01-أبريل-2018

عن معاناة وصمود طلبة تونس في الخارج (getty)

أ قرأت ما كتبه لي أحدهم يا والدي؟ طلب مني أن أخرس وأ لا أتدخل في شؤون تونس، التي تركتها ورائي من أجل حياة أفضل في بلاد الغير. قال لي إنني لا أحب تونس يا والدي، فخرجت من جوفي ضحكة بؤس.

عادة ما يتهموننا، نحن أبناء المهجر والغربة، بنقص في الوطنية وخلل في فطرة حب الوطن، فنحن الأنانيون في نظرهم. ولكن نحن كذلك العاجزون أمام قمامة شوارع البلد، واكتظاظ الميتروات، وتأخر الباصات التي دون مقاعد، وطلبات الإدارة وبطء خدماتها، والانتظار القاتل في المستشفيات، والحقن المفقودة وجرعات الدواء الغالية ولتر الحليب الذي أصبح أغلى، والسياسي المهرج وكذلك المواطن البائس ودون أن ننسى الأجور التي لم تعد تغطي من الشهر ثلثه. نحن الهاربون الفارون إلى الضفة الأخرى، حيث احتمال النور أعلى.

عادة ما يقع اتهام أبناء المهجر والغربة بالنقص في الوطنية والأنانية لقرارهم مواصلة دراستهم أو عملهم خارج تونس

اقرأ/ي أيضًا: في الجامعة.. حياة موازية

وفي الحقيقة، قررت مواصلة دراستي بالخارج قبل حصولي على الثانوية العامة بسنتين على الأقل. كان قراري بعدم الدراسة في جامعات تونس واضحًا. وفي نفس الوقت، لو أرسل لي والدي معاشه وأرسلت لي والدتي معاشها، بل لو باعت عائلتي كل ما تملك، فهذا لن يغطي تكاليف التعليم الذي حلمت به. لم أكن أملك شيئًا غير بطاقات أعدادي، وسيرتي الذاتية ولساني. وبما أن الحل الوحيد الذي كان أمامي هو الحصول على منحة كاملة، قدمت ملفي إلى بعض برامج المنح. وقد كان يستغرب أصدقائي كيف أنني كنت متأكدة أن هذا البرنامج أو ذاك سيعطيني المنحة، إلا أن والداي يعلمان كم تعبت، وكم قدمت، فهما مؤمنان بقانون العطاء، حيث يعلمان أن الذي يعطي من ذلك الشيء الذي ينبض داخله، أي من قلبه، سينال حتمًا ما يريد.

وبالفعل، حصلت على منحتين، وحينها همسوا في أذن أبي وقالوا:" لا ترسلها، لم يشتد عودها بعد، فلتدرس في تونس كما يفعل معظم أصدقائها"، لكنه أرسلني ولم يضع في محفظتي سوى الجزء الخامس من "مدن الملح" وديوان شعر. أما أمي، فوضعت جبّة ومصحفًا وحفّتني بما يحميني من التمائم والدعاء. في حين وضعت جدّتي كسرة، وسرّة زيتون، وصندوقًا متخمًا بالبسيسة لاعتقادها الجازم أن البسيسة لا يعلى عليها وأنّها تداوي ألام المعدة وحتى السعال. وقد اجتمعت عائلتي لتضع في جيبي بعض الدنانير التي قلّت قيمتها ما إن أقلعت طائرتي نظرًا لأسعار الصرف.

أقلعت على متن الحلم نحو بلد لا أملك عنه شيئًا سوى طعم الحلقوم، والبقلاوة، وأساطير الأناضول، وحديث نبوي شريف تواتره الأسلاف عن فتح القسطنطينية وصورة عن قصور السلاطين وتوبكابي. أمضيت عامًا في تركيا تعلمت خلاله اللغة، ومن هناك أقلع بي الحلم إلى وجهة أخرى. هذه المرة نحو البلد الذي تحميه السيدة حريصة، وبلد الجامع والكنيسة، وبلد الشيخ والقس، وبلد الصومعة والصليب، وبلد الجبل والسهل، وضيعة تنورين، ومخيمات صبرا وشتيلا والبقاع، والدبكة والمناقيش والتبولة.. هذه المرة توجّهت نحو لبنان وتحديدًا الجامعة الأمريكية في بيروت.

ويسألونني ماذا أدرس يا أمي، وأدلي بجوابي المنقوص الأعرج فأقول "إدارة الأعمال والقانون الدولي"، ولا أحد يعرف غيرنا يا أمي أن الحياة تعلمني أكثر من ذلك. تعلمت أنني إذا أغلقت المنبه وعدت إلى النوم، فلا يوجد أب أو أم يلح علي لكي أنهض، وأنني إذا لم أعد فطور الصباح فلن يعده لي أحد، وأنني إذا لم أكو ثيابي فسألبسها مجعّدة، وأن بيتنا لا تفصلني عنه ساعات بالباص، فلا طعام أجلبه من هناك.

