بسبب الانتشار السريع والخطير لجائحة كورونا، تواجه المدرسة التونسية في مطلع السنة الدراسية 2020-2021 ألوانًا من الارتباك، وقد اقتضت هذه الوضعيّة الاستثنائية إجراءات صحيّة عزّ تنفيذها في العديد من المؤسسات التربوية، كما استجوبت الحالة الوبائية تحويرات في البرامج والزمن المدرسي اتجهت في الغالب إلى التقليص حرصًا على ضمان بعض شروط التباعد الجسدي.
ما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أنّ معضلة المدرسة التونسيّة قديمة مزمنة وموغلة في التعقيد، فالاضطراب الذي يمكن معاينته هذه الأيّام لا يختلف كثيرًا عمّا يحدث على امتداد سنوات من فوضى ونقص وتفكّك وارتجال وغيرها من ألوان الوهن المادّي والمنهجيّ والتشريعي والهيكلي والاستراتيجيّ والتنفيذيّ.
معضلة المدرسة التونسيّة قديمة وموغلة في التعقيد، فالاضطراب الذي يمكن معاينته هذه الأيّام لا يختلف كثيرًا عمّا يحدث على امتداد سنوات من فوضى ونقص وتفكّك
العطالة المدرسية شبه التامة التي فرضتها جائحة كورونا على التلامذة والمدرسين من مارس/ آذار إلى 15 سبتمبر/ أيلول 2020 كان يفترض أن تمثّل مناسبة وطنية لوضع سيناريوهات لعودة مدرسية موفقة تأخذ بعين الاعتبار كلّ الاحتمالات والفرضيات والطوارئ والخصوصيات.
تلك العطالة الإجبارية في مستوى إجرائيّ تنفيذي حقّ استثمارها والاستفادة منها من خلال الانكباب على التفكير في المشاغل التربوية الجوهرية والمتواترة والعميقة بعد أن تأكّد بالإجماع بأنّ التعليم في تونس قد بلغ منذ عقدين على الأقلّ أدنى المراتب، الأخطر من ذلك إقرار العديد من المتابعين بأنّ المدرسة التونسية قد تحوّلت في العديد من الجهات إلى بؤر للجهل والانحراف وغيرها من المخاطر، فلم تتعطّل عن أداء واجبها فقد بل أصبحت رافدًا من روافد الضعف والعجز والجريمة.
اقرأ/ي أيضًا: المجلس الأعلى للتربية ...هل أصبح الإنجاز ممكنًا لإصلاح المنظومة التربوية؟
هذه الحالة جلعت الحديث عن المخاطر المتأتية من المدرسة ومحيطها أكثر سريانًا على الألسن من الخوض في ما يمكن أن تنهض به المؤسسات التربية من دور في بناء جيل متعلم متوازن متسامح متسلح بالفكر النقدي مولع بالفن والأدب والتكنولوجيا وغيرها من أمارات التقدم والمشاركة والانفتاح.
المشهد السوداوي للمدرسة التونسية لم يعطّل رغبة العديد من الباحثين والمؤسسات في الإصلاح التربوي، فقد واصل الكثير منهم انكبابهم على تشخيص الأزمة والبحث عن الحلول ودعوة المؤسسات التشريعية والتنفيذية إلى الإسراع في المصادقة على خطط المعالجة والإنقاذ والتطوير. وهو ما لمسناه من خلال مائدة مستديرة واكبها "ألترا تونس" نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تونس، موضوعها "المدرسة التونسية بين تحديات التنشئة على قيم الديمقراطية وجودة التحصيل المعرفي: المعيقات وفرص المستقبل".
مهدي مبروك (المركز العربي): الإخفاقات سليلة مؤسسات عديدة
خصّ دستور 2014 قطاع التعليم بفصلين في غاية الأهميّة اتصلا بحياد المدرسة وجودة التعليم، ففي الفصل 16 تأكيد على أنّ "الدولة تضمن حياد المدرسة التونسية عن التوظيف الحزبي"، وأرجع مهدي مبروك، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس، هذا المحتوى إلى التجاذبات الإيديولوجية الحادّة التي ميزت مداولات المجلس التأسيسي قبل الصياغة النهائية للدستور.
