27-فبراير-2019

عالم التخميرة أو "الجذب"شدّ إليه المخرجة شيراز بوزيدي وكان ميلاد الفيلم الوثائقي "مجاذيب"

 

عالم التخميرة أو "الجذب" عالم مغر، يشدّ إليه الأنظار ويثير في الأنفس التساؤلات عن تلك الحركات الهادئة في بدايتها والآيلة إلى الاضطراب مع تصاعد نسق "الحضرة" أو موسيقى "السطمبالي".

هو عالم يكتنفه الكثير من الغموض والسحر، يتوحّد فيه الإيقاع والجسد وتتطلع فيه الروح إلى الانعتاق والتحرّر من كل الحواجز المادية، عبر التمايل يمينًا ويسارًا في حركات متناسقة أحيانًا ومشوشة أحيانًا أخرى، والضرب على الأرض بالأقدام ورفع الأيادي باتجاه السماء.

"مجاذيب"  شيراز بوزيدي يعيشون في الرديف القرية العجوز، أطفال منقطعون عن الدراسة جمعهم الشاب محمد ريونة وكوّن بمعيتهم فرقة سطمبالي

وهذا العالم الممتدّ في الإنسانية، على اعتبار أن موسيقى السطمبالي ارتبطت بانعتاق أجساد العبيد من الواقع الموشح بالأضفاد والأغلال، شدّ إليه المخرجة شيراز بوزيدي وكان ميلاد الفيلم الوثائقي "مجاذيب".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "سامحني" للراحلة نجوى سلامة: انتصار لقيم العفو ودفاع عن رومانسية الموت

تجوب فرقة السطمبالي الاحتفالات والأعراس و"الزرد"

عن المجاذيب..

"مجاذيب" جمع المجذوب، وهو الذي جذبه الحق إلى حضرة الذات الإلهية أي أنّه انعزل عن العالم الأدنى وسافر بروحه إلى مكان لا يعلمه إلا هو، والجذب عادة ما يحدث إبان "الزردة" وهي الاحتفاء بأحد الأولياء الصالحين أو "الوعدة" وهي نذر يقدّم إلى الولي الصالح وخلالهما يُطبخ الكسكسي باللحم وترتفع إيقاعات الطبل أو البندير والشقاشق.

و"مجاذيب"  شيراز بوزيدي يعيشون في الرديف القرية العجوز، أطفال منقطعون عن الدراسة جمعهم الشاب محمد ريونة وكوّن بمعيتهم فرقة سطمبالي، تختلف هيئاتهم وأعمارهم وربّما نظرتهم إلى الواقع ولكن الظروف الاجتماعية الصعبة تجمعهم وتقرّبهم من بعضهم البعض.

"مجاذيب" ليس وثائقيًا بحتًا بل يصنّف ضمن الأفلام الوثائقية الروائية التي تضمّ مشاهد تمثيلية

متسلّحين برغبة في كسب بعض من المال يكفي لسدّ الرمق وآلات إيقاعية من طبل وشقاشق، تجوب فرقة السطمبالي الاحتفالات والأعراس و"الزرد"، ولكن الوضع لم يدم على ماهو عليه، ومثّل دخول محمد الريونة أو " حمة " كما يناديه الجميع إلى السجن عنصر تحوّل في مسيرة الفرقة. فبعد خروجه من السجن، ما عاد حمّة نفس الشخص وغيّر شهر من السجن طباعه وأصبح يتعاطى أدوية للعلاج النفسي، الأمر الذي أثّر سلبًا على علاقته بأعضاء الفرقة التي ينتمي إليها، وكانت مزاجيته وتصرفاته غير المتوقعة عائقًا أمام استكمال التمرينات.

"حمة"، يطلق شارة انطلاق التمرينات حينما يضرب على الطبل ويوجّه العازفين المصاحبين له، ولكنه يتوقّف فجأة ويطردهم، ويتكرر الأمر تباعًا فيضجر رفاقه في السطمبالي ويقررون الانعتاق وتكوين فرقة بعيدًا عنه وعن مزاجيته.

