21-سبتمبر-2024
الكاتب منذر العيني

وجد الكاتب التونسي منذر العيني في الطريق مقامًا لتسويق كتبه ومنشوراته والقرب أكثر من القراء عبر مناقشة كتاباته معهم وتبادل الأفكار (ماهر دعيدان/ الترا تونس)

 

"كنا على شفا رصيف في المدينة، أيّ مدينة، قد تكون سوسة أو أيّ مدينة أخرى، المهمّ أنّها تلك التي لا تنتظر أحدًا إلا أولئك الشعراء".. ولعلّ أحدهم ذلك الرجل الذي يقبع كل صباح في مقهى وسط مدينة سوسة بجانب المسرح البلدي. يجلس على قارعة الطريق يحتسي قهوته، يعرض منشوراته، يستمع إلى الشيخ إمام من هاتفه الجوال، يحيط به أصدقاؤه وينثر الضحكات والابتسامات هنا وهناك ويؤثّث الطاولة بمجموعاته القصصية ومنشوراته الشعرية يقرأ بعضها بصوت عال ويبعث بحركات مسرحية تلفت الناظرين والتائهين ويشاكس بكلماته آذان المارّة.

لفت انتباهي هذا الرجل الذي يتّقد حيويّة ويبعث شيئًا من الأمل في صباحات تكتظ فيها مسامعي بأخبار بائسة عن السياسة والمجتمع، وكلما ألقيت نظرة عليه وهو يقارع الحكمة أجده ماسكًا إحدى منشوراته المتراصّة على الطاولة عارضًا إياها للبيع.

"الهوامش"، "طرائد الذاكرة"،"كوسميتيك"، "أفراح المقبرة".. عناوين مجموعات قصصية وشعرية تتدرج ألوانها بين الإشراق والقتامة كمًّا ومضمونًا، تتصدر قارعة الطريق على طاولة في مقهى متجذر في الماضي يعرضها الكاتب منذر العيني

كنت كلّ صباح أمرّ أمامه قبل أن يشتدّ الحرّ فيفرّ الجمع، وكان يتلذذ بالنسمات الصباحية ويستمتع بحركة الشارع الدؤوبة التي قد يغنم منها بمن يداعب كتبه بتلمس الصفحات وقراءة العناوين المستفزة ويمتع ناظره بألوان زاهية على الغلاف.. وأتساءل حائرًا: كيف لكاتب أو شاعر أن يعرض منشوراته على قارعة الطريق متمرّدًا على كافة هويات البيع المعهودة؟.

لم يكن ليعترض هذا الرجل مروري أمامه كل صباح، فوقفت عنده مستفسرًا عن تواجده في هذا المقهى كل صباح ماسكًا "قفّة" في يده يفرغ منها كتبه ويرصفها على الطاولة عارضًا إياها للعموم، محتسيًا قهوته ومستمتعًا بألحان الشيخ إمام، ومُديرًا إليه الرقاب.

 

صورة
يجلس منذر العيني كل صباح بمقهى  على قارعة الطريق عارضًا كتبه ومنشوراته (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

"الهوامش"، "طرائد الذاكرة"،"كوسميتيك"، "أفراح المقبرة".. عناوين مجموعات قصصية وشعرية تتدرج ألوانها بين الإشراق والقتامة كمًّا ومضمونًا، تتصدر قارعة الطريق على طاولة في مقهى متجذر في الماضي. يجمع بين هذه المنشورات الأديب الشاعر منذر العيني، الأستاذ في اللغة والآداب العربية والذي أسرّ لنا بأنه يعتني بالحياة الثقافية في البلاد منذ تسعينات القرن الماضي وأنه أحد الناشطين في نادي الإبداع الأدبي والناشر لعديد المقالات الأكاديمية إضافة إلى مجموعته الشعرية بداية من الألفية الثالثة مع "فاتحة لمدار الريح" و"ظلال المسافة" و"إيقاع الصدفة" و"بيت الماء" و"عزلة الكريستال".

