03-مارس-2022

الطالبة رحاب الجماعي: على الدولة التحرك سريعًا لإنقاذ أصدقائنا العالقين في الأنفاق قبل فوات الأوان (صورة توضيحية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

عندما كانت تجمع حقائبها متوجّهة نحو "لؤلؤة البحر الأسود" أوديسا لتحقيق حلم الطفولة بأن تصبح طبيبة، لم تتصّور الشابّة التونسيّة، ريم بوعلاق، أنّ قدرها قد يتغيّر في لحظة جنون من قادة الجارة روسيا.

فعلى امتداد الخمس سنوات التي قضّتها في أوكرانيا، كانت حياتها عاديّة ككل الجالية التونسية الموجودة هناك.. إلى أن اندلعت الحرب!

قدر ريم لا يختلف كثيرًا عمّا حدث مع الطالبة رحاب الجماعي التي فرّت من كابوس الحرب في رحلة لاقت فيها الأمرّين كي تصل إلى بر الأمان. "الترا تونس" شارك تفاصيل رحلة الإجلاء مع الطالبتين، تجدون تفاصيلها في هذا التقرير.

رحاب الجماعي (طالبة بأوكرانيا تم إجلاؤها إلى تونس) لـ"الترا تونس": وجّه إليّ أحد الجنود الأوكرانيين عبارات عنصريّة من قبيل "أنتم ثقل على بلدنا"، "نحن لا نتحمّل مسؤوليّة وجودكم هنا"، "ارحلوا عنّا"

  • رحاب الجماعي: "قطعتُ 50 كلم مشيًا على الأقدام وتعرضت لكل أنواع العنف والإهانات من الجيش الأوكراني"

منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، انتقلت رحاب للعاصمة الأوكرانية كييف لتكمل سنتها الخامسة في الطب، لذلك مازالت لا تفقه بعد جلّ شوارعها ومناطقها الحيويّة، ولم يسعفها الوقت لتؤسّس علاقات متينة في حيّها الجديد، فقد أمضت أولى سنواتها الجامعيّة في مدينة نيبرو.

كييف تلك المدينة التي تنبض بالحياة والتي هي محطّ رحال ملايين السيّاح، أصبحت مقبرة الجنود الأوكرانين بعد الضربات المتتالية التي وجهتها القوّات الروسيّة، ونغمات ترومبيتا وباندورا وتوربان (آلات موسيقيّة أوكرانية شعبية) تحوّلت إلى أصوات قنابل ودويّ صافرات الإنذار.

قبيل أيام من هذه الأحداث، تقول رحاب لـ"الترا تونس" إنّه لا أحد كان يتوقّع حدوث الحرب رغم التهديدات المتكرّرة من الدبّ الروسي، فحتّى أساتذة الجامعة وإدارتها واصلوا الدروس بطريقة عاديّة إلى أن حصل ما لم يكن في الحسبان، على حدّ تعبيرها.

الطالبة بأوكرانيا التي تم إجلاؤها إلى تونس رحاب الجماعي

ففي صبيحة اندلاع الحرب، استيقظت رحاب على مكالمات متكرّرة من أقاربها يستفسرون حقيقة الوضع في كييف. ألقت نظرة من شبّاك غرفتها لترى طوابير طويلة على المغازات والبنوك وأذهلتها حالة الفوضى التي تعمّ المكان، ومنذ تلك اللحظة انطلقت رحلة معاناة هذه الطالبة التونسيّة.

تروي لنا محدّثتنا التفاصيل قائلة: "أمضيت الليلة الأولى في منزلي أرتجف من الخوف مع أصوات القنابل المتساقطة، وفي صبيحة اليوم الموالي، قرّرت المجازفة للوصول للحدود. توجّهت لمحطّة القطار لأجد أشخاصًا يقومون بكراء السيارات بكلفة باهظة ولم أكن أملك ما يكفي من المال".

أربعة أيام أمضتهم رحاب الجماعي سيرًا على أقدامها في محاولة للوصول إلى أمان الحدود البولندية. على امتداد مسافة الخمسين كلم، تعرّضت لكلّ أشكال العنف والإهانات من قبل الجيش الأوكراني، حيث أصيبت قدمها اليمنى بعد أن عنّفها أحد الجنود موجّهًا إليها عبارات عنصريّة من قبيل "أنتم ثقل على بلدنا"، "نحن لا نتحمّل مسؤوليّة وجودكم هنا"، "ارحلوا عنّا".

