29-نوفمبر-2019

سجلت سبخة الساحلين عام 2019 نسبة قياسية في تفريخ طائر النحام الوردي في تونس (Getty)

 

لم يكن صيف 2019 موسمًا عاديًا في تاريخ رصد تجمعات الطيور المهاجرة بالمناطق الرطبة للساحل التونسي، إذ شهد أكبر غزو لطائر النحام الوردي أو "الفلامنغو" لسبخة الساحلين لتصبح أكبر مستعمرة لتفريخ هذه الفصيلة في تاريخ تونس.

إذ شهدت السبخة وفود 22 ألف طائر مهاجر أودع بيضه في هذه المحضنة منشئًا 10200 فرخًا جديدًا في توافد قياسي وغير مسبوق لفت انتباه الباحثين والمختصين في الجمعيات البيئية، في ظاهرة لا تزال محلّ دراسة واهتمام لخصوصية المنطقة الحاضنة لهذا الضيف اللطيف.

اقرأ/ي أيضًا: حماية للطيور في سبخة السيجومي... هل تستجيب الحكومة لنداءات الجمعيات البيئية؟

سبخة الساحلين.. منطقة رطبة منخفضة

الساحلين، إحدى المدن الساحلية التونسية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، والتابعة إداريًا لولاية المنستير، تقع على مشارف سبخة تفصل بين المنطقة الآهلة بالسكان والشريط الشاطئي الذي كان أوائل القرن الماضي أرضًا فلاحية تسمى "الدخيلة" ليتحول فيما بعد إلى شريط سياحي يضم عددًا كبيرًا من المنتجعات والنزل.

تشكل سبخة الساحلين بيئة ملائمة لوفود طائر النحام الوردي (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

وسبخة الساحلين هي منطقة رطبة منخفضة تستغلها الشركة العامة للملاحات التونسية (كوتيزال) منذ سنة 1949، وتشكلت فيها أحواض مائية تمتد من جنوب مدينة خنيس والمنستير وصولًا إلى مشارف منطقة "الدخيلة" شرقًا، ومنبع هذه الأحواض المائية هو البحر ولها بعد وظيفي في إنتاج الملح وتفصل بينها حواجز ترابية طفليّة غنية بالأحياء المائية المجهرية والطحالب.

وشكلت السبخة بيئة ملائمة لوفود الطيور المهاجرة على غرار طائر النحام الوردي أو ما يطلق عليه بطائر "الفلامنغو" أو "البشروش"، ويعدّ موسم قدوم هذا الطائر نذيرًا طيبًا عند مواطني الساحلين الذين لمسوا فيه اللطف والوداعة والجمال والرشاقة.

النحام الوردي.. ضيف دائم في الساحلين

لم يغب النحام الوردي عن سبخة الساحلين ولكن عدده لم يتجاوز، سابقًا، بضع المئات حسب رواية بعض مواطني الجهة لـ"ألترا تونس"، وهو أنيس لعدة أنواع أخرى من الطيور أهمها البط البري الأسود، والبط الأبيض ذي الرأس الأسود وشتى أنواع النوارس.

ورغم إنشاء مطار الحبيب بورقيبة الدولي بالمنستير والحركة النشيطة للملاحة الجوية ثم إنشاء خط المترو الخفيف الذي يعبر السبخة عبر مسافة تناهز العشرة كيلومتر، ظل طائر "الفلامنغو" ملازمًا لهذا المنتجع البيئي ولم يهجره تمامًا.

الهادي عيسى (رئيس جمعية أحباء الطيور): سجلت سنة 2019 أعلى نسبة قياسية لتكاثر طائر النحام الوردي في تونس بـ10200 فرخًا 

بدأت جمعية أحباء الطيور، في الأثناء، منذ جويلية/يوليو 2019 بدراسة ومراقبة التكاثف غير المسبوق للنحام الوردي في أحواض الملح، إذ أن أعلى نسبة لتكاثر هذا الطائر المسجلة قياسيًا تعود لعام 1974 بشط الفجاج بقبلي، جنوبي تونسي، بتسجيل 8200 فرخًا، غير أن سبخة الساحلين سجلت عام 2019 رقمًا قياسيًا جديدًا بلغ 10200 فرخًا.