أتساءل في كل مرة هل يستحق الحلم كل هذا؟ هل يستحق الحلم أعيادي الوحيدة وشوقي الذي لا تخففه الأيام وغربتي الباردة؟

اقرأ/ي أيضًا: عن معاناة طالب الدكتوراه في تونس

تعلمت طبخ المعكرونة بكل أنواعها، فهي لا تتطلب مهارات خارقة، ولا تتطلب كذلك كثيرًا من الوقت. كما تعلمت التسوّق، وتعلمت أن الطماطم الطرية ليست هي الجيدة، وأن اللحم إذا مال لونه إلى البنفسجي فهو لا يصلح. وتعلمت أي نوع من مساحيق الغسيل أقتني، وتعلمت قراءة السعر والكمية والمقارنة بين المنتجات، فحياة الغربة تقتضي الاقتصاد. وبالحديث عن الاقتصاد، فقد تعلمت كذلك التخطيط لمصاريفي وتقسيم معاشي وحسن الادخار.

تعلمت استغلال كل ساعات اليوم، بين الدراسة وتربصي في المركز الأوروبي للديمقراطية وحقوق الإنسان، وبرنامج تعليم اللغة الانجليزية للاجئين السوريين، وذلك بالإضافة لالتزاماتي الأخرى في باقي برامج التطوع، فهكذا يمرّ يومي.

كما تعلمت أن أصارع من أجل نفسي، وأن البكاء مكانه المناسب تحت الغطاء وفوق المخدة. كما تعلمت قضاء أعيادي مع نفسي، وأحييها بنفسي وأعايد نفسي. وأتساءل في كل مرة هل يستحق الحلم كل هذا؟ هل يستحق الحلم أعيادي الوحيدة وشوقي الذي لا تخففه الأيام وغربتي الباردة؟

اللهم إني لا أسألك زوال الشك ولكنني أسألك اليقين بعده. وأنا كل ما تساءلت إن كان الحلم يستحق، تأكدت بأنه يستحق هذا وأكثر. يستحق هذا، كما يستحق النور ظلمة، ويستحق الفجر ليلًا، ويستحق الربيع غيثًا، ويستحق الغيث حرّا.

ومن الأسئلة التي يسألونها دائمًا في مقابلات المنح هي إذا ما كان المتقدّم يريد العودة إلى بلده بعد انتهاء المنحة أو لا. وأنا نعم أكذب وأقول إنني سأعود إلى تونس حتمًا بعد انتهاء الدراسة، فليتهمونني مرّة أخرى باللاوطنية! فأنا لن أعود لأشتغل عند دولة في إدارة يرأسني فيها من هو أقل مني كفاءة وتتسرب فيها "ما تيسر من الدنانير" تحت الطاولة، وينخر مفاصلها الفساد،

ويستكرش من خلالها الفاسدون والسراق، ولن أعود لأشتغل في شركة على ملك جشع لا يعترف بحقوق عماله ولا يقدر جهودهم، ولن أعود لأعيش على أجر لا يكفيني لنهاية الشهر، كما لن أعود لأعيش حياة أقل من التي حلمت بها. فمن أجل أن تكون لي حياة وحياة أفضل لوطني، لهذا سافرت.

لن أعود إلى وطني بخفي حنين، ولن أعود بشهادة جافّة. لن أعود إلا وفي يدي مما يكفيني لأفتح مشروعي الخاص، فلن أعود لأشتغل بل سأعود لأشغّل

لن أعود إلى وطني بخفي حنين، ولن أعود بشهادة جافّة. لن أعود إلا وفي يدي مما يكفيني لأفتح مشروعي الخاص، فلن أعود لأشتغل بل سأعود لأشغّل. سأعود لأعطي من العلم والخبرة اللذان أخذتهما من "بلاد الغير"، وبالحديث عن بلاد الغير، أنا ممتنة لتركيا كما للبنان، فكلاهما منحتاني فرصة التعلم والتزود بالتجربة. لكنني أتمنى ألا تكون تركيا ولا لبنان هي من تفتح أعين

تونس عليّ وعلى زملائي التونسيين الذين يدرسون في الخارج، فأتمنى أن يدرك من لهم القرار وبيدهم السلطة اليوم وغدًا قيمة أبناء تونس قبل أن يعرفها المهجر.

وأما نحن؟ فنحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد، ولو قتّلونا ولو شرّدونا لعدنا غزاة لهذا البلد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحركة الطلابية في تونس.. مرآة الصراع السياسي والأيديولوجي

أن تموت وأنت تحاول.. عن حلم شاب تونسي بجنّة أوروبا