02-مايو-2019

لا تزال عائلة الشاب التونسي عالقة إلى اليوم على الحدود السورية التركية (صورة تقريبية/أ.ف.ب)

 

"والله يا محمد ما تتصورش قداش ستاحشت تونس وخاصة القيروان.. بلادك بلادك كان تبيعلي تو حفنة تراب من تونس نشريها من عندك بلي تحب"، هذه رسالة شاب تونسيّ عاش تجربة أليمة مع "داعش" جعلته يندم على تلك اللّحظة التي غادر فيها بلده. ولكنّ ما قيل إنه ندمه لم يشفع له أمام ما كان يحبك له من هذا التنظيم الإرهابي إذ استهدفه تفجير داخل منزله مع زوجته التونسيّة بعد محاولات متكرّرة له للهروب.

أوس الخشيني هو من أبناء حي بن الجزّار من منطقة المنصورة بولاية القيروان، أين التقى "ألترا تونس" والدته التي تعمل جاهدة على إرجاع أحفادها العالقين إلى اليوم في منطقة أعزاز على الحدود السوريّة التركيّة.

أوس "البحّار" هو شاب تونسي سافر إلى سوريا قبل مقتله بتفجير منزله ولا تزال عائلته عالقة بمنطقة أعزاز على الحدود السورية التركية

اقرأ/ي أيضًا: "14 فردًا من عائلتي في سوريا": تونسية تروي لنا قصّتها

الطريق لمنزل "داعشي" كان في حدّ ذاته مغامرة مخيفة، فلا تتخيّلون الكمّ الهائل من الأفكار والسيناريوهات التي تبادرت إلى ذهني على امتداد مسافة الطريق. كيف ستكون ملامح هذه العائلة؟ كيف ستتفاعل "أمّ الإرهابي" مع الحوار؟ كيف يمكن بلورة موقف شخصي من قضيّة الأطفال العالقين في بؤر التوتّر؟ وغيرها من الأسئلة التي لم يخمد ضجيجها سوى لحظة لقائي بالسيّدة تحيّة السبوعي.

حيّ بن الجزّار هو حيّ يخيّم عليه الحزن منذ أن تعترضك منازله الأولى كيف لا وقد سافر منه حوالي 12 شابًا لسوريا توفّي 7 منهم والبقيّة بين مفقودين وعالقين، من بينهم المهندس والعاطل عن العمل، وفيهم الملتزم ومن كان يتعاطى المخدّرات وأيضًا فيهم الهارب من واقع مرير والباحث عن تجربة جديدة بلون الموت.

من رسائل أوس الخشيني إلى عائلته بعد "ندمه"

 

أوس الخشيني شاب من هذا الحي، من مواليد 1984 وبمستوى دراسي باكالوريا مع دراسة سنتين في الجامعة، سقط قتيلًا بعد تفجير مسكنه بسوريا في جوان/يونيو 2018.

عند الوصول لمنزل أوس بالقيروان، كانت في انتظارنا "خالتي تحيّة" امرأة ستينيّة تستطيع استشعار حزنها منذ الوهلة الأولى، فلم يكن هناك بدّ لتتكلّم حتى نعرف كمّ الحرقة واللوعة التي تحملها في نفسها.

أدخلتنا بيتها المتواضع بأثاثه والفاخر بكرم أهله. بيت ساكن سكون الموت لا تسمع فيه سوى أنّات الجدّة التي أعياها المرض. جلسنا في غرفة الجلوس وانضمّ إلينا ابنها محمّد، وانطلق حديث الذاكرة وفتحت لنا أمّ أوس قلبها المليء بالرجاء وكأنّها تستجدي فينا المساعدة بعد أن أغلقت أمامها كلّ الأبواب.

رحلة الموت انطلقت منذ قرصنة سفينة "حنبعل 2"

يتحدّث محمد لـ"ألترا تونس" عن أخيه الأكبر قائلًا: "أوس أكبر مني بسنة ونصف وكان ككلّ الشباب يعيش حياته بين سهر ومسامرة للأصدقاء.. ضحوك وطليق اللسان وقد جاب عديد البلدان بحكم عمله بسفينة حنبعل 2 التي وقعت قرصنتها في سبتمبر/ أيلول 2010".

ووشوش لنا محدثنا في محاولة للإخفاء عن والدته: "عيب أوس الوحيد الحشيش.. كان يستهلك كثيرًا مادّة الزطلة". ويضيف أن حادثة اختطاف أخيه كانت السبب الرئيسي في تغيّر حالته وأنّ لحركة الشباب الصوماليّة، جهة الاختطاف، دور كبير في دمغجته على حدّ قوله. وأوضح أنّه قد تواصل معه وهو محتجز وأخبره أنّ الله نجّاه وأعانه أن يتجاوز عديد المصائب وأنّه تاب وأصبح يصلي، على حد تعبيره.

محمّد (ِشقيق أوس): تغيّرت حالة أخي بعد اختطافه حينما كان يعمل بحارًا سنة 2010 إذ تعرض للدمغجة على يد حركة الشباب الصومالية

وتضيف الخالة تحيّة متنهّدة: "ابني تعرّض لعديد الممارسات المشينة أثناء اختطافه وكان على الدولة عرضه هو وأصدقاؤه على إخصائيين نفسيين. فقد وقع افتكاك مؤونتهم حتى أنهم أصبحوا يشربون ماءً صدئًا بعد تغليته وأخبرني أنّ قراصنة يتراوح أعمارهم بين 13 و14 سنة هم من كانوا يحرسونهم باستعمال الأسلحة".

الخالة تحيّة والدة أوس الخشيني (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

وقع إطلاق سراح المجموعة المختطفة لاحقًا لكن وجد أوس نفسه عاطلًا عن العمل بعد أن أغلقت الشركة التي كان يعمل بها، ورفض كلّ محاولات أهله لاصطحابه إلى طبيب نفسي.

اختار الانزواء والعزلة، يمضي يومه بين جدران غرفته ولا يرافقه سوى حاسوبه وشبكة الأنترنت. وبعد أن كان يبحر استمتاعًا بالحياة، أصبح يبحر بين أروقة الموت على الشبكة العنكبوتيّة. وفي مارس/آذار2011 بعد الثورة، تغيّرت هيئة أوس وأصبح يرتدي قميصًا أفغانيًا ويسبل لحيته. تغيّر أيضًا خطابه وطباعه وبدأت تظهر عليه علامات التزمّت، وفق عائلته.

اقرأ/ي أيضًا: الأطفال التونسيون العالقون في ليبيا.. مواطنون مع وقف التنفيذ

تتحدّث الخالة تحيّة عن الأمر قائلة :"لقد وقع استقطاب ابني عن طريق الأنترنت، وجدنا له عام 2012 عملًا لكنّه لم يرد أن يتخلّص من لحيته. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2012، أصبح يتاجر ببعض المعدّات الالكترونيّة التي كان قد جلبها من الصين أيام اشتغاله بسفينة حنبّعل وأخبرني أنّه يريد أن يفتح مشروعًا مع صديق له في ليبيا".

ليبيا كانت بوّابة أوس للذهاب إلى سوريا مع بداية الثورة السوريّة وبداية ظهور الجيش الحر، ولم يصارح سوى أخاه محمّد بالأمر وكتم الأمر عن بقيّة العائلة.

رحلة الموت إلى سوريا

قبيل عيد الأضحى بأيام، في أكتوبر/تشرين الأول 2012، سافر أوس إلى رأس جدير، المعبر الحدودي بين تونس وليبيا، تاركًا أمّه في حيرة من أمرها فلم تقتنع بما أخبرها به خاصّة وأنّه قام بحلق لحيته ليلة سفره وهذا ما جعلها تتوجّس الأمر.

وبعد ربع ساعة من خروجه، صارحها ابنها الآخر محمّد بالحقيقة فسارعت لطلب شرطة النجدة وتنقّلت مرتعبة لمنطقة الأمن وأخبرتهم التفاصيل.

تحيّة (والدة أوس): لا أزال أطالب أعضاء الحكومة أن يبحثوا عمّن سفّر ابني إلى سوريا وأنا متأكّدة من وجود تواطئ من قبل مسؤولين

تسترجع أمّ أوس الحادثة منفعلة: "عندما أخبرني محمّد بأنّ أخاه كان متوجّهًا لسوريا "قلبي تشوى وخرجت كالمهبولة"، أدليت بأقوالي بمنطقة الأمن بالمنصورة وترجّيت الأعوان أن يمسكوا ابني في رأس جدير ولكن ما حصل أنّه اتّصل بي في الغد وأخبرني أنه في ليبيا. كيف حصل هذا؟ لقد قدمت بلاغًا من أم ملتاعة فكيف لم يستطع الأمن منعه من العبور؟ لو لم أستنجد بالشرطة لكنت لحقت ابني وأنقذته من رحلة الموت وإلى الآن لا ازال أطالب أعضاء الحكومة أن يبحثوا عمّن سفّر ابني وأنا متأكّدة من وجود تواطئ من قبل مسؤولين".

تسترسل الخالة تحيّة في بكاء حارق ويواصل عنها محمّد الحديث: "صدمتي كانت قويّة عندما علمت بوصول أخي للتراب الليبي، فقد كنت أتوقع أن يُقبض عليه في رأس جدير من ثمّ يسجن مدّة من الزمن ويخرج. لكنّه أعلمني قبيل موته أن العون بالمركز الحدودي براس جدير قال له إننا على علم أنّك مسافر لسوريا وسلّموني جواز سفري، من أعطى هذا الأمر؟".

من رسائل أوس الخشيني بعد سفره إلى سوريا إلى أخيه محمد

 

خيّم الصمت على المكان، صمت يحبس الأنفاس وجعلني أفكّر في آلاف الشباب الذين هاجروا وآلاف العائلات الذين التاعوا من فراقهم.

يسترسل محمّد قائلًا: "سافر أخي قبل أن تظهر داعش بسنة ونصف حيث انطلقت رحلته مع الجيش الحر من ثمّ جبهة النصرة بين 2014 و2015. كان أخي داعشيًا يلقّب بـ"حمزة الحمزة " وكان يعتبر جميع العائلة كفرة مشركين وكنت الوحيد الذي يستطيع التواصل معه دومًا ولم يكن متجاوبًا معي سوى عندما أخبرته أنني مقتنع بالفكر الداعشي وقد كنت أحادثه عبر تطبيقة الواتساب".

وتضيف والدة محمّد متنهّدة: "لقد ندم ابني كثيرًا عندما اكتشف أن داعش كذبة وأنّها تتعامل مع إسرائيل وأصبح يلقّبهم بالكلاب ولكن لم ينفعه ندمه فقد كان خائفًا من العودة إلى الديار ومع ذلك فقد حاول كثير المرّات إلاّ أنّه فشل".

كيف كانت رحلة أوس وسط تنظيم "داعش"؟ ما حيثيات خروجه عن هذا التنظيم ولماذا وقع تفجيره؟ ما مصير أبنائه العالقين بالحدود السوريّة التركيّة خاصّة أنّ وصيّته الوحيدة لأخيه كانت حرفيًا :"محمد كان صارتلي حاجة صغاري وأمهم في رقبتك أمانة"؟. يُتبع.

 أوس الخشيني يوصي أخيه بالاهتمام بعائلته في صورة حصول مكروه له

 

اقرأ/ي أيضًا:

عودة المقاتلين إلى تونس.. الإطار والسيناريوهات

حوار في السياسة الاتصالية لـ"داعش" مع محمد المعمري مؤلف "في كلّ بيت داعشي"