رحاب الجماعي (طالبة بأوكرانيا تم إجلاؤها إلى تونس) لـ"الترا تونس": بعض الإفريقيين والهنود هاجمونا وأشعلوا النار في أمتعتها لتدفئة أنفسهم.. لقد كانت المعاملة الجيدة للأوكرانيين، أما نحن فلم تنصفنا بنود معاهدات حقوق الإنسان لنحصل حتى على ما يسد رمقنا

ورغم كلّ هذا، حملت رحاب أوجاعها وآلامها وتحدّت كلّ الظروف التي اعترضتها، فكانت تفترش سجّادتها ليلًا، ولا يغمض لها جفن إلى أن يضيء الكون وكلّها أمل في أن تتمكّن من لقاء عائلتها يومًا ما.

عندما تذكّرت رحاب بعض هذه المشاهد، اغرورقت عيناها دموعًا، وبصوت مبحوح واصلت حديثها: "كالمشرّد الذي تخلّت عنه دولته.. هكذا كان إحساسي. وعند الحدود استأنست ببعض الطالبات الأخريات فكنّا نشعل النار لنحمي أنفسنا من التجمّد في درجة برودة قاسية، لكنّ بعض الإفريقيين والهنود قاموا بمهاجمتنا وأشعلوا النار في أمتعتها لتدفئة أنفسهم. لقد كانت المعاملة الجيدة للأوكرانيين، أما نحن فلم تنصفنا بنود معاهدات حقوق الإنسان لنتحصل حتى على ما يسد رمقنا".

وعن تواصلنا مع المسؤولين، تؤكّد محدّثتنا أنها دخلت في حالة هستيرية عندما لم تجد التجاوب منهم خاصّة بعد إخبارها أنّ عليها تحمّل مسؤوليّتها لأنها لم تخرج في رحلة منظّمة، مضيفة أنّها اضطرّت للكذب على الحرس الأوكراني بإخبارهم أنها حامل لتستطيع الولوج للحدود البولندية.

لم ينته كابوس رحاب هناك، حيث كانت تتوقع وجود حافلة في انتظارها مع رفيقاتها، لكن المسؤولة عن الإجلاء رفضت أن تحضر حافلة بتعلة أن العدد غير كاف، وطلبت منها انتظار تجميع عدد أكبر من الطلبة وقطعت الخط، دون اكتراث لاستغاثة فتيات تجمدن بالبرد تحت تساقط الثلج، حسب ما أفادت به محدثتنا.

حدود مالدوفيا

ولحسن حظهن، كان عدد من البولنديين المتطوعين موجودين هناك وقاموا بمساعدتهن للوصول إلى ماكدو حيث كان الاستقرار في انتظار طائرة الإجلاء.

وختمت رحاب حديثها متحسرة: "لقد تخاذلت الدولة في إجلائنا في الساعات الأولى مثلما حصل مع بقية الجاليات، والشكر موصول للجيش التونسي لما قدّمه لنا من دعم معنوي عند الوصول. لكن مازال أصدقاؤنا عالقين تحت الأرض في أنفاق خاركوف، وعلى الدولة التحرك سريعًا لإنقاذهم قبل فوات الأوان".

اقرأ/ي أيضًا: الجمعية العامة تصوّت لصالح قرار يشجب "العدوان على أوكرانيا" وتونس تدعم القرار

  • ريم بوعلاق: "لم أتوقع أن يصل القصف إلى أوديسا.. وهاجسي الوحيد كان ما تعيشه عائلتي من خوف وذعر"

صبيحة الخميس 24 من فيفري/ شباط 2022، على الساعة الرابعة والنصف صباحًا، استيقظت ريم هي ورفيقاتها في المسكن على أصوات دويّ انفجارات عنيفة قريبة من محلّ إقامتها.

الأرض تهتزّ تحتها، والشبابيك ترتعش، ورائحة الخوف تلفّ المكان، لحظتها لم تعرف ما الذي عليها فعله.. ومرّت أمامها كلّ صور الخراب والدّمار التي شاهدتها في مواجيز الأخبار حول مدينتي كييف وخاركوف.

تتذكّر تلك اللحظات، وتقول لـ"الترا تونس" متأثّرة: "لم أكن أتوقّع أنّ القصف سيصل مدينتي بهذه السرعة. فحتى أهالي المنطقة لم يتنبّؤوا بالأمر، وكانوا على يقين بأنّ الحرب لن تتم، وأنّ ما يروّج هو في إطار حرب كلاميّة. لم يغمض لنا جفن منذ تلك اللحظة، وانتظرنا طلوع الشمس للخروج واكتشاف ما يدور خارجًا فكانت الصدمة".