العرض على قارعة الطريق أثار الحسّ الصحفي عندي بأن هذا الرجل قد أبدع في شيء وأخفق في آخر فالتجأ إلى الإبداع التسويقي على خلاف غيره ولربما استجاب إلى نمطه وأسلوبه المخصوص في الحياة بما يحمله معنى التمرّد و"الصعلكة الشعرية والأدبية".

الكاتب منذر العيني لـ"الترا تونس": عرض كتبي ومنشوراتي على قارعة الطريق علمتني إياه ثقافة الرصيف ومن خلاله أجد نفسي أكثر قربًا من القارئ.. وهذا خيار مني خاصة بعد 3 عقود من التعامل مع المكتبات التي لا تدافع عن المثقف ولا عن الكاتب التونسي

يتفاعل معي منذر العيني ويتجاوز ضوضاء الرصيف ليغرقنا في عمق تفكيره وتفسيره وتبريره لمواقفه التي قد نختلف معها أو نتفق، فيقول: "العرض على القارعة هو ما علمتني إياه ثقافة الرصيف، وأنا أقترب من القارئ التونسي أمسك بيده وهو يناور، يُبهَر، يستهزئ، يبحث، يقترح، يبعث بشوكاته الخطابية، وأنا أجاريه وأجاري لعبه على القارعة".

ويضيف محدث "الترا تونس": "كل ما يقع هنا ليس هدفًا في حدّ ذاته وإنما خيار، لأني منذ ثلاثة عقود أبعث بكتبي إلى مكتبات، لكنها لا تدافع عن المثقف ولا عن الكاتب التونسي"، مستطردًا: "هي في الحقيقة مكتبات زائفة، كتبيّات للمتاجرة بالبضاعة، بضاعة السنوات التدريسية، وليس لها غاية تسويقية لمسألة الأدب التونسي"، حسب تقديره.

 

صورة
اختار منذر العيني الشارع للتسويق لكتبه والاقتراب أكثر من القراء (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

ويتابع: "في السابق كما ننظم ما يسمّى بالسوق الإبداعية، فنخوض هذه التجربة ونقيم دائرة نحتفي فيها بأنفسنا، بحوزتنا "ميكروفون" ليعلو صوتنا قليلًا ونجلب بعض الجماهير، لكن هذه المرّة مع كتاباتي ردّة الفعل الأولى كانت مفاجئة من قبل الكاتبات والكتاب، فيسألون "ماذا تفعل يا منذر؟" وأجيب بأنني أعرض كتبي لأفتح المجال للقارئ التونسي بأن يلمس الورق ويتعرّف على الكاتب التونسي".

وأشار في ذات السياق إلى أنّ "الردود تأتيه مختلفة، فهناك من تروق الفكرة وهناك من لا تعجبه، وآخرون يعدّون البادرة بمثابة التسوّل عن طريق الكتب".

الكاتب منذر العيني لـ"الترا تونس": "هناك أزمة كبيرة في حركة توزيع الكتب وأنا أجابهها على حساب القراءات والكتابة، إذ أن مهمة التسويق كان من المفترض أن تقوم لها دور النشر لكنّ الكاتب يظل في الهامش مهما كانت قيمة كتاباته

وحول مدى توفيره للمساحة الزمنية لهذا التسويق، قال منذر العيني: "أصبح الوقت ضيقًا في الحقيقة للكاتب والمبدع بشكل عام، فليس من السهل أن تكتب وتُشرف في الآن ذاته على التسويق"، موضحًا: "هناك أزمة كبيرة في حركة توزيع الكتب وأنا أجابهها بوقت ضائع على حساب القراءات والكتابة، كان من المفترض أن تقوم دور النشر بهذه المسألة"، معتبرًا أنّ "الكاتب في الهامش مهما كانت قيمة كتاباته"، حسب تقديره.

واستطرد قائلًا: "حتى المعارض، في كثير من الأحيان، هي معارض بهرج لا يقع الاحتفاء بها كما يجب في ساحات الإشهار في التلفزة التونسية، فلا يتم الإشهار للكتاب سوى من طرف بعض الشخصيات، وهذا لا يجب أن يستمرّ".

ويضيف منذر العيني: "سأحصل على رخصة للتسويق الحرّ، وسأعرض كتاباتي وسأراهن عليها"، مستطردًا: "هذه قضيتي الشخصية وقضيّة كل كاتب".

 

صورة
"الهوامش"، "طرائد الذاكرة"،"كوسميتيك"، "أفراح المقبرة" من بين كتابات منذر العيني (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

كان منذر العيني يردد سؤالًا وجوديًا يلاحقه في جلّ كتاباته: "أنت من؟". بحثنا عن الإجابة عنده من خلال قراءة لمنشوراته فعثرنا على ما يلي: "ما زلت تبحث عن قمر للمرادف حتى يصادف وجهه في عصرات الطريق. سيبذل جهدك نبضه والدق وقع على مهل يتجاسر في الضحكات، هل يأكل الشعر صاحبه أي نعم ربّما حين تحتله فكرة الموت".

الموت والحياة سكنا نصوصه الشعرية في "أفراح المقبرة":

بكلّ نيران الحكايا

والمرايا

أنت:"صالحة"

وهذه سيرتي:

رجل يضيع 

يبيع 

ينادم الأحياء والموتى 

ليجترّ الحقيقة 

شكّها 

أو غيبها المرسول أغنية

بريدًا شامخًا

يصل الطريق بالطريق 

وينتهي

عند البداية

لم يصل"

إصدارات منذر العيني انبنت على فلسفته الخاصّة تصورًا وتفكيرًا ولغةً كتابةً، ففي مجموعة "كوسميتيك" اعتقد الكاتب أن المستحضرات الجمالية التي تستعملها المرأة لإبراز جمالها لتلقّف ما يمكن أن يتلقفه تحت أشعة الشمس، في مراوحة حقيقية بين الفصحى والعامية".

يقول: "الفصحى يمكن أن تعبّر عنا لأنها لغة جمالية، وأسوة بما فعله جماعة تحت السور في بعض الأحيان يمكن أن تتنافذ مع اللهجة العامية، التي تقترب من ذواتنا التونسية، هذه اللهجة التي تتدرّج شيئًا فشيئًا عبر الخطابات والحوارات".

كما تتناول المجموعة نظرة البطلات لحركة المقاومة ومجابهتهن للمجتمعات الذكورية، وكأننا إزاء ردّة أمام هذه الحقوق التي نالتها المرأة التونسية.

"طرائد الذاكرة" نفهم من خلاله دربة أولى للحديث عن الحياة الوجودية؛ أحاديث تتعالى وتضطرب، الأمكنة، الأزمنة، الأحداث تتسارع في مجتمع تونسي بدأ يتغير وتتمايز فيه الطبقات.

ركز منذر العيني في "أفراح المقبرة" على مجموعة من المفاهيم التي تتضمن أنساقًا فلسفية ترى أن الحياة تنعث من الموت وأنّ الموت بدوره ينبعث من الحياة، وأنّ فضاء المقبرة فيه حيوات متنوعة نشاهدها ونراها، في وقوف مع الذاكرة التي تتوالد في غليان حقيقي وحميمي.

هكذا كان لقاؤنا مع الكاتب منذر العيني، لقاء على قارعة الطريق وبثقافة الرصيف بعيدًا عن المكاتب والجدران، يجمع بين ضوضاء الكتابة وضوضاء الشارع الذي قد لا يأبه لصفحاتك التي وصفتك وأنت تمشي بين القبور وتصطاد ذاكرتك وتلقي بك في الهوامش وربما تعطيك مسحة من الجمال المزيف باستعمالك معدات التجميل.