ليس أصعب من أن يداهم المرض الخبيث امرأة متزوّجة وأم أطفال، لا يهددّ المرض حياتها فقط، بل يهدّد أيضًا أسرتها الصغيرة حينما يصبح أكبر همّ الأم أبناءها الصغار. أطفال تعوّدوا أن تعدّ لهم أمهم الفطور في صباح كل يوم قبل أن تحملهم إلى الروضة، وفجأة يداهم ضيف ثقيل يجعل العائلة، بكلّها، تصارع من أجل مواجهته.
التقى "الترا تونس" بـ"أ.م"، أم تونسية من سيدي بوزيد، عاشت تجربة سرطان الثدي. تحدثت إلينا عن رحلتها البطولية في مواجهة المرض الخبيث، من لحظة اكتشافه إلى الانتصار عليه، مرورًا بما عاشته من مشاعر مختلفة طيلة رحلة العلاج، وقدّمت أيضًا نصيحة للنساء اللاتي يقاومن المرض الخبيث.
هكذا روت قصتها:
لم أظن يومًا في حياتي أنني سأُصاب بهذا المرض الخبيث. كنت دائمًا حتى في حديثي مع المحيطين بي أستبعد كثيرًا أن أُصاب به يومًا، وإن كنت أعلم أيضًا أن كل شيء قابل للحدوث في هذه الحياة.
كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحًا، استيقظت على عجل ولم يكن زوجي في البيت إذ كان يعمل بنظام الـ24 ساعة. أخذت حمامًا ساخنًا بسرعة وذهبت لايقاظ الأطفال لإيصالهم إلى روضتهم. كان اليوم ماطرًا وكئيبًا، ارتديت ملابسي وضعت حمالة الصدر، لكن بينما كنت أثبتها في مكانها لمس إصبعي جسم يابس في المنطقة السفلى من ثديي الأيمن، لمسته في رفق فتبين أنها كتلة صغيرة، دعكتها قليلًا لكن تبين أنها صلبة جدًا، ثم تفقدت ثديي الأيسر لكنه كان سليمًا. لم أعر للأمر اهتمامًا كبيرًا.
لم أظن يومًا في حياتي أنني سأصاب بهذا المرض الخبيث وكنت دائمًا حتى في حديثي مع المحيطين بي أستبعد كثيرًا أن أُصاب به يومًا
جلست وأطفالي على مائدة الطعام وفي غمرة فطورنا المليء بالجلبة والضجيج كما في كل يوم، ترتمي إلى عقلي جملة قالتها زميلتي في العمل حول أعراض سرطان الثدي: "لقد اكتشفت فلانة مرضها بعد أن لاحظت كتل صلبة في أثدائها".
في سرعة رهيبة، ربط عقلي الأحداث ببعضها البعض كما يحدث في الأفلام السينمائية، وأقنعني في أقل من 3 ثواني بأنني أُصبت بالمرض ورسم لي سيناريو مروعًا كيف أنني أجريت عملية ولم تكن ناجحة وكنت أودع أطفالي على فراش الموت. كانت الأحداث تتشكل في سرعة رهيبة، ثم نجحت في الخروج من ذلك الدوار العنيف ونظرت إلى أطفالي طويلًا قبل أن تتسرب دمعة من بين رموشي لم أفهم سببها، لعلها كانت تتوقع شيئا سيئًا سيحدث.
اقرأ/ي أيضًا: انتصرن على السرطان.. حديث عائدات من المرض "الخبيث"
أخبرت زوجي بالأمر، وأخفيت وساوسي التي لم تترك لي مجالًا للنوم ليلتها ثم ذهبت إلى الطبيب في اليوم الموالي. كان قلبي ينبض بشدة حتى أن زوجي الذي لم يكن يعلم شيئًا عن سرطان الثدي قد إستغرب حالتي كثيرًا، أجرينا التحاليل وعدنا بعد يوم لمعرفة النتيجة وقد قال الطبيب في ذلك الوقت جملته التي أغرقتني في الحزن لأيام طويلة: "الوضع غير مطمئن وقد أرسلت التحاليل إلى مخبر مختص لمزيد التأكد".
عرفت، في تلك اللحظة، أنني وعائلتي سندخل تجربة صعبة، في تلك النقطة من الزمن أيضًا فهم زوجي القصة بكاملها. كان رجلا مكابرًا لا يظهر ضعفه أبدًا، كان يبتسم كثيرًا ويخفي حزنه الدفين كثيرًا، لم يبدو عليه التأثر عندما علم بالقصة رغم أنني كنت مقتنعة بأن براكين من الحزن والألم قد ثارت داخله.
لم يبد على زوجي التأثر عندما علم بمرضي بالسرطان رغم أنني كنت مقتنعة بأن براكينًا من الحزن والألم قد ثارت داخله
أراد إخراجي، في تلك الليلة، من حالتي النفسية السيئة بأي ثمن، تناولنا طعام العشاء في أحد المطاعم رفقة الأطفال وظللنا نطوف بالسيارة، أشعرني في تلك الليلة أنني صديقه ولست زوجته. تحدث كما لم يتحدث سابقًا عن مشاكله، عن تجاربه القديمة، عن عالمه الخفي في عمله، تحدث عن أفكاره السوداء وطموحاته الجميلة.
