مقال رأي
لا ينطلق هذا المقال من قناعة مفادها أنّ الدولة تتحمّل مسؤوليّة أبويّة إزاء المجتمع وأنّ موازينه منخرمة ما لم تتدخّل السياسة لصالح الأضعف كما قد يوحي بذلك العنوان. كما نتعمّد غضّ النّظر عن نقاش لا نراه مفيدًا في هذه الحالة، وهو نقاش حول تعريف الاقتصاد وعلاقته بكلّ أوجه الفعل السياسيّ فيغدو كلّ شيء اقتصادًا: الثقافة والتعليم والدّفاع وغيرهم.
وإنّما نعني بـ"الاقتصاد كأولويّة سياسيّة" ما يتعلّق بتوازنات المالية العمومية وكل أوجه تدخّل الدولة لإنقاذ الصناعة والفلاحة والسياحة والخدمات وغيرها من القطاعات، وهذا بالذات ما نحاول مساءلته في هذا المقال.
لا يجب للاقتصاد وتحريك "عجلة النمو" أن تكون أولوية وإنقاذ حدّ أدنى من الكفاف الفردي والجماعي واللّحمة الأهليّة هو ما يجب أن يكون أولويّة أيًا تكن الكلفة
وإذ يبدو بديهيًا أنّ الأزمة العالميّة وارتداداتها تجعل من الاقتصاد أولوية أي فعل سياسي، والحال أنّ رؤساء الحكومات السابقين والمكلّف الجديد لا يفتؤون يكرّرون ذلك ويطلق بعضهم جملًا عامّة تنطوي على كلّ شيء ولا شيء بخصوص الاقتصاد، فإنّنا فيما يلي نرجّح أنّه لا يجب للاقتصاد وتحريك "عجلة النمو" أن تكون أولوية وأنّ إنقاذ حدّ أدنى من الكفاف الفردي والجماعي واللّحمة الأهليّة هو ما يجب أن يكون أولويّة أيًا تكن الكلفة.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة تونس.. أجراس اللاعودة
يبدو ذلك ضربًا من جنون وحاملاً لأوجه تناقض داخلي: ماذا يعني أن ننقذ الأفراد والجماعات دون إنقاذ الوظائف ومن ثمّة الشركات والمؤسسات الاقتصادية؟ ماذا يعني ألاّ نعتبر الاقتصاد كأولوية في بلد من المتوقّع أن يتقلّص نموّه بنسبة تتجاوز الستة في المائة وقد يرتفع عجز الميزانية فيه بنسبة 88% ؟
يعني ذلك ببساطة أنّ ثمّة أجناسًا من الأزمات لا يمكن تجاوزها ويجب القبول بكلفتها الباهظة أو التدميريّة لنسق تاريخي قائم. ربّما تكون الأزمة الحاليّة من جنس هذه الأزمات التي تغيّر مجرى التّاريخ منذ الثورة الصناعية وبروز الرأسمالية الحديثة وردود الفعل عليها على غرار الماركسية.
نقول ربّما لأنّ لا أحد قادر على توقّع مآلات الأزمة. ثمّة طبعًا سيناريوهات متفائلة تشبّه ما هو واقع ببقية الأزمات المعاصرة كأزمة الثلاثينيات وترجّح عودة سريعة للنمو يُرمز لها بالحرف اللاتيني V أو عودة أكثر بطئًا يُرمز لها بالحرف اللاتيني U، لكن الملفت للانتباه هو أنّ نسبة 8% من الشركات تتوقّع في استطلاع أخير ركودًا متواصلاً فيما يُرمز له بالحرف اللاتيني L .
نحن ببساطة قد نكون مقبلين على موت الاقتصاد كما عرفناه أو عهدناه ونهاية النمو الاستثنائي للاقتصاد الرأسمالي
ثمّة إذًا سيناريو متشائم لكنّه واقعي وليس محض خيال: نحن ببساطة قد نكون مقبلين على موت الاقتصاد كما عرفناه أو عهدناه ونهاية النمو الاستثنائي للاقتصاد الرأسمالي. وهو نمو كانت كلفته البيئية الكونية والإنسانية والمجتمعية باهظة. قبل بضعة أشهر كانت بعض التصوّرات الطّرفيّة حول "اقتصاد اللا نموّ" محض تصوّرات نظريّة راديكالية لكنّها اليوم تغزو المجالات التقليدية للفكر السياسي الاقتصادي أو "اللا اقتصادي".
وفي رسالة نُشرت في شهر ماي/ أيار الماضي بأكثر من عشر لغات - ليس من بينها العربيّة للأسف – وفي مواقع دوليّة في القارات الخمس دعا أكثر من ألف أكاديمي إلى مراجعة جذريّة لفكرة النمو الاقتصادي بل ودحضها لصالح تراجع محمود للنمو الاقتصادي يعيد للإنسان إنسانيته وعلاقته التاريخية بالذات وبالمجموعة وبالطبيعة. تحمل هذا الرسالة التاريخية بين طيّاتها أسئلة عميقة عن معنى العمل ومستقبله، والزّمن والجهد اللذان نكرّسهما للوظيفة مقابل الأجر على حساب الزمن الاجتماعيّ العائلي والتربوي والمهنة باعتبارها شغفًا وفنًّا، عن معنى الاستهلاك وما هو أساسيّ في مقابل ما هو ثانويّ.
دعا أكثر من ألف أكاديمي مؤخرًا إلى مراجعة جذريّة لفكرة النمو الاقتصادي بل ودحضها لصالح تراجع محمود للنمو الاقتصادي يعيد للإنسان إنسانيته وعلاقته التاريخية بالذات وبالمجموعة وبالطبيعة
قد تبدو هذه الفرضيّة ترفًا تفاؤليًّا أو تشاؤميًّا في السياق التونسي، لكنّ انقطاعات المياه في أكثر من جهة واندلاع الحرائق قرب التجمّعات السكنيّة بشكل متواتر – فضلاً عن كارثة بيروت الأخيرة - يجب أن يحوّل أنظارنا إلى ما هو رئيسيّ في المعاش الإنساني. ليست الأرقام، ومخاوف التضخّم أو الكساد سوى تفاصيل في هذه المرحلة وهي بالضبط ترف على مستوى العمل السياسيّ.
وبوضوح أكبر، فإنّه ليس هناك من معنى لإنقاذ مصنع أسمدة كيميائيّة، وليس هناك من معنى للاحتجاج الاجتماعي أو للتّفاوض بخصوص التوظيف في شركة بترولية في فجر عصر ما بعد النّفط، وليس من معنى لإنقاذ شركة الطيران في زمن تُعقد فيه المؤتمرات الدولية عن بُعد. في الحدّ الأدنى تحتاج اللحظة إلى كثير من التمهّل، وهذا التمهّل نفسه تعضده تصوّرات الاقتصاد السّائد النيوكلاسيكي حول التّوقيت الملائم للإنعاش وشروط جدوى الاستثمار العمومي والتحفيز الجبائي في سياق الأزمات أو الحروب .
ومن هذا المُنطلق، وإذا كنّا لسنا متيقّنين من جدوى الإنعاش الاقتصادي، فالأسلم - وأيًا يكن الموقف من نموذج النموّ في الاقتصاد والسيناريوهات المرتقبة – أن تُوجّه الجهود لإنقاذ الأفراد والعائلات بطريقة مباشرة ودون المرور بالمؤسسات الاقتصاديّة ومواطن الشغل في القطاعين العامّ والخاصّ. والجهود المباشرة تعني شيئًا بسيطًا لا مراوغة بخصوصه: توزيع مساعدات نقديّة (غير عينية) للفئات التي لا تسيق الصّبر ولن تطيقه. أمّا كيف وكم ومتى؟ فتلك أسئلة مشروعة وتبقى تفصيلاً مقارنة بالأساس: إنقاذ المجتمع قبل أن تتهاوى أركانه.
اقرأ/ي أيضًا:
المساهمة الاجتماعية.. إلى متى الاستنزاف الإجباري؟