الطالبة بأوكرانيا التي تم إجلاؤها إلى تونس ريم بوعلاق

مشهد لن تنساه ريم مدى حياتها، هكذا عبّرت محدّثتنا عمّا رأت، فالكلّ فارّ بجلده من المدينة، نساء ورجال وأطفال، شيوخ وشباب، حاملين ذكرياتهم في حقائبهم وجارّين حيواناتهم ومثقلين بالخوف من المجهول. المغازات وقع إفراغها من المواد الغذائية، صفوف طويلة أمام البنوك، الكلّ يجري.. وريم وصديقاتها مذهولات لا يعرفن ما الذي سيفعلنه خاصّة وأنّه لم يتواصل معهن أحد من السلطات التونسية ليوجّههم، رغم أنّهم حاولوا إيجاد الحلول مع بعض المشرفين على عمليّات الإجلاء منذ إغلاق الحدود الجويّة.

مرّت ثلاثة أيّام على مثل هذا الوضع، عاشت فيها ريم أوقاتًا عصيبة خاصّة وأنّ التفجيرات لم تتوقّف، وما يشغل تفكيرها هو حال عائلتها التي تتابع الأوضاع من خلال نشرات الأخبار فوتحدّثنا عن الأمر قائلة: "كنت أفكّر طوال الوقت بعائلتي خاصّة أنّ الوضع لا يبشّر بخير، فمدينة أوديسا تدمّر يومًا بعد يوم، موانئها البحريّة، ومنشآتها الحيويّة.. الجيش منتشر في كل مكان والدبابات متمركزة في الشوارع.. كلّ ما نراه يمحو فينا أمل الفرار من هذا الدمار".

ريم بوعلاق (طالبة بأوكرانيا تم إجلاؤها إلى تونس) لـ"الترا تونس": لم أكن أتوقّع أنّ القصف سيصل مدينتي بهذه السرعة، فحتى أهالي المنطقة لم يتنبّؤوا بالأمر، وكانوا على يقين بأنّ الحرب لن تتم، وأنّ ما يروّج هو في إطار حرب كلاميّة

خلال هذه المدّة، كان طلبة جامعة الطب بأوديسا يتواصلون مع سفيرة تونس في رومانيا في انتظار الوقت المناسب للخروج من المدينة، حيث أفادت ريم بوعلاقي أنّ مؤونتهم قد أوشكت على النفاد، وصفّارات الإنذار أصبحت دوريّة، وبلغتهم أخبار أنّ ليلة السبت سيكون هناك هجوم كبير على المدينة، فلم يكن أمامهم خيار سوى التسليم والاستعداد لكلّ السيناريوهات الممكنة.

وفي صبيحة اليوم الموالي، وعند الساعة الثامنة صباحًا، يرنّ هاتف ريم ليخبرها أحدهم أنّ هناك حافلات في انتظارهم لتأخذهم إلى مدينة مولودوفا. ومنذ تلك اللحظة دبّ الأمل في النجاة في نفوس الجميع.

ساعة من الزمن كانت تفصلهم على الحدود المولدوفية، ولكنّها كانت أثقل بالنسبة للأربعين راكبًا الذين كانوا يرافقون ريم، خاصّة مع ما كانوا يشاهدونه من دمار على امتداد الطريق حسب ما أكّدته محدّثتنا لـ"الترا تونس".

الحدود المالدوفية

ومع اقترابهم من الحدود، ونظرًا لكيلومترات السيارات التي تملأ الطريق، اضطروا للنزول وإكمال الرحلة على أقدامهم، حيث تقول ريم بوعلّاق: "مشينا ما يقارب الساعتين إلى أن وصلنا للحدود، حيث وجدنا عديد المتطوّعين في استقبالنا وزّودونا بالأكل والشراب وحتى بشرائح هواتف لنتواصل مع أهلنا في تونس، وبعد تسوية وضعيّتنا كلاجئين، وأمضينا ليلتنا في كيشينا ومن ثّم انطلقنا إلى رومانيا".

وتضيف الطالبة التونسيّة أنّه عند وصولهم ليلًا إلى رومانيا، وجدوا عددًا من التونسيين في انتظارهم، حيث فتحوا لهم أبوابهم وأحسنوا استقبالهم في انتظار وصول الطائرة العسكرية التونسيّة التى أعادتهم لأرض الوطن.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

عالقون في أوكرانيا.. قصة طالب تونسي زمن الحرب والهروب

نبّه من خطورة آثار حرب أوكرانيا على تونس.. اتحاد الشغل يدعو لإجراءات استباقية