وتحدث عن عائلته وظل يحلل شخصية كل فرد فيها، ثم في آخر الرحلة الجميلة قال لي كلمات كانت أجمل كلمات أسمعها، قال لي: "لن أتخلى عنك ولو اضطررت إلى بيع أعضائي من أجلك، أنا لا أقول دائما أحبك ولكنك لا أستطيع العيش بدونك ولو لحظة واحدة". سرت في عروقي دماء جديدة ونمت قريرة العين في تلك الليلة.
اقرأ/ي أيضًا: بطولة شاب قهر مرضه النّادر بـ"كمال الأجسام"
في صباح الغد، اتصل بي الطبيب ليؤكد أن مخاوفه تأكدت وأنني فعلًا مصابة بالمرض الخبيث، لم تكن صدمة كبيرة لكنها نجحت في إغراقي في بحر من الحزن.
بعد أسبوع قضيته أقاوم الحزن وإحساس الموت القادم بعد حين والنوم المتقطع، اتجهت مع زوجي وأختي إلى مصحة خاصة، وكان الطبيب عالم نفس أكثر منه طبيب. أفهمني بكلمات بسيطة رفقة زوجي أن حالتي بسيطة وليست خطيرة كما كنت أظن، وأن هذا المرض هو عبارة عن رحلة وعلى قدر قوة الشخصية النفسية للشخص يكون النجاح فيها.
دخلت إلى غرفة العمليات لاستئصال الورم في مرحلة أولى، كان الوضع معقدًا جدًا. سيطر عليّ شعور كبير بالخوف لكن كلمات الطبيب الذي وجدها عقلي الصغير واقعية كان تنقذني من السقوط في الهلع وفي التفكير الأسود حول مصير أبنائي وكيف سأتركهم لوحدهم في هذا العالم.
كلمات الطبيب أنقذتني من السقوط في الهلع وفي التفكير الأسود حول مصير أبنائي وكيف سأتركهم لوحدهم في هذا العالم
كانت علاقتي بعائلتي عادية. نشأنا على خجل عربي يمنعنا من التعبير عن حبنا لبعضنا البعض لكنني في المقابل أستطيع التأكيد أن هذه التجربة كانت قاسية على عائلتي كثيرًا. كان الجميع يشعر برعب متواصل طيلة هذه التجربة، لكن أمي الشخص الوحيد الذي كان من المنتظر أن يكون أكثر الخائفين كانت تحتفظ برأس بارد في مواجهة إعصار من الهواجس. كانت على ثقة تامة بأن كل هذا سيزول وسينتهي، لماذا؟ بكل بساطة لأن الله يحبها ولا يريد لها أن تحزن.
ثم دخلنا في مرحلة العلاج الكيماوي، كانت أصعب المراحل في حياتي، وكانت أكثر تجربة أشعر فيها بأهمية حياتي. كنت أعود إلى بيت والدي بعد كل حصة، مزاج سيء جدًا وعدم قدرة على الأكل، شعور متواصل بالقرف من كل شيء حتى أطفالي أصبحت لا أطيقهم ولا أطيق حملهم. كنت أشعر بالغثيان بشكل يومي، وعندما أحاول الأكل أشعر بأن سقف فمي سوف ينهار بين لحظة وأخرى.
لكن كلما تقدم العلاج، كلما أصبحت أكثر إصرارًا وعزيمة على بلوغ نهاية الرحلة التي تحدث عنها الطبيب، تلك الرحلة التي يجب عليّ أن أقطعها من أجل العودة إلى أطفالي وزوجي وعائلتي وبيتي الجميل وعملي الذي إشتقت إليه كثيرًا.
أكملت آخر حصة في العلاج الكيماوي، وبدأت مرحلة جديدة هي عبارة عن دواء يُحقن في الجسم كنوع من القتل النهائي للورم، تدوم هذه المرحلة أكثر شهرين.
تجربة سرطان الثدي جعلت علاقتي بعائلتي أجمل مما كانت عليه وأذابت جميع الخلافات بيني وبين زوجي
أستطيع أن أقول شيئًا قد لا يصدقه البعض، هذه التجربة جعلت علاقتي بعائلتي أجمل مما كانت عليه، جعلتنا أكثر حميمية والتصاقًا ببعضنا البعض. لقد أذابت جميع الخلافات بيني وبين زوجي، وجعلتني أنظر إلى أطفالي بطريقة مختلفة.
أشعر اليوم بالفخر أنني وصلت لآخر الطريق، وأنهيت الرحلة بكل ثبات وقضيت على هذا المرض الخبيث. ونصيحتي إلى النساء اللواتي اكتشفنا إصابتهنّ بهذا الورم: "لا تجزعن، كن قويات، فكرن دائمًا في محيطكن، وأطفالكن، وأزواجكن وعائلتكن. أشخاص كثّر ينتظرونكن في آخر الرحلة، فكنّ قويات".
اقرأ/ي أيضًا:
حينما ننتصر إرادة التحدي.. قصة شاب يعاني "الديسلكسيا" يجتاز الباكالوريا بنجاح
فيلم "بنت القمرة".. عن نساء تحدين المرض وواجهن مجتمعًا لا يرحم