26-فبراير-2020

عودة لواقع لغة الإشارات في تونس (Getty)

تصدير: "محلى صوتك في عينيّا"


من التعريفات الفلسفية للإنسان هي أنّه كائن يتوخى الكلام المنطوق للتواصل والاستمرار، وهو يسكن اللغة وتسكنه جبلّة وثقافة، وأثبتت دراسات علوم الإناسة أن الانسان هو كائن لغوي بالأساس فكانت البدايات مع الغمغمة والإماءة والتصوير والحركة والإشارة وهو منا ساد آلاف السنين، وأنّ مرحلة نطق اللغة كما هي عليه الآن حلّت في حقب زمنيّة أخرى لاحقة.

ومع هيمنة المنطوق اللغوي وسيادته على التواصل البشري، أهمل الإنسان باقي اللغات الأخرى وخاصّة لغة البدايات وهي لغة الإشارة التي استعادت مكانتها في القرون الأخيرة وحاولت البشرية فهمها من جديد وفكّ رموزها وتصنيفها وتدريسها خاصة أنها مطلوبة من فئة داخل المجتمعات الناطقة نسميها بالصمّ.

95 في المائة من الصّم في تونس هم أميّون ويعاني مجتمع الصم الذي يضم 200 ألف فردًا من عديد المشاكل والتعثرات

ومع تتالي الدراسات والبحوث في هذا المجال، خلصت البشرية إلى أنّ لغة الإشارات هي "اللّغة الأم للأصمّ"، فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالخصوصيات الحضاريّة والثقافيّة المحلية لكل مجتمع وبالتالي يمكن الحديث اليوم عن لغات إشارة بعدد المجتمعات العالمية.

وتُعتبر تونس الدولة العربية الوحيدة التي أولت هذا الموضوع العناية الخاصة بعد اعترافها بلغة الإشارات كلغة رسمية للصمّ التونسيين، وجعلت من هذه اللغة اختصاصًا جامعيًا يُدرّس بالجامعة التونسية، تحديدًا بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية (معهد ابن شرف) ليتخرّج سنويًا حولي عشرة مختصين من حاملي شهادة "الإجازة الأساسيّة في لغة الإشارات".

اقرأ/ي أيضًا: النفاذ للخدمات وللمعلومة.. هاجس يقيّد ذوي الإعاقة في تونس

لكن لازال يعاني مجتمع الصمّ في تونس، الذي يعدّ 200 ألف فردًا، وكذا اختصاص لغة الإشارات، من عديد المشاكل والتعثّرات والأزمات منها بالأساس هيمنة جمعيات تقويم النطق التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية ومراكز تقويم النطق العمومية والخاصة على هذا المجال. وهي هيمنة عبر استقطاب هذه الجهات للأطفال الصمّ والتركيز الكلي على الإنطاق الذي يبدو قسريًا في بعض الأحيان ومنعهم من تعلم لغة الإشارات معوّلين في ذلك على الجانب النفسي لعائلة الطفال الأصمّ الذين يطمحون بأن يشاهدوا أبنائهم ينطقون كغيرهم فيتمّ ابتزازهم ماديًا ومعنويًا.

ومن الإشكاليات التي تعترض لغة الإشارات في تونس هي عدم إدراجها في المدارس فـ95 في المائة الصمّ التونسيين هم أميّون زد على ذلك نظرة المجتمع القاسية للأصمّ فهو إلى اليوم يسمّى "البكوش" و"الأطرش" وتُستعمل تجاهه عبارات أخرى تمسّ من كرامته.

"ألترا تونس" يحاول، في هذا التقرير، تشخيص واقع لغة الإشارات في تونس ورصد أهم مشاكلها وتشوّف الحلول الممكنة مع المختصّين في هذا المجال.

حسام العلوي (مترجم لغة الإشارات ورئيس جمعية مختصّة): لابدّ من منظومة تشريعية

حسام العلوي، الحاصل الأستاذية في لغة الإشارات من الجامعة التونسية وهو مترجم معتمد لدي الهيئات والمنظمات الدولية وأيضًا رئيس الجمعية التونسية لمترجمي لغة الإشارات، يؤكد، في بداية حديثه لـ"ألترا تونس"، أن لغة الإشارات في تونس تناضل من أجل وجودها وترسيخها في المجتمع التونسي بأسره وليس داخل المجتمع الصّغير للصمّ فحسب.

