18-يوليو-2023
اتحاد الشغل

سعيّد المعادي للأجسام الوسيطة لم يتردّد في القطيعة مع اتحاد الشغل (صورة أرشيفية/عماد الحداد/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

بقدر ما يعكس قرار الحكومة التونسية إقالة 350 مدير مدرسة وتجميد أجور 17 ألف معلّم على خلفية تمسّكهم بحجب الأعداد المدرسية، تصعيدًا في مواجهة نقابة التعليم الأساسي وتوتيرًا للعلاقة مع اتحاد الشغل، فهو يظهر أنه لقي قبولًا لدى طيف واسع من أولياء التلاميذ الذين تضرّروا ممّا اعتبروه رهن أبنائهم في الصراع بين النقابة والسلطة.

 

 

خطاب قيس سعيّد الذي يتأسس على منطق قوّة الدّولة، هو خطاب جاذب لشريحة واسعة من التونسيين يرفضون "التغوّل النقابي"، طيلة السنوات الماضية، الذي يُتهم أنه يقف خلف تعطيل عجلة الاقتصاد والتنمية بسبب الإضرابات.

خطاب سعيّد الذي يتأسس على منطق قوّة الدولة، هو خطاب جاذب لشريحة واسعة من التونسيين يرفضون "التغوّل النقابي"، طيلة السنوات الماضية، الذي يُتهم أنه يقف خلف تعطيل عجلة الاقتصاد والتنمية بسبب الإضرابات

وأصبح بذلك الانتقال الديمقراطي رديفًا لضعف استجابة الدولة في مواجهة نضال نقابي تُطرح الأسئلة حول مشروعية بعض أشكاله. يتحدث البعض عن استقواء على الدولة. في خضم ذلك، وفي سياق مواجهة انهيار المسار الديمقراطي وعودة السلطوية، من المهمّ أن نطرق الباب لتشخيص عشرية انتقال ديمقراطي لم تكن حصيلتها جاذبة للتونسيين بصفة عامة.

تعدّدت عمليات سبر الآراء طيلة السنوات الماضية التي أظهرت ضعف الثقة العامة في النقابات في تونس، على وجه الخصوص في ظل سنوية العلاقة المتوترة بين الحكومات ونقابات التعليم بإضرابات طويلة المدى وحجب للأعداد ومقاطعة لمجالس الأقسام.

سؤال مشروعية المطالب النقابية طُرح في مواضع متعددة منها مطالبة نقابة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتوريث الوظائف للأبناء عام 2016 وهو ما رفضته المحكمة الإدارية تطبيقًا لمبدأ المساواة وعدم التمييز في الانتدابات. لم تكن المركزية النقابية، في الواقع، متبنية لجميع المطالب النقابية أو للأشكال المعتمدة وبالخصوص مع نقابة التعليم الثانوي. ولكن بالنهاية، يُنظر لاتحاد الشغل أنه المسؤول، وهو المطالب بترشيد العمل النقابي.

صار الانتقال الديمقراطي خلال السنوات الماضية رديفًا لضعف استجابة الدولة في مواجهة نضال نقابي تُطرح عديد الأسئلة حول مشروعية بعض أشكاله

 تعامل الحكومات طيلة العشرية الفارطة مع النقابات كان متفاوتًا لكن دون قطع قناة الاتصال مع المركزية النقابية حتى في أشد فترات التوتر. واتحاد الشغل استفاد واقعًا من مناخ ما بعد الثورة ليس فقط على مستوى الشراكة الاجتماعية عبر المنافع المحصّلة التي رمت بثقلها على الميزانية العامة، ولكن أيضًا فيما يتعلق بفرضه للشراكة السياسية بعد أن بات الاتحاد عنصراً لازمًا في تزكية الحكومات بل وتسمية وزراء محسوبين عليه.

قبل 25 جويلية/يوليو 2021، مثلت العلاقة بين النقابي والسياسي المحض وحدود النضال النقابي، ملفًا أساسيًا لم يُطرح بكل جرأة باعتباره أحد الملفات المطروحة كلما حل الحديث عن تأزم المشهد السياسي والاجتماعي في تونس. وهو الذي ترك أثره في حصيلة الانتقال الديمقراطي أمام الجمهور العام.

سعيّد المعادي للأجسام الوسيطة لم يتردّد في القطيعة مع اتحاد الشغل مقصيًا إياه من مجال الشراكة السياسية، ومقلصًا من مساحته في الشراكة الاجتماعية. قرار حكومته بإقالة مديرين وتجميد أجور آلاف المعلّمين يأتي في سياق سياسته العامة في التعامل مع بقية مكونات المشهد الداخلي.