أكد مهدي المبروك أن الأعطاب التي يعاني منها المجتمع لا تتحمل المؤسسة التربوية إلا جزء منها
في المقابل، بدا الفصل 39 على حدّ تعبيره أقرب إلى بيان بعض وظائف المدرسة التونسية ومقاصدها، ففيه تمّ التنصيص على أنّ الدولة "تضمن الحقّ في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله وتسعى إلى توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين كما تعمل على تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وانتمائها الوطنيّ وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها والانفتاح على اللغات الأجنبية والحضارات الإنسانية ونشر ثقافة حقوق الإنسان".
هذا النصّ التشريعيّ المتميز الواعد لم نجد له صدى إجرائيًا، وهو ما دفع المبروك إلى التساؤل ما سرّ الوهن الذي بلغته المدرسة التونسية؟ لماذا تعثّر الإصلاح التربوي؟ لماذا عجزت المدرسة عن بلوغ جودة التعليم؟ ولماذا تراجع دورها في نشر قيم حقوق الإنسان والمواطنة؟ ثم مضى المبروك إلى تنسيب الأمر مؤكدًا أن الأعطاب والإخفاقات التي يعاني منها المجتمع لا تتحمل المؤسسة التربوية إلا جزء منها، فثمة على حدّ تعبيره مؤسسات أخرى لها مساهمة فعالة في صناعات الرؤى والتوجهات والقيم منها شبكات التواصل الاجتماعي والعائلة والمدرسة والأحزاب والنقابات.
عبد الرزاق عويدات (عضو لجنة التربية بالبرلمان): سبب فشل الإصلاح التربوي ارتباطه بالأشخاص
من جانبه، أكّد عبد الرزاق عويدات، النائب في البرلمان وعضو لجنة التربية، أنّ فشل الإصلاح التربوي راجع إلى ما اعتبرها النزعة الترميمية أو الشخصية لجل المشاريع التي تمّ تنفيذها أو اقتراحها من تسعينيات القرن العشرين إلى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي، وعمّم موقفه على كلّ التجارب من المسعدي إلى المزالي إلى الشرفي إلى إصلاح 2020 إلى مبادرة الناجي جلول سنة 2016.
عبد الرزاق عويدات: فشل الإصلاح التربوي راجع إلى النزعة الترميمية أو الشخصية لجل المشاريع
وأكّد عويدات على أنّ تلك المشاريع كانت وثيقة الصلة بأصحابها تنتهي بخروجهم من الوزارة، وبناء على ذلك فإنّ الإصلاح على حدّ تعبيره إمّا أن يكون هيكليّا أو لا يكون.
و حتّى يتحقّق ذلك، شدّد عضو لجنة التربية في مجلس نواب الشعب على ضرورة الإسراع بتركيز مجلس أعلى للتربية يكون مستأمنًا على وضع "استراتيجيات الإصلاح" متسلحًا بالرافد الثوري الذي غذّى الرغبة في الإصلاح، أمّا مرجعية الإصلاح التربوي فينبغي أن تكون مستمدة من الدستور الذي ينصّ على مراعاة مبدأ التجذر والانفتاح.
مصدق الجليدي (باحث في الشأن التربوي): المدرسة التونسية مختطفة
في جانب آخر، نبّه مصدق الجليدي، الأستاذ الجامعي والباحث في الشأن التربوي، إلى أنّ الثورة في تونس لم تصدر عن رؤية نظرية أو تصور إصلاحيّ شامل، وهو ما انعكس في العديد من المجالات منها التعليم.
ما حصل بعد 2011 في مجال الإصلاح التربوي كان وفق تقدير الجليدي رهين الصراع السياسي، فكل المشاريع كانت تواجه مواجهة حزبية من هنا أو هناك، وبناء على ذلك فإنّ الشروع الفعلي في الإصلاح التربوي لا بدّ أن يسبقه حسم في أمهات الخلافات الإيديولوجية وبحث في "المشترك الوطني".