يقول الهادي عيسى، رئيس جمعية أحباء الطيور، لـ"ألترا تونس" أن النحام الوردي هو "عشير تونس"، مبينًا أن آخر ظاهرة للتعشيش بالآلاف سُجلّت سابقًا في سبخة السيجومي، وأريانة والبحيرة الشمالية بتونس. وأوضح أن هذا الطائر وجد في سبخة الساحلين الغذاء والأمان في المناطق الآمنة حول مطار المنستير الدولي، وهي مناطق مغلقة وبعيدة عن المتطفلين والصيادين وحركة البشر، وتخضع للرقابة المشددة وذات منافذ مغلقة ما يضمن عدم الإزعاج والعبث بالمحاضن، وفق تأكيده.

وأضاف محدثنا أن طائر النحام الوردي يهرب من المكان إذا لم يجد الطعام غير أن سبخة الساحلين تتميز بكونها لا تجف عنها المياه كما أن الأمطار هذه السنة كانت غزيرة، ومعلوم عن هذا الطائر المهاجر أنه يبيض بيضة واحدة في السنة من زوج واحد وفي حالات استثنائية بيضتين، لتبدأ لاحقًا عملية إطعام الفراخ بعد التفقيس.

ماذا تعرف عن طائر الفلامنغو؟

ومن خصائص هذا الطائر أنه يشكل محاضن إذ تبقى بعض الأزواج لحراسة الفراخ في حين ينطلق البقية لجلب الطعام من سباخ مجاورة وأماكن بعيدة لتصل إلى مقرها من جديد لتطعم عند مغرب الشمس صغارها، ويمكن تمثيل هذه المعسكرات برياض الأطفال من حيث الرعاية والعناية، وفق ما يشير محدثنا.

من خصائص طائر النحام الوردي أنه يشكل محاضن إذ تبقى بعض الأزواج لحراسة الفراخ في حين ينطلق البقية لجلب الطعام من سباخ مجاورة وأماكن بعيدة لتصل إلى مقرها من جديد لتطعم عند مغرب الشمس صغارها

اقرأ/ي أيضًا: عصافير نادرة في المزاد.. إطلالة على سوق الطيور بسوسة

ويتميّز طائرة النحام الوردي بطريقة متميزة في إطعام صغاره، فهو ينتج، وفق ما طالعناه في موسوعة "ويكبيديا"، مادة مستحلبة لتغذية صغاره وتفرز هذه المادة في غدة تقع في المنطقة الهضمية العليا ويستمر زوجا النحام الوردي في إطعام صغارهما حتى يبلغ عمرهم الشهرين حيث يكون جهازهم الهضمي ومن ضمنه المنقار قد اكتمل حتى يستطيع تصفية غذائه بنفسه، ويعيش "الفلامنغو" ما بين 20 و30 سنة.

يتغيّر لون ريش النحام الوردي طيلة حياته حتى يستقرّ على اللون الوردي (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

ويتحدث المنسق العلمي لجمعية أحباء الطيور هشام الزفزاف لـ"ألترا تونس"، في هذا الإطار، أن النحام الوردي هو "طائر لطيف تتغير ألوانه ريشه ليستقر على الجمال الذي هو عليه" مبينًا أن خلال الأسبوع الأول من ولادته يكون منقاره أحمر وريشه أبيض، ليتحوّل في الأسبوع الثاني إلى اللون الرماديّ و منقاره إلى اللون البنّي، وثم خلال شهرين و نصف يتحول إلى أبيض وأسود وثم من اللون الوردي ليستقر بعد سنة على لون ورديّ رائق. وقال محدثنا إن طول جناحي "النحام الوردي" قد يبلغ 1.8 مترًا فيما يبلغ وزن الأنثى 2 كلغ أما الذكر فيصل وزنه إلى 4.5 كلغ.

