أطلق ذوو الأطفال والنساء التونسيين العالقين في السجون الليبية تحديدًا في مدينتي مصراتة وطرابلس صيحة فزع أمام تصاعد وتيرة الصراع العسكري الميداني في ليبيا خاصة بعد وقوع قصف جوي استهدف مواقع قريبة من سجن يقبع فيه العالقون منذ حوالي 3 سنوات رغم عدم إصدار أحكام قضائية في حقهم، وفق العائلات.
وأدى غياب المعلومة من الجهات الرسمية الليبية، وتواتر أنباء غير مؤكدة عن إطلاق سراح المساجين في العراء أمام تجاهل مستمرّ للسلطات التونسية للملف، إلى معاناة الأسر التونسية وخوفها على مصير نسائها وأطفالها.
اقرأ/ي أيضًا: الأطفال التونسيون العالقون في ليبيا.. مواطنون مع وقف التنفيذ
جدة تبحث عن استرجاع أحفادها الثلاثة
بصوت متقطّع تبكي السيدة بشرى أحفادها الثلاثة في ليبيا الذين يتراوح أعمارهم بين 4 و7 سنوات، وقد ضاع أكبرهم في الطريق الرابطة بين مصراتة وسرت.
تشكو الجدة الستينية، في حديثها لـ"ألترا تونس" عدم تجاوب مختلف الإدارات في تونس مع طلباتها المتكررة واستغاثاتها لانتشال الأطفال من سوء الحال في السجن، بعد مقتل والدهم.
بشرى (جدّة 3 أحفاد عالقين في ليبيا): سيُعزل الطفل الصغير عن أمه وسيودع في سجن الرجال، لا أستطيع توقع ما يمكن أن يحصل له
تقول" "فقد الطفل الصغير كل أسنانه، وبعد فترة قصيرة سيُعزل عن أمّه وسيودع في سجن الرجال الذين يقضون أحكام سجن مختلفة، لا أستطيع توقع ما يمكن أن يحصل للصغير".
وتواصل: "إصابتي بجلطة وضعف البصر منذ فقدان ابني وزوجته وأحفادي لم تمنعني من زيارة الأطفال في السجن في ليبيا، ظروفهم صعبة للغاية، لقد تساقط شعرهم، يعانون سوء التغذية ونقص اللباس. تضطر الأم لإقناع ابنها الصغير أن الصاروخ الذي سقط على مقربة منهم هو نجمة سقطت من السماء".
في ليبيا، وكّلت السيدة بشرى محامي لإرجاع الأطفال وأمهم إلى تونس، في قضية انتهت بالحكم باستعداد ليبيا لإرجاع التونسيين أحياء أو أمواتًا إلى بلادهم.
الهلال الأحمر الليبي لـ"ألترا تونس": عودة بلا قيد أو شرط
بعد اتصالات مكثفة بالمسؤولين عن الملف في الجانب الليبي، خاصة مع شحّ المعلومات بالخصوص منذ شهر جانفي/كانون الأول الماضي، تواصل "ألترا تونس" مع رئيس الهلال الأحمر فرع مصراتة نجيب الرّايس الذي عبر عن استعداد لتسليم الأطفال التونسيين اليتامى إلى ذويهم في أي وقت دون قيد أو شرط، مؤكّدا أنهم يتعاملون مع ملف الأطفال كحالات إنسانية.
نجيب الرايس (الهلال الأحمر الليبي) لـ"ألترا تونس": لدينا 6 أطفال تونسيين وضعهم النفسي غير مستقر لأنهم ينتظرون العودة إلى أهاليهم بفارغ الصبر
وقال إنه يوجد 6 أطفال تونسيين وهم بخير لكن وضعهم النفسي غير مستقر لأنهم ينتظرون العودة إلى أهاليهم بفارغ الصبر خاصة بعد عودة أغلب الأطفال من الجنسيات الأخرى.
كما أشار إلى حاجة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و11 سنة للدراسة، بالنظر إلى تعذر ذلك في المدارس الليبية خوفًا على سلامتهم مبينًا أن الإمكانيات البسيطة للمنظمة لا تمكّن من توفير كل الحاجيات للأطفال.
ودعا محدثنا السّلطات التونسية إلى ضرورة اتخاذ التدابير الضرورية والعاجلة لتسلّم الأطفال وتأمين عودتهم إلى حياتهم الطبيعية في بلادهم.
وكان الهلال الأحمر الليبي قد نظم ندوة صحفية حضرها الأطفال بوجوه مكشوفة أعلن خلالها إمهال السلطات في تونس شهرًا واحدًا لتسلّم الأطفال الستة اليتامى الذين تعهّد برعايتهم بعد مقتل آبائهم أثناء عملية البنيان المرصوص ضدّ "داعش" في سرت شهر ديسمبر/ كانون الأول 2016.