وأوضح أن مجال نضالها يمسّ مسألتين هامّتين أوّلهما استهداف المدرسة بجعل لغة الإشارات مادة اختيارية تدرّس في المعاهد الثانوية، وأيضًا تكوين المعلمين والأساتذة في أبجديات هذه اللغة التواصلية "الممتعة" وذلك حتى يتمّ إدماج الصمّ في المدارس بشكل طبيعي ولا يتم إقصاؤهم من الحياة فيتحولوا الى مجموعة منبوذة، وفق تعبيره.

دعا رئيس الجمعية التونسية لمترجمي لغة الإشارات حسام العلوي إلى ترويج لغة الإشارات 

 

وأكد العلوي أن 95 في المائة من الصمّ في تونس ينقطعون عن الدراسة من المرحلة الابتدائية و3 في المائة فقط يصلون إلى مستوى الباكالوريا و2 في المائة منهم يدخلون الجامعة ليدرسوا في 3 مجالات بعينها وهي الإعلامية، وعلوم الرياضيات والفنون والحرف، معتبرًا أن هذه الأرقام مخيفة وتتطلب وعيًا مجتمعيًا بخطورتها.

وأفاد رئيس الجمعية التونسية لمترجمي لغة الإشارات أن المسألة الثانية تهمّ الترويج للغة الإشارات وجعلها اللغة الرّسمية لصمّ الدولة التونسية وذلك برصد الإشارات في الجهات ومحاولة توحيدها من أجل إنشاء القاموس الإشاري التونسي والحدّ من دور الدّخلاء على هذا المجال.

وأوضح، في هذا الجانب، أن الدخلاء هم الجمعيات الشبيهة والمختصين في بعض الإعاقات الأخرى مثل جمعيات ومراكز التدريب على النطق التي تسعى، وفق قوله، للهيمنة على مجتمع الصمّ وذلك بضربها للغة الاشارات والترويج ضدّ أهميتها بالنسبة للأصم مقابل إبرازهم للتدريب على النّطق كبديل، و"أحيانًا يكون في الأمر نوع من التجارة بمشاعر الاولياء الذين يحلمون يوما ما بأن يشاهدوا أبنائهم من الناطقين".

حسام العلوي (مترجم لغة الإشارات ورئيس جمعية): النسيج المدني المتعلّق بلغة الإشارات عدده قليل في تونس ومشتت بعض الشيء وهو ما عطّل عملية الإصلاحات الممكنة ومقترحات التطوير

اقرأ/ي أيضًا: في مجتمعنا ومدارسنا.. الصم والبكم يعانون الإهمال والغربة والقهر!

واعتبر العلوي، في هذا الجانب، أن الدولة متخلّية عن دورها في تأطير هذه المسألة بغياب القوانين والتشريعات الموحّدة والواضحة والمحددة للأدوار والمسؤوليات لكل نشطاء هذا المجال الإنساني الحيوي، وقال إن هذا الموضوع بقى محلّ تجاذب بين الوزارات وتحكمه المناشير الغامضة والصامتة عن العديد من التفاصيل وخاصّة منها المتعلّق بلغة الإشارات.

وأكد أن النسيج المدني المتعلّق بلغة الإشارات "عدده قليل في تونس ومشتت بعض الشيء وهو ما عطّل عملية الإصلاحات الممكنة ومقترحات التطوير" مضيفًا أنه حان الوقت لجلوس كل الجمعيات والمنظمات الناشطة في هذا المجال على نفس الطاولة من أجل التحاور ورسم إستراتيجيا واضحة تنهض بواقع لغة الإشارات في تونس.

وتحدّث المترجم في لغة الإشارات لـ"ألترا تونس" عن تجربته مع الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التي شرعت في اعتماد مترجمي لغة الإشارات منذ سنة 2011 في جميع المحطات الانتخابية، مؤكدًا في نفس الصدد أن الهيئة ملتزمة بذلك أخلاقيًا وقانونيًا.