اقرأ/ي أيضًا: الخبير محمد بن فاطمة: منظومة التربية منهارة ولا بدّ من منهجية للإصلاح (حوار)
يقترح الجليدي أن تستند إيديولوجيا الإصلاح التربوي إلى الدستور، غير أنّ ذلك لا يتحقق إلا حينما نضع على حدّ تعبيره تشريعًا تربويًا وسيطًا يصل بين الفصلين 16 و39 من الدستور من جهة والميثاق الوطنيّ للتربية والتكوين من جهة ثانية. ويضيف قائلًا: :إذا لم تتوفر هذه الشروط ستظلّ المدرسة التونسية مختطفة من جهات عديدة داخليًا وخارجيًا".
في هذا السياق، خصّ الجليدي "ألترا تونس" بتصريح أوضح فيه قصده من وقوع المدرسة التونسية تحت طائلة الاختطاف.
تصريح الباحث في الشأن التربوي مصدق الجليدي لـ"ألترا تونس"
كمال الحجّام (وزارة التربية): الدرس إذا لم يتشكل في السلوك كان فاشلًا
من جهته، أكد كمال الحجام، مدير المركز الوطني للتكوين وتطوير الكفاءات، أنّ مشاغل المدرسة التونسية المزمنة والآنية ينبغي أن تعالج بهدوء وموضوعية وأن تتسلح بالاطلاع الدقيق والواسع. وشدّد على أنّ استقلالية المدرسة التونسية لا ينبغي أن تغنينا عن الانفتاح على الآراء المختلفة إن من الداخل أو من الخارج.
كمال الحجام: أصبحت المدرس مصدر خلل وهدر وشرخ في بناء الطفل علميًا وسلوكيًا
وأقرّ، رغم تجربته الطويلة في التسيير داخل الوزارة، أنّ المؤسسة التربوية أصبحت مساهمة في تعطيل مهارات الأطفال وإفسادها، فالطفل التونسي في سنّ الرابعة يمتلك حسب إحدى الدراسات العلمية التي أعدها البنك الدولي استعدادًا للنجاح والتأقلم يبلغ مائة في المائة، وما إن يباشر مساره التعليمي تتراجع هذه الاستعدادات شيئًا فشيئًا حتى يفقد في سن الرابعة والعشين ثمانين في المائة منها. فالمدرسة أصبحت، على حد تعبير الحجام، ووفق تلك المعطيات العلمية، مصدر خلل وهدر وشرخ في بناء الطفل علميًا وسلوكيًا.
أكد كمال الحجام أن المؤسسة التربوية أصبحت مساهمة في تعطيل مهارات الأطفال
أمّا وقد أصبح التراجع مثبتًا علميًا، فإنّ المراجعة الشاملة أصبحت ضرورية، استراتيجيًا وهيكليًا وإجرائيًا، على حدّ تعبير الحجام قائلًا إن الإصلاح في هذه المستويات ثلاثتها ينبغي أن يراعي شرط الانسجام بينها. ولتأكيد هذه الأطراوحة، عرض مثالًا حول المفارقة بين النجاح في التقييم الجزائي والفشل في الأثر السلوكي، فالطفل ينال أعدادًا جيدة في الكثير من المسائل ذات البعد التواصلي أو التربوي والنقدي ولكننا لا نجد أثرًا لهذا في سلوكه، مشددًا الحجام على أنّ "الدرس إذا لم يتشكل في السلوك كان فاشلًا".
وأكد مدير المركز الوطني للتكوين وتطوير الكفاءات على فكرة الانسجام من مستويات الإصلاح التربوي، وما يدعو إلى ذلك حسب رأيه وجود نصوص مرجعية وبرامج متقدمة في المدرسة التونسية بشهادة خبراء وأوساط أجنبية لكن صداها في التحصيل المعرفي وبناء الناشئة ضعيف جدًّا، على حدّ تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا:
حينما يكشف فيروس "كورونا" هنات المنظومة التربوية في تونس
"الفوسكة".. تنخر الجسد التعليمي وصفّارات الإنذار لم تدوّ بعد