في الشهر ذاته، كان وفد تونسي مكوّن من ممثلين من الخارجية التونسية والشرطة الفنية في زيارة لمقر الهلال الأحمر الليبي في مصراتة بهدف أخذ عينات للتحقق من الأطفال غير المصحوبين، في خطوة، وصفها الكثيرون في تونس وليبيا على أنها متقدمة لإتمام إجراءات إعادة الأطفال العالقين إلى ذويهم وإقفال الملف، إلا أن تقارير اللجنة لم تر النور إلى يومنا هذا.
عن تقاعس الدولة التونسية
لا يفوّت منصف العبيدي، عضو جمعية إنقاذ التونسيين في الخارج وخال الطفل براء الموجود في سجن معيتيقة بطرابلس، الفرصة للتذكير بقضية الأطفال العالقين، وذلك عبر تعليقاته المستمرة على كل الصفحات الرسمية لوزارة العدل الليبية، وقوات الردع الخاصة، والهلال الأحمر وغيرها من الأجهزة المعنية في ليبيا.
أما في تونس، لم تثن النتائج السلبية وسياسة ذرّ الرماد على العيون الخال من مواصلة اتصالاته ومراسلاته إلى وزارة الخارجية التونسية ومجلس الأمن القومي برئاسة الجمهورية وغيرها، سعيًا لإعادة الأطفال والنساء في ليبيا.
لا يزال يكابد الأجداد من أجل إرجاع الأحفاد العالقين في السجون الليبية إلى تونس (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)
اقرأ/ي أيضًا: "14 فردًا من عائلتي في سوريا": تونسية تروي لنا قصّتها
في فيفري/ شباط الماضي، تحدثت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بصراحة عن "تقاعس المسؤولين التونسيين في إعادة أطفال تونسيين محتجزين دون تُهم في معسكرات وسجون أجنبية". ونقل بيان المنظمة عن ليتا تايلر، باحثة أولى مختصة في الإرهاب ومكافحة الإرهاب، أن "المخاوف الأمنية المشروعة لا تبرّر تخلي الحكومات عن الأطفال ومواطنين آخرين محتجزين في معسكرات وسجون بائسة في الخارج. هناك أطفال تونسيون عالقون في هذه المعسكرات بلا تعليم ولا مستقبل، ولا أمل لهم في الخروج من هناك وحكومتهم لم تُقدّم أي مساعدة تُذكر".
وأضافت "هؤلاء الأطفال وأمهاتهم عاجزون عن مغادرة المعسكرات والسجون المغلقة والعودة إلى بلادهم بمفردهم. تركهم يواجهون مصيرهم في معسكرات وسجون أجنبية سيضاعف معاناتهم وقد يفاقم شعورهم بالظلم".
في تعليق لها حول الملف، قالت وزارة الشؤون الخارجية التونسية، في وقت سابق، أن تونس "تولى أهمية خاصة لحالات الأطفال المحتجزين في إطار إيمانها الراسخ بحقوق الإنسان". وهي الإجابة اليتيمة إن وجدت التي تُقدّم لأهالي المحتجزين وفق ما أفاد به عدد ممن التقيناهم.
مصطفى كرواد (عميد مصراتة) لـ"ألترا تونس": السلطات التونسية تماطل في تسلم النساء والأطفال التونسيين العالقين دون موجب قضائي
في السياق ذاته، ألقى عميد بلدية مصراتة مصطفى كرواد، في حديثه لـ"ألترا تونس"، باللوم على الطرف التونسي لما أسماه بالمماطلة والتلكؤ في تسلم النساء والأطفال التونسيين العالقين دون موجب قضائي.
ونفى محدّثنا ما يروج من أنباء حول إطلاق سراحهم في ليبيا مشيرًا أن ذلك يخضع في كل الأحوال إلى إجراءات قضائية على مستوى النائب العام الليبي ووزارة العدل وتنفيذ اتفاقيات أمنية وقضائية بين البلدين.
واستغرب كرواد التعامل السلبي من السلطات التونسية مع الملف وعدم ايفائها بالتزاماتها فيما يخص التعاون الأمني سواء تعلق الأمر بتسلم النساء والأطفال الناجين من الحرب على داعش في سرت، أو فيما يخص تسليم قتلة محمد الشتيوي لمحاكمته في ليبيا.
رسائل من السجينات إلى ذويهم
في مبنى الكلية الجوية في مصراتة، يوجد 11 طفلاً مع 10 أمهات تونسيات، وتطالب النساء، وفق ما أخبرتنا به هاتفيًا مديرة المنظمة العربية لحقوق المرأة وعضو منظمة "أوهارد" الهولندية مبروكة بسيكري، بالعودة إلى تونس وإن كلفهن ذلك السجن.
وفي طرابلس، يزداد الوضع الأمني سوءًا يوم بعد يوم، وقد قصفت مؤخرًا القوات التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر مواقع في معيتيقة وأحواز طرابلس أفضت إلى إصابة مطار المنطقة وعددًا من المدنيين كل مرة. ويقبع في سجن معيتيقة 20 طفلًا و14 امرأة من ذوي الجنسية التونسية فُقد الاتصال بهم كليًا منذ أشهر بحسب شهادات أقربائهم.