اعتبر ذلك في صميم الممارسة الديمقراطية لأن الصمّ هم جزء من الشعب ويحقّ لهم ممارسة حقّهم الانتخابي في ظروف مناسبة، معتبرًا أن قيامه بالترجمة لفائدة هيئة الانتخابات هو عمل نبيل انتفعت منه فئة تعاني الإهمال في المجتمع التونسي منذ عقود.

فائزة قنوني (جامعية ومترجمة محلّفة في لغة الإشارات): ضرورة إنشاء قاموس إشاري موحّد

من جهتها، تعتبر فائزة قنوني، وهي الأستاذة الجامعية المختصة في لغة الإشارات بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس والمترجمة المحلّفة في هذه اللغة، أن "تونس انتبهت إلى أهمية لغة الإشارات في وقت متأخر بعض الشيء" ولكنها تشدد أن تونس تظل البلد الأول عربيًا الذي بعث هذا الاختصاص في الجامعة في بداية الالفية لتتخرّج أول دفعة من مترجمي لغة الإشارات، وعددهم 16 أستاذًا، سنة 2005.

تدعو الأستاذة الجامعية المختصة في لغة الإشارات فائزة القنوني للعناية بظروف تدريس هذه اللغة

 

وأكدت لـ"ألترا تونس" أن ظروف التدريس تتطلب المزيد من العناية خاصة على مستوى التجهيزات و التقنيات الضرورية لتجويد العمل وأيضًا البحث عن شراكات مع معاهد وكليات تدرس نفس الاختصاص. وأفادتنا أن عدد المتخرّجين إلى حدّ الآن بلغ ما يقارب 250 متخرّجًا وهو عدد لا يفي، وفق تأكيدها، بحاجة المجتمع التونسي من مترجمي لغة الإشارات الذين تحتاج إليهم المحاكم والمؤسسات الإستشفائية والمدارس وغيرها من المؤسسات.

وتحدّثت القنوني عما اعتبرته عدم اكتراث وعدم اهتمام التونسيين بلغة الإشارات معتبرة أن تغييرة الصورة النمطية يتطلّب جهدًا مشتركًا من النسيج المدني والإعلام والدولة عبر بالجلوس معا والحلم بواقع أفضل لفئة من التونسيين تعاني التهميش والإهمال والنسيان، على حد تعبيرها.

فائزة قنوني (جامعية ومترجمة محلّفة في لغة الإشارات): عدد المتخرّجين في لغة الإشارة لا يفي بحاجة المجتمع التونسي

وأشارت الجامعية والمترجمة المحلّفة في لغة الإشارة، في ختام حديثها معنا، إلى ضرورة إنجاز قاموس إشاري يوحد هذه اللغة ويحدد رسم حروفها من شمال تونس إلى جنوبها، موضّحة أنّ الجمعيّة التونسية لمترجمي لغة الإشارات أنجزت قاموسًا إشاريًا صغيرًا خاصًا بالفضاء العام والانتخابات على وجه الخصوص ضمّ 192 مصطلحًا إشاريًا.

بالنهاية، رغم أن الريادة التونسية عربيًا في لغة الإشارات في تونس، ما تزال تعاني هذه اللغة من معوقّات عديدة لتطويرها وتعميمها في ظلّ ما تتطلّبه من تصورات عصرية وحديثة بعيدة عن النمطيات السائدة، وتظلّ المسؤولية محمولة على الدولة أساسًا إضافة للمجتمع المدني من أجل تذليل التواصل لفئة من التونسيين ضمن لهم دستور الجمهورية الثانية حقهم في العيش الحافظ للكرامة والذّات البشرية.    

 

اقرأ/ي أيضًا:

حينما ننتصر إرادة التحدي.. قصة شاب يعاني "الديسلكسيا" يجتاز الباكالوريا بنجاح

مرض التوحد في تونس.. مراكز خاصة مكلفة والعمومي لم يفتح أبوابه!