التحجيل.. عقبات تحول دون المراقبة

لمزيد فهم هذا الحدث الاستثنائي والتاريخي في المشهد البيئي في الساحل التونسي، تواصل "ألترا تونس" مع أحمد غديرة، رئيس جمعية "أزرقنا الكبير" بالمنستير ومستشار بالمجلس البلدي للمدينة، الذي اعتبر أن هذه الظاهرة الاستثنائية لتعشيش النحام الوردي في سبخة الساحلين هي محل أولوية قصوى لدى الجمعيات البيئية في المنطقة بالتعاون مع جمعية أحباء الطيور، مشيرًا إلى وجود اتصالات ولقاءات لوضع خطة لمراقبة الطيور والقيام بعملية التحجيل، وهو يعني تثبيت خواتم في سيقان طيور النحام الوردي لتتم مراقبة مسارات هجرتها عبر العالم ومحطات توقفها.

أحمد غديرة (رئيس جمعية أزرقنا الكبير): رفضت المصالح المؤمنة للملاحة الجوية في المنستير تحجيل النحام الوردي لأسباب تتعلق بأمن الطائرات

وقد ضمت هذه الاتصالات، وفق محدثنا، إطارات البلديّة وجمعية "أزرقنا الكبير" وممثّلين عن الهياكل الإدارية بالمنستير من بينها سلطات مطار الحبيب بورقيبة المنستير، والمندوبيّة الجهويّة للتّنمية الفلاحيّة، ووزارة الشّؤون المحلّية والبيئة، والشركة العامّة للملّاحات التونسيّة (كوتيزال)، وذلك بهدف تحفزيها من أجل تثمين هذه الظاهرة الاستثنائية بالنسبة إلى متابعي طائر النحام الوردي على المستوى المحلي والمتوسطي والعالمي، وللتعرف أيضًا على تقنيات تحجيل.

رفضت المصالح المؤمنة للملاحة الجوية تحجيل النحام الوردي لأسباب أمنية (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

ولكن أفاد أحمد غديرة أن المصالح المؤمنة للملاحة الجوية وحركة الطيران بمطار المنستير الدولي رفضت تحجيل النحام الوردي لأسباب تتعلق بأمن الطائرات، مبينًا أن هذه المصالح أكدت أن تقنيات التحجيل قد تتسبب في ارتباك أسراب الطيور التي قد تصطدم بمحركات الطائرات المحلقة في الأجواء ما يمثل خطرًا حقيقيًا على الملاحة الجوية.

من جهته، تحدث رئيس جمعية أحباء الطيور الهادي عيسى لـ"ألترا تونس" عن رغبة جمعيته في تحجيل المئات من هذه الطيور مبينًا أنه تم تقديم مقترحات لتجاوز العقبات الأمنية للملاحة الجوية دون القدرة على تمريرها وفق تأكيده، قائلًا متحسرًا "يمكن القول إن ما استطعنا فعله في سبخة قربة من تحجيل بعض طيور النحام الوردي قد فاتنا في سبخة الساحلين".

انطلقت، في الأثناء، رحلة فراخ مستعمرة سبخة الساحلين نحو العالم ولكنها رحلة مجهولة لن تمكن حراس البيئة وحركة الطيور من مراقبة مساراتها نظرًا لعدم التحجيل على أمل أن يشهد الموسم القادم استيطانًا جديدًا يعزز أسراب "الفلامنغو" المرتحلة بلونها الوردي العاشق للحرية والسفر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطبيعة تنتصر.. إعادة توطين "غزال الأطلس" في جبال سليانة بعد انقراض فاق القرن

المنطقة الرطبة بطينة.. بشاعة الصناعة وإجرام اللامسؤولية