30-أبريل-2022
البركة صالح حبيبي أ.ف.ب

تشهد سوق الذهب في تونس ركودًا بسبب ارتفاع أسعاره المتواصل (صالح الحبيبي/أ.ف.ب)

 

يشهد سوق "البِركة" لبيع المصوغ والحلي بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة حركية لافتة استعدادًا لموسم حفلات الخطوبة التي يخير التونسيون إقامتها في الأعياد أو في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم.

الحركية الكبيرة ساهمت في انتعاش سوق الذهب الذي يشهد ركودًا قياسيًا خلال فصل الشتاء وعزوفًا من قبل المواطنين الذين تدهورت مقدرتهم الشرائية وحال الصعود اللافت لأسعار هذا المعدن النفيس دون الإقبال عليه. وبما أن إهداء الذهب للخطيبة أو للعروس عادة متجذرة في التقاليد التونسية فإن المقبلين على الزواج يضطرون لاقتناء ما خفّ وزنه من المصوغ بما يتناسب مع إمكانياتهم المادية التي ما فتئت تتدهور يومًا بعد يوم.

ارتفاع أسعار الذهب أرخى بظلاله على عموم التونسيين وعلى مهنيي وتجار المجوهرات بصفة خاصة الذين تذمروا من تراجع حركة البيع والشراء بشكل لافت مما أثر على تجارتهم

وقد ارتفع سعر غرام الذهب عيار 24 قيراطًا في معاملات يوم الجمعة 29 أفريل/نيسان 2022 ليبلغ 188.52، دينارًا كما بلغ سعر غرام الذهب عيار 22، 172.81 دينارًا، و164.95 دينارًا للغرام عيار 21، أما بالنسبة للذهب عيار 18 فقد ارتفع بدوره ليبلغ 141.39 دينارًا.

البركة
تشهد سوق "البركة" لبيع الذهب ركودًا (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

الارتفاع في الأسعار أرخى بظلاله على عموم التونسيين وعلى مهنيي وتجار المجوهرات بصفة خاصة الذين تذمروا من تراجع حركة البيع والشراء بشكل لافت مما أثر على تجارتهم وأحال العديد منهم على البطالة.

  • "اقتناء الذهب مقترن فقط بحفلات الخطوبة والزواج"

يؤكد الشاب أحمد، وهو بائع بمحل مجوهرات في سوق البركة، أن أسعار بيع الذهب للعموم ارتفعت بشكل مشطّ في الآونة الأخيرة ويعزى ذلك إلى ارتفاع سعر الذهب الخام وتراجع صرف الدينار التونسي مقابل الدولار، لافتًا إلى أن تجار المصوغ يحملون وزر هذا الغلاء غير المسبوق ويتضررون من عزوف التونسي عن اقتناء الذهب فيشهد السوق كسادًا على مدار السنة ولا ينتعش سوى في مواسم الأعياد وحفلات الزواج.

"عند الحديث عن انتعاشة في السوق فهذا لا يعني أن التجار يحققون أرباحًا تعادل أو تغطي نفقات محلاتهم ففترة مواسم الزواج وجيزة لا تتجاوز الثلاث أشهر، والعديد من الشباب استغنوا عن عادة شراء الذهب بسبب تفشي البطالة وهشاشة الوضع الاقتصادي بالبلاد وعوضوه بالحلي المقلدة، أما الفئة التي تحافظ على عادة اقتناء خاتم الخطوبة أو مصوغ الزواج فإنها تقتصر على اقتناء قطعة حلي واحدة لا يتجاوز وزنها سبعة أو ثمانية غرامات"، وفق البائع، مضيفًا في حديثه لـ"الترا تونس" أن أغلب رواد سوق البركة يقصدون متاجر بيع المصوغ لبيع ما يملكونه من ذهب بعد أن اضطرتهم الظروف لذلك.

أحمد (بائع بمحل مجوهرات) لـ"الترا تونس": أسعار بيع الذهب للعموم ارتفعت بشكل مشطّ في الآونة الأخيرة ويعزى ذلك إلى ارتفاع سعر الذهب الخام وتراجع صرف الدينار التونسي مقابل الدولار والتجار هم من يتحمّلون وزر ذلك

وفي هذا الصدد، أوضح رئيس الغرفة النقابية الوطنية لتجار المصوغ حاتم بن يوسف أن سعر الذهب في بتونس مرتبط بسعره في الخارج مثله مثل العملة الصعبة، مشيرًا إلى أن البنك المركزي هو المزود الوحيد للمادة الأولية "الذهب الخام" التي يستوردها من الخارج  ويبيعها للتجار بالسعر العالمي، على حد قوله.

البركة
ارتفاع أسعار الذهب أثرت على إقبال التونسيين على شرائه (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

وتابع، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن سعر الذهب عالميًا لم يرتفع بل شهد انخفاضًا من 63 دولارًا بالنسبة للغرام عيار 24 إلى 61.8 دولارًا، لكن سعر صرف الدينار التونسي مقابل الدولار، وهو العملة التي يشترى بها الذهب، يشهد تدنيًا متواصلًا في العشر سنوات الأخيرة ليتضاعف الدولار مرتين ونصف، وبالتالي ارتفع سعر الذهب في تونس بحوالي 50 بالمائة بالتزامن مع تدهور المقدرة الشرائية للتونسي واهترائها، حسب تأكيده.

وأشار بن يوسف إلى "وجود تخوفات سابقة من تأثير الحرب بين روسيا وأوكرانيا على أسعار الذهب لكن الأسعار العالمية شهدت انخفاضًا طفيفًا والارتفاع الذي يشهده سعر الذهب في تونس يعزى أساسًا إلى غلاء اليد العاملة". ولفت إلى أن "سعر الغرام عيار 18 لا يتجاوز 165 دينارًا في السوق على اعتبار أن تكلفته في الخام 130 دينارًا، ومع احتساب اليد العاملة والأداءات تبلغ تكلفته 150 دينارًا"، معتبرًا أن "أقل ربح في التجارة هو تجارة المصوغ لأن هامش الربح لدى التاجر لا يتجاوز 4 أو 7 بالمائة" وفق تعبيره.

حاتم بن يوسف (رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ) لـ"الترا تونس": سعر الذهب عالميًا شهد انخفاضًا، لكن تدني سعر صرف الدينار التونسي مقابل الدولار تسبب في ارتفاع بيع الذهب في تونس بحوالي 50%

وطالب رئيس غرفة تجار المصوغ بالتحرير الداخلي للقطاع والسماح للتجار المرخص لهم باقتناء الذهب واستعماله لتنتفع به اليد العاملة، قائلًا: "اليوم المواطن التونسي يقدم على بيع الذهب ليعيش وأحيانًا الذهب يفقد طابعه الرسمي من فرط الاستعمال فيباع بأدنى الأثمان ويحرم هذا الذهب من الدخول للحركة الاقتصادية ويستعمل أحيانًا للتهريب والأسواق الموازية"، وفقه.

البركة
عزوف التونسيين عن شراء الذهب في سوق البركة (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

كما طالب بـ"حل دار الطابع التي تعاين عيار الذهب وتضع الطابع الرسمي مقابل 750 مليمًا على الغرام الواحد"، مصرحًا: "صحيح أن المبلغ رمزي لكن عندما تصبح الكميات بالأطنان يصبح المبلغ المالي كبيرًا وهي مبالغ هامة تحرم منها الدولة"، على حد قوله.

رئيس غرفة تجار المصوغ: نطالب بالتحرير الداخلي لقطاع الذهب والسماح للتجار المرخص لهم باقتناء الذهب واستعماله لتنتفع به اليد العاملة

كما اعتبر أن تخصيص حصة 200 غرام من الذهب شهريًا للحرفيين غير كافٍ بالنظر للتطور الذي تشهده آلات صناعة الذهب وبالتالي يضطر التاجر إلى جمع حصصه من الذهب لمدة خمسة أشهر على الأقل ليشغل آلاته، مشيرًا إلى أن هذه الصعوبات المتراكمة نتيجة سياسة تغيير الحكومات التي تنتهجها البلاد منذ سنوات واهتمام هذه الحكومات بالجانب السياسي فقط، حسب رأيه.

  • "لا استغناء عن خاتم وفردة الخطوبة في عاداتنا"

يعتبر سوق البركة من أهم أسواق المدينة العتيقة ويقع تحديدًا بالقرب من قصر الحكومة بالقصبة وجامع الزيتونة وبعض الأسواق كسوق اللفة وسوق الباي ويتخذ السوق شكلًا مربعًا كما يحتوي على ثلاث أروقة تنتشر بينها محلات بيع الذهب وهي وجهة كل من يقرر اقتناء أو بيع الذهب والمجوهرات النفيسة.

البركة
كانت "البركة" سوقًا للنخاسة سابقًا وتحوّلت إلى سوق لبيع الذهب (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

وقد كانت "البركة" في عهد ولي العهد العثماني "يوسف داي" سوقًا للنخاسة معدًّا لبيع العبيد حتى تقرر إلغاء الرق في عهد أحمد باشا باي سنة 1846 ومن ثم تحول إلى سوق لبيع المجوهرات. 

تحملك الهندسة المعمارية لهذا السوق المسقف بقبة مرفوعة على أعمدة طويلة والمبلط بحجارة رطبة براقة إلى تاريخ ضارب في القدم، كما تشعر وكأن هذا السوق يفصل بين زمنين مختلفين فالجانب المعماري يشهد على عبق الماضي والجانب التجاري يشهد على الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.

أمين (شاب مقبل على الزواج) لـ"الترا تونس": عادة شراء الذهب للخطوبة والزواج تثقل كاهل الشاب التونسي الذي أصبح بدوره يتأخر في الزواج لسن الأربعين أو أكثر أحيانًا

"للمرة الثانية على التوالي أرتاد وخطيبتي ياسمين سوق البركة، لم نقرر بعد ما سنقتنيه لحفل خطوبتنا فالأسعار مرتفعة. لا أتحدث عن أسعار الذهب فحسب، بل إن أسعار كل مستلزمات الاحتفال ارتفعت في تونس لذا نحاول البحث عن خاتم في المتناول"، يرى الشاب أمين وهو عشريني خريج كلية الحقوق أن "هذه العادات تثقل كاهل الشاب التونسي الذي أصبح بدوره يتأخر في الزواج لسن الأربعين أو أكثر أحيانًا".

في المقابل، تعتبر ياسمين أنه "لا استغناء عن خاتم وفردة الخطوبة في العادات التونسية وأن معظم الأسر ترفض فكرة الاستغناء عن إهداء الذهب للفتاة حتى وإن كانت لا ترى مانعًا في ذلك".

البركة
عادة شراء الذهب في المناسبات تختلف من جهة إلى أخرى في تونس (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

جدير بالذكر أن عادة اقتناء الذهب خلال فترة الخطوبة أو الزواج أو المواسم تختلف من محافظة إلى أخرى فبعض المحافظات خاصة منها بجهة الساحل تحدد كمية الذهب التي يجب على الرجل إهداءها لشريكته كشرط من شروط الارتباط فيما تقتصر محافظات أخرى على بعض القطع الثمينة التي يتفق عليها العروسان. وعلى الرغم من أنه يعرف عن المجتمع التونسي بأنه حداثي ومتحرر فإن بعض الأسر تتشبث بالتقاليد والعادات المتوارثة جيلًا بعد جيل.