سعيّد المعادي للأجسام الوسيطة لم يتردّد في القطيعة مع اتحاد الشغل مقصيًا إياه من مجال الشراكة السياسية، ومقلصًا من مساحته في الشراكة الاجتماعية

يوجد توجه واضح للسلطة في استعمال منطق قوة الدولة، وقد تعدد في خطاب الرئيس التحذير من محاولات ضرب الدولة وابتزازها. هذا الخطاب، واقعًا، يجد جمهورًا واسعًا يتبناه. هذه الحقيقة.

والمركزية النقابية تعلم أن أوراق التصعيد ليست مفيدة بل ضارّة أمام سلطة، أثبتت طيلة السنتين الأخيرتين، أنها تستثمر جيدًا بالتصعيد، وتكسب خطوات ضد خصومها كلما قرروا المواجهة. المعادلة اختلفت عن السنوات الماضية، وهو ما قلّص أوراق المناورة للاتحاد الذي بات يناضل من أجل الحد الأدنى كشريك اجتماعي يجب الاستماع لرأيه على الأقل في السياسات العامة للبلاد.

سعيّد استثمر في التعفّن السياسي لبلوغ لحظة 25 جويلية. ماذا لو تحققت هدنة اجتماعية بعد انتخابات 2019 تشمل مختلف القطاعات لطيّ صفحة اللاستقرار الاجتماعي وإطلاق برنامج إنقاذ قبل فوات الآوان؟ وقد فات الآوان لأنه تمت التضحية بالديمقراطية الآن باسم قوة الدولة.

تعلم المركزية النقابية أن أوراق التصعيد ليست مفيدة بل ضارّة أمام سلطة، أثبتت طيلة السنتين الأخيرتين، أنها تستثمر جيدًا بالتصعيد، وتكسب خطوات ضد خصومها كلما قرروا المواجهة

تحوم الشكوك في الأثناء حول خلفيات قرار الحكومة ليس فقط لاستهدافه للأرزاق أو لتعلقه برجال التعليم، بل لأنه صادر عن سلطة ضيقت بممارساتها على أنشطة مختلف مكونات المجتمع المدني، في سياق نظام سلطوي ناشئ يستهدف الحقوق والحريات.

 

 

فهذا القرار "التاريخي" إن كان يحقق نشوة "الثأر" لدى شرائح من التونسيين، فهو قد يكون منطلقًا لما هو أسوأ وهو إعلاء عصا دولة افتقدت اليوم لمقوّمات نظامها الديمقراطي. وللمفارقة أن وزير التربية الذي يقف وراء اتخاذ هذا القرار كان أمينًا عامًا مساعدًا في اتحاد الشغل، بل ثبت، باسترجاع تصريحاته قبل سنوات، أنه كان من داعمي قرار حجب الأعداد حينها. لكن حينما بات وزيرًا، انقلبت المواقف وهو ما يؤشر على طبيعة الشخصيات الوصولية التي باتت تتصدّر المواقع في السلطة اليوم. 

في الأثناء، إن الجانب اللافت في التفاعلات مع قرار الحكومة ليس فقط مظاهر المساندة من شرائح واسعة من التونسيين كيفما تبيّنه على الأقل التفاعلات على مواقع التواصل، بل أسلوب الشماتة والدعوة لمزيد من التصعيد ضد رجال التعليم.

توجد خسارة متنامية وهي تصاعد الصورة السلبية للمعلم والأستاذ في المجتمع التونسي طيلة السنوات الأخيرة، إذ لم تعد الصورة مرتبطة بمعاني البذل والتضحية والعطاء

المسألة هنا بالغة الرمزية. بغض النظر عن مشروعية أشكال النضال النقابي كما أشرنا، توجد خسارة متنامية وهي تصاعد الصورة السلبية للمعلم والأستاذ في المجتمع التونسي طيلة السنوات الأخيرة. لم تعد الصورة مرتبطة بمعاني البذل والتضحية والعطاء، بل باتت مرتبطة بصورة المعلّم أو الأستاذ الذي يُضرب دون قيد من أجل امتيازات مادية على حساب مصالح التلاميذ، والذي يفرض الدروس الخصوصية دون أي عطاء.

هذه طبعًا الصورة الاختزالية لدى الجمهور العام التي ما فتئت تتصاعد، بما يعكس الأمراض التي باتت تنخر منظومة التعليم في تونس. وهذه الخسارة الكبرى في نهاية المطاف التي تحتاج لاعتراف بحقيقتها ومعالجتها.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"