اقرأ/ي أيضًا: الرعب في "دشرة".. عن السحر والشعوذة والهلاك المؤجّل

رحلة في طريق بلا معالم

وعن كواليس التصوير، تقول شيراز بوزيدي، على هامش العرض ما قبل الأول للفيلم في قاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة في إطار ثلاثاء السينما التونسية، إنّ الأمر استغرق 4 سنوات في تتبع نسق حياة أعضاء فرقة السطمبالي إذ انطلق الأمر منذ سنة 2014، على حدّ تعبيرها، مضيفة أنّ الرحلة لم تنته بعد، معربة عن أملها في أن تكون تمكّنت من تبليغ رسالة عبر الوثائقي.

وإذ تعتبر مخرجة فيلم "مجاذيب" أنّ الرحلة لم تنته بعد، فإنّ من يغوص في تفاصيل الفيلم يلحظ أن الرحلة إلى عالم السطمبالي والجذب من خلال قصة فرقة السطمبالي المؤلفة من منقطعين عن الدراسة يقارعون واقعًا معيشيًا صعبًا، كانت على طريق بلا معالم.

فرقة السطمبالي التي كانت محور فيلم " مجاذيب" ليست إلا برهانًا على أنّ هذه الموسيقى وسيلة للتحرر من سطوة الواقع ومرارة الظروف التي تأسر الإنسان في دائرة مفرغة

و"مجاذيب" ليس وثائقيًا بحتًا بل يصنّف ضمن الأفلام الوثائقية الروائية التي تضمّ مشاهد تمثيلية، ويبدو أن المخرجة كانت ممزقة بين البعد الوثائقي والبعد الروائي مما أفقد الفيلم ذلك الخيط الرفيع بينهما والذي يخلق تلك الحبكة التي تشدّ المتفرّج إلى كل التفاصيل ولا تجعله يمضي مشاهدة الفيلم في طرح الأسئلة.

ومن اللافت للانتباه في الفيلم، أنّه ورغم التطرق إلى كون فرقة السطمبالي التي يقودها محمد ريونة قد شاركت في مناسبات واحتفالات، إلا أنّ الفيلم الذي من المفترض أنه وثائقي يرصد حياة "المجاذيب" في علاقة بفرقة السطمبالي لم يتطرّق لأي مشهد عزفوا فيه خلال حفل أو " زردة".

وتبرّر المخرجة شيراز بوزيدي تمزّق الخيط الرابط بين المشاهد في بعض الأحيان، إلى صعوبة التصوير مع شبان منقطعين عن الدراسة ويعيشون على هامش الحياة، ومرض محمد ريونة الذي سبق التصوير بمدة قصيرة.

السطمبالي وسيلة للتحرر من سطوة الواقع ومرارة الظروف التي تأسر الإنسان في دائرة مفرغة

الموسيقى بصيص من النور..

من بين النقاط المضيئة في فيلم " مجاذيب"، الموسيقى والغناء المصاحبين للفيلم بإمضاء الفنان معتصم الأمير، إذ بدت الألحان والكلمات متناسقة مع الصورة والأحداث والمكان، وغنّى ابن الجنوب للجنوب وسخّر خامته الصوتية العذبة للتعبير عن آهات المفقرين والمعذبين والمتشبثين بحبل الحياة.

والموسيقى التصويرية التي تخلّلت الفيلم حملت في طياتها شحنات عاطفية وألقت الضوء على الجانب الدرامي للوثائقي وهو أمر يحسب للعمل.

السطمبالي.. عنوان أبدي للتحرر من الواقع

وفرقة السطمبالي التي كانت محور فيلم " مجاذيب" ليست إلا برهانًا على أنّ هذه الموسيقى وسيلة للتحرر من سطوة الواقع ومرارة الظروف التي تأسر الإنسان في دائرة مفرغة. والسطمبالي بالنسبة لأعضاء الفرقة، ليس مجرّد وسيلة لكسب المال، وهو ما يتجلّى في انفعالاتهم مع الآلات الموسيقية خلال التمرينات، حالة من الانتشاء ترتسم في أعينهم وتسم كل تحرّكاتهم.

ولئن كان السطمبالي في الماضي، عنوانًا لتحرر العبيد من الأغلال والأصفاد، وتعبيرة احتجاجية ضدّ العبودية وكل أشكال التسلط، فهو اليوم أيضًا شكل من أشكال التحرر من عبودية التهميش والفقر، ووسيلة بحث عن الذات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة في الشريط الوثائقي الروائي "غزالة ".. هشاشة ناصعة

"سوبيتاكس".. فيلم هامش الإدمان والبذاءة في مواجهة مركز أشدّ بذاءة