحاد العام التونسي للشغل. أو بالأحرى، للأمين العام والإشارة إليه بالاسم والصفة. والمتأمل في مسارها - القصير جدًا - يفهم أن الخصومة بدأت منذ محاولتها البروز في ثوب "السوبر وومن" في شركة "التونيسار".
تعود الحامدي بحزب جديد إذًا، حالمة بثأر تتوهم أنها قد تحقّقه إذا ما هاجمت الاتحاد. ههنا، تتضح الصورة بشكل جلي. ويظهر البعد "الأمريكاني" الذي يرفض كل نقابة وكل متحدّث باسم الطبقات العاملة. والحقيقة أن الاستراتيجية التي تتبعها السيّدة ألفة لا تخلو من ذكاء. فهي تحاول أن تقدم المنظمة الشغيلة وكأنها انحازت عن دورها الأساسي وهو الجانب الاجتماعي لمنظوريها مشيرة إلى "المنسوب السياسي المرتفع" للنقابة الذي - حسب رأيها - ساهم في ابتعادها عن مهامها الحقيقية.
والهدف من هذا الخطاب مزدوج: تأليب الرأي العام على الاتحاد والبروز كحريصة على الطبقة الكادحة وتمهيد الطريق لبلد ومنظومة نيو ليبرالية بنقابات ضعيفة لا وزن لها في المشهد كما تتخيّله السيدة ألفة الحامدي.
تحمل في خطابها تأليبًا للرأي العام على الاتحاد ومحاولة البروز كحريصة على الطبقة الكادحة وتمهيدًا لبلد ومنظومة نيو ليبرالية بنقابات ضعيفة لا وزن لها في المشهد كما تتخيّله السيدة ألفة الحامدي
في روايته "أمريكانلي"، رصد الروائي المصري صنع الله إبراهيم تفاصيل أمريكا، ذلك البلد الذي يدّعي الديمقراطية والتي عادةً ما يسقط العرب في فخ الانبهار بها وخطأ المقارنة مع بلدانهم. فهل تلعب الحامدي دور شخصيّة صنع الله، ذلك البروفيسور الستيني الذي تاه في تفاصيل سان فرانسيسكو وسقط في المقارنات؟
فالمقاربة التي تقدمها ألفة الحامدي فيما يتعلق بالعمل النقابي عمومًا والاتحاد بشكل خاص لا تأخذ بعين الاعتبار عراقة هذه المنظمة وامتدادها التاريخي وعمقها الشعبي الذي لعب دورًا مهمّاً في مختلف المراحل التي مرت بها بلادنا.. ولا نعلم هل تجهل الوافدة الجديدة على المشهد السياسي التونسي ذلك أم أنها تتعمّد التغاضي عن الأمر طمعاً في تحقيق شيء من الحلم الأمريكي (الزّائف؟). لا يبدو أن الإجابة قد تغير كثيرًا في واقع الحال، ففي كلتا الحالتين هي معركة خاسرة قبل أن تبدأ.
اقرأ/ي أيضًا: إقالة ألفة الحامدي من مهامها على رأس الخطوط التونسية
- زيتونة متجذرة في الشرق أم مجرّد شعار للغرب؟
اتخذت ألفة الحامدي، ومن معها، شعار الزيتونة كرمز للحزب الجديد. وهي إشارة إلى الأصالة والشجرة المباركة التي ذكرت في القرآن.
يرى الفيلسوف الفرنسي رولان بارت أنّه من المستحيل التصرف على أن اللّغة والرموز عمومًا بعيدة عن البراءة وهي تنقُل بالضرورة مجموعة من الدلالات من حيث المعنى.
والحقيقة أن الشعار الذي تم اختياره للحزب يطرح أكثر من تساؤل إذا ما قاربناه من هذه الزاوية. فالحامدي تشرح نظريات غريبة وتريد إسقاطها على الواقع التونسي (كالحديث مثلاً عن رقمنة التعليم ونحن نعاني من مشاكل في البنية التحتية! أو مضاعفة الإنتاج الطاقي في مجال المحروقات والطاقات البديلة ونحن لم نشرع في مشاريع جديّة تتعلق بالطاقات المتجدّدة. فبأيّ منطق نتحدّث عن مضاعفتها؟). وهنا، يمكن أن نستنتج أنه على المستوى الرمزي على الأقل ثمة تضارب صارخ بين الخطاب وشعار الحزب الذي اتُّخِذ كواجهة لمزيد إضفاء نوع من الشرعية التي تطمأن الناخب أمام مخاتلات تكنوقراطيّة وخطاب أجوف يعد بجنة وهميّة.
ترى ألفة الحامدي تونس بعيون الأمريكي (أو الغربي عموماً) وهي بالتالي تقرأ المشهد ولا تأخذ بعين الاعتبار الواقع التونسي وسياقاته. ونتيجة لذلك، تقدّم مجموعة من البرامج والحلول التي لا يمكن أن تطبَّقَ
ترى ألفة الحامدي تونس بعيون الأمريكي (أو الغربي عموماً) وهي بالتالي تقرأ المشهد ولا تأخذ بعين الاعتبار الواقع التونسي وسياقاته. ونتيجة لذلك، تقدّم مجموعة من البرامج والحلول التي لا يمكن أن تطبَّقَ في بلد يحتاج إلى قراءة عقلانية رصينة وخاصّة تحديد للأولويّات. فالواضح أن رئيسة حزب الجمهورية الثالثة هي حتمًا تدعي أنها المنقذة من منطلق الأحاسيس والمشاعر التي تكنها لهذا البلد ولكنها تستورد حلولًا طوباوية تتوفّر سياقات وشروط نجاحها في تونس.
فهل تنجح من قلبها للشّرق وعقلها للغرب، بعبارة الفيلسوف مهدي عامل، في غواية الناخب التونسي؟
*عنوان المقال مستوحى من كتاب للفيلسوف والكاتب مهدي عامل بعنوان "هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ (ماركس في استشراق ادوارد سعيد)، دار الفرابي، 2006.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: