تصدير: "هناك قوى تصنع السعادة وقوى تصنع البؤس لا نعرف أيهما سيسود ولكن لكي نتصرف بحكمة يجب أن نكون على دراية بكل منهما.." (الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل).


إن انطواء الشعور المجتمعي على نمط وجود مصبوغ حضاريًا بفقه المؤسسة الدينية ووظائفها التطورية قد يفضي إلى الافتراض بأن المجتمع ــ أي مجتمع ــ يقف بثبات على أرض ميتافيزيقية صلبة فيما يشبه اليقين الذي يستمد قوته مباشرة من السماء... وكلما حاولت الفلسفة وحاول الإبداع الفني الاقتراب من تلك الأرض اليقين والتقليب في المفاهيم الثابتة والذهاب إلى محاورتها وطرح بدائل جديدة ولو بالتخيّيل والمكاشفات الشعرية والفنية إلا وواجهت الصدّ والاتهام بالزندقة والمروق والانحراف الأخلاقي لأن الضمير القوي للمجتمع والموزع داخل الأفراد يحارب كل وافد لا يتلاءم مع أنظمته السائدة.

وهو تقريبًا ما ذهب إليه العمل الدرامي "براءة" التي أخرجه سامي الفهري وتبثّه بمناسبة شهر رمضان القناة التلفزيونية الخاصة "الحوار التونسي"، فالخيط الدرامي لهذا العمل الفني يتحرك في محيط فكرة قديمة جديدة لدى المجتمعات العربية الإسلامية وهي الارتباط خارج العقد الرسمي أو ما يطلق عليه  "بالزواج العرفي".

 

 

في اللحظة التي اعتقد فيها المجتمع التونسي أنه تخلص من لازمة تعدد الزوجات وما جاورها من الأنواع الأخرى للزواج وخصوصًا الزواج العرفي وذلك  بمقتضى مجلة الأحوال الشخصية الصادرة سنة 1957 والتي تعتبر من أهم القوانين التي أصدرتها دولة الاستقلال في ذلك الوقت بإرادة سياسية قوية وشجاعة وكانت تونس بها رائدة في المجتمعات العربية الإسلامية وكان الهدف منها حماية المجتمع التونسي من تبعات تعدد الزوجات في مستوى العائلة والمجتمع وذلك ضمن توجهات تحديثية قادها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

تفاجأ المتفرّج التونسي بالموضوع الرئيسي أو الفكرة المرتكز للعمل الدرامي براءة فاندلع نقاش بين التونسيين بالبيوت والمقاهي وعلى منصات التواصل الاجتماعي بين مؤيد للزواج العرفي ورافض لوجوده في حين غاب النقاش الجدي والمؤسس في وسائل الإعلام وغابت الندوات الفكرية والموائد المستديرة بالجامعة باستثناء بعض البيانات من جمعيات وأحزاب، حذرت من تشجيع هذا المسلسل التلفزيوني على عودة الزواج العرفي، معتبرة أن هذا العمل الفني يحمل مضامين مفزعة تهدد بالأساس أركان مؤسسة الزواج في تونس.

العمل الفني والإبداعي له الحرية المطلقة في تناول المواضيع التي تهم المجتمع وطرق تقديمها ومن حق المتلقي مناقشة العمل ونقد الأفكار التي يسعى لتمريرها وحتى الذهاب لاستهجانها

لنتفق منذ البداية أن العمل الفني والإبداعي له الحرية المطلقة في تناول المواضيع التي تهم المجتمع وطرق تقديمها، وفي مقابل ذلك من حق المتلقي مناقشة العمل ونقد الأفكار التي يسعى لتمريرها وحتى الذهاب لاستهجانها واستنكارها.

مسلسل براءة قلّب في هامش مستتر في المجتمع التونسي ألا وهو الزواج العرفي الذي تنامى بشكل لافت في العشرية الأخيرة وخاصة في أوساط السلفيين، وقد تم تسجيل 1718 حالة زواج عرفي في تونس خلال الخمس سنوات الأخيرة، ورغم "فداحة الرقم" إلا أن المحللين الاجتماعيين أوعزوا ذلك لأسباب معيشية واجتماعية منها الفقر وتأخر سن الزواج لدى الشباب، في حين أن الأمر يتعلق أيضًا بالبنية النفسية للمجتمع التونسي لأن العديد من حالات الزواج العرفي تمت داخل عائلات ميسورة أيضًا.

لقد توخى المخرج سامي الفهري في عمله براءة طريقة مسرح الصدمة حيث أمعن في زعزعة الثابت المجتمعي وخاصة في المواضيع ذات التّماس مع المؤسسة الدينية وتعاليمها فتتالت المفاجآت الرّاجة في تمشي السيناريو فنجده يلمّح إلى الفتاوى التقليدية المتعلقة بالزواج والعلاقات الزوجية التي كانت سائدة قبل قيام الجمهورية وإصدار مجلة الأحوال الشخصية مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين.

توخى المخرج سامي الفهري في عمله براءة طريقة مسرح الصدمة حيث أمعن في زعزعة الثابت المجتمعي وخاصة في المواضيع ذات التّماس مع المؤسسة الدينية وتعاليمها

كما يقدّم براءة شكلاً غير سائد للعائلة التونسية، فعائلة مثل عائلة "سي ونّاس" لا يمكن أن نجد لها أثرًا في النسيج المجتمعي التونسي الحديث لا في الشمال ولا في الجنوب وذلك رغم تقليدية بعض العائلات في بعض الجهات لكن ليس على تلك الشاكلة التي يقدمها هذا العمل الدرامي.

وحسب مفاهيم علم الاجتماع الحديث فإن عائلة "سي ونّاس" تعتبر "عائلة ممتدّة" تكرس هيمنة الوالدين الأخلاقية والاقتصادية وهو ما يتنافى مع الحقيقة السائدة وهي أن المجتمع التونسي يسير في العقود الأخيرة في اتجاه نحت شكل العائلة الحديثة كما في أوروبا والعالم الغربي وهو ما يعرف في مجال السوسيولوجيا  "بالعائلة النواة".

 

 

إلى جانب الفكرة الأساسية التي أشرنا إليها آنفاً وفي مستوى تكييف العلاقات بين الشخصيات يقصف مسلسل "براءة" أهم قيمة إنسانية طبيعية تسود بين البشر في أي مجتمع مثل الحب والوفاء للمحب.. ويستعيض عنها بالخيانة والنفاق والعنف والمصلحة الشخصية الضيقة.

الحب في هذا العمل معتدى عليه ومفهومه لدى شخصيات العمل مغاير تمامًا للجوهر الإنساني الخالد، إن شخصيات هذا العمل الدرامي قد تبدو شخصيات مرضية ومعطوبة أخلاقيًا ولا تضيف للمشاهد سوى بعض القتامة والانحراف به قيمياً "وناّس لا يحب زوجته زهرة وأنيس لا يحب حنين وحنين لا تحب طلال وطلال لا يحب شيراز..".

يقصف مسلسل "براءة" أهم قيمة إنسانية طبيعية تسود بين البشر في أي مجتمع مثل الحب والوفاء للمحب ويستعيض عنها بالخيانة والنفاق والعنف والمصلحة الشخصية الضيقة

وإذا تأملنا أكثر فأكثر المستوى العلائقي بين شخصيات المسلسل فإننا نخلص إلى أنها شخصيات غير نموذجية لأنها تفرط في تقديم نفسها على نحو سيء بالمعنى الأخلاقي للكلمة حيث تروج أغلب الشخصيات إلى مفاهيم التشظي والأنانية والنفاق والمنفعة الشخصية.

أما عن أداء الممثلين في مسلسل "براءة" والذي جمع زمرة من خيرة ممثلي المسرح والسينما في تونس فقد كان مقنعًا إلى حد كبير وخاصة آداء الممثل الكبير فتحي الهداوي، الذي  تلبّس بشخصية "سي ونّاس" فكان يتنقل بين المشاهد بيسر وتماه وعفوية نادرة أضافت إلى هذا العمل الفني وأكدت أن فتحي الهداوي ممثل من طراز عال.

ومن جهته، حضر الممثل محمد السياري رغم دوره الثانوي بكامل توهجه ومن ورائه مسيرة فنية وتمثيلية متوجة، الممثلة ريم الرياحي أكدت من خلال دور "أمي زهرة" أنها في مرحلة نضج قصوى وعطاء كبير بعد أن راكمت التجربة عبر العديد من الأعمال الدرامية والفنية، ومن جهته الممثل محمد علي بن جمعة ورغم حضوره الثانوي إلا أن الشخصية التي تقمصها تبدو خطيرة ومركبة ومعطوبة نفسانيًا وقد وفق تمامًا في آدائها.

ومن الوجوه الشابة يمكن التنويه بأداء عزة سليمان، الذي تطلب مجهودًا في مستوى تعبيرات الوجه وحركة الجسد وأيضًا الممثلة الصاعدة فاطمة برتقيس، التي أكدت مرة أخرى أنها على الطريق الواثقة فهي تبذل من روحها في شخصية حنين.

"براءة" أعاد تونس إلى الحاضنة الشرقية التي حاولت دولة الاستقلال قطعها تحت  مسميات التحديث، مؤكدًا أن لهيبًا ما لا يزال موجودًا تحت رماد التاريخ الاجتماعي التونسي

إن مسلسل "براءة" الذي أثار جدلاً واسعًا لحساسية المواضيع التي تطرق إليها يمكن القول إنه أعاد تونس إلى الحاضنة الشرقية التي حاولت دولة الاستقلال قطعها تحت مسميات التحديث، مؤكدًا أن لهيبًا ما موجودًا تحت رماد التاريخ الاجتماعي التونسي وأن هناك عالم مستتر موجود في ثنايا المجتمع ولا نعرفه وخارج عن سيطرة المعرفة والعلم والإرادة السياسية والخيارات الثقافية.

أما إذا كان هذا العالم محض خيال المبدع والفنان فإنه سيضطرنا إلى البقاء في نقطة الريبة والشك والتأويل ويسندنا في هذا الرأي الفيلسوف جورج باركلي بالقول "إذا كانت المادة توجد فعلاً، فلن نستطيع معرفتها أبدًا، وإذا لم توجد فسيبقى كل شيء كما هو" (من مقال "مبادئ حول المعرفة البشرية"، صادر سنة 1998 عن مطبعة جامعة أكسفورد).