بعض الرسائل الشحيحة التي وصلت بعض الأهالي اطلع "ألترا تونس" على عدد منها ورد فيه: "بابا بالله عليك شفولنا حل والله رانا تعبنا برشا الكل صغار وكبار وأنتم عارفين الوضع يا بابا أنا خلاص باش ندخل في حالة نفسية صعيبة ما نجمش نحكي بس يا ريت تكون تشوف في الوضع متاعنا يا روحي"، هكذا خاطبت إحدى السجينات والدها.
مقتطف من رسالة لسجينة تونسية عالقة في ليبيا (خاصّ/ألترا تونس)
وفي أخرى، نقلت سجينة منذ حوالي شهر الذعر الذي عرفته النساء والأطفال التونسيين بسبب القصف والجوع وانقطاع زيارة المنظمات الحقوقية جراء تدهور الوضع الأمني، ونقلت تذكير سجانيها الدائم بأن بلادهم هي التي تخلت عنهم وهو ما يحز في أنفس هؤلاء العالقين الذين يتابعون باهتمام ما يجري في تونس علّهم يظفرون بنبأ عودتهم الذي لم ييأسوا بعد من انتظاره رغم ما يعتبرونه تهاون السلطات التونسية.
ولم يخف وليّ إحدى السجينات، تحفّظ عن ذكر اسمه، توجّسه من تدهور الأوضاع الإنسانية في صفوف النساء والأطفال وانتشار مرض معد في السجن.
تحدثت سجينة تونسية في إحدى رسائلها أن سجانيها يقولون دائمًا للتونسيين العالقين أن بلدهم تونس هي من تخلّت عنهم
وقال في حديثه لـ"الترا تونس" إن منظمة الصليب الأحمر الدولي في تونس تراجعت عن دورها الإنساني في هذه الملف بعد أن كانت تعهدت بإرسال الأغذية واللباس الى السجينات والأطفال مرة كل ستة أشهر على الأقل وهو ما لم يتم منذ أكثر من عام على حدّ قوله. ولم يتسن لـ"ألترا تونس" الحصول على تعليق المنظمة بالخصوص.
ولم يخف الأب بدوره "مماطلة السلطات في تونس وعدم الجدية في حل هذا الملف"، مستغربًا محاولات طمس كل مبادرة جادة للعودة بالعالقين، وفق تقديره.
محمد إقبال بن رجب (جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج): لا يوجد قرار سياسي
قراءة جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج، المشرفة على هذا الملف منذ 2016، جاءت على لسان رئيسها محمد إقبال بن رجب الذي أفاد "ألترا تونس" أن قرارًا سياسيًا يعطّل التقدّم في حل الملف وتأمين عودة العالقين.
وفسّر عقدة هذا الملف والتململ الحاصل على مستوى السلطات التونسية بالخوف من أن تتلو عودة الأطفال والنساء عودة المقاتلين الإرهابيين أيضًا، وليس في ليبيا فقط ولكن في كل الدول الأخرى. ورجّح أيضًا عدم الجاهزية اللوجيستية لاستقبال وتأهيل العائدين من نساء وأطفال.
ووصف بن رجب خطوة إرسال لجنة فنية تونسية لأخذ عينات الأطفال اليتامى لدى الهلال الأحمر الليبي مطلع العام بـ"كلمة حق أريد بها باطل"، وبمضيعة للوقت خاصة وأن الأطفال يتواصلون مع أهاليهم.
تفسّر جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج تململ السلطات التونسية بالخوف من أن تتلو عودة الأطفال والنساء عودة المقاتلين أيضًا
وأحصى محدّثنا أكثر من 16 تحركًا ورسالة في هذا الصدد نظّمتها الجمعية بحضور ومشاركة ذوي العالقين توجّهوا بها إلى المعنيين بهذا الملف في الحكومة التونسية "كانت نتيجتها صفر"، وفق تعبير محدثنا مستثنيًا ردًا يتيمًا من المندوب العام لحماية الطفولة مفاده أن الملف يحظى بالمتابعة اللازمة.
وفي العاشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، تناول لقاء ثنائي جمع رئيس الجمهورية قيس سعيّد برئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج ما أسماه بلاغ رئاسة الجمهورية "المسائل الإنسانية العالقة وتم التأكيد على ضرورة إيجاد حلّ للأطفال التونسيين المحتجزين بليبيا". ويُذكر أن دولتي مصر والسودان نجحتا في تأمين عودة الأطفال من حاملي جنسية البلدين إلى بلدهم.
ختامًا، ينص الفصل 47 من الدستور التونسي أن الدولة تقوم بـ"توفير جميع أنواع الحماية لكلّ الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطفل"، لكن يبدو أن الدولة في تونس لا ترى استرجاع حوالي 37 طفلًا تونسيًا إلى بلدهم من واجباتها، بما يساهم في وصم هؤلاء الأطفال أنهم "أطفال داعش"، لتستمرّ هذه المأساة في انتظار أن تصحو الدولة من سباتها وتنقذ هؤلاء الأطفال الضحايا.
اقرأ/ي أيضًا: