15-فبراير-2020

ضرورة إيلاء الصم والبكم الاهتمام المناسب (Getty)

 

في عينيها لمعان اليقظة والنباهة، وفي وجنتيها أسَالَةُ الحُسن والنضارة، كلّفها رئيسها في العمل بتعويض زميلتها في قسم الاستقبال لتسلم ملفات المواطنين، كانت تحدّق مليّا في وجوه الزبائن تسألهم شاخصة متملية عن مقاصدهم دون أن تنطق، ظن أحد الفتيان أنّها قد هامت به وعشقته، فلمّا همّ بها رأى برهانًا كشف له أنها صمّاء بكماء، اتّضح أن تلك النظرات لم تكن من حيل الغاويات الحسان، إنما كانت نظرات تنوب في الفهم عن الأذن واللسان.

هذه الحكاية ليست من بنات الخيال، هي حادثة واقعية رواها لـ" ألترا تونس" لطفي بن زكري المختص في تحليل السمع وأستاذ علم الاجتماع وعلم نفس الصم والبكم ومؤسّس جمعية إشارة وكاتبها العام.

يتعرض الأصم والأبكم في تونس إلى مخاطر عديدة ويساهم تقصير مؤسسات الدولة في ذلك 

هذا الالتباس الذي حصل بين الشاب والفتاة الصماء البكماء لم يكن حادثة استثنائية، فهي متكررة متواترة بشكل لافت، وهي أخطاء في الفهم والتقدير بلغت في إحدى المناسبات درجة في غاية الخطورة، إذ تعرض طفل يعاني من صمم نوعي إلى سوء تشخيص، فتم إكراهه على العلاج في الرازي، مستشفى الأمراض العصبية، ولو لا تفطن جمعية إشارة إلى الأمر، لكان مصير الطفل كارثياً، إذ تبين أن الطفل يعاني من اضطراب في سماع حروف مخصوصة عددها محدود، وكان يتصف بذكاء وقاد، فيحصل على العدد الكامل في الرياضيات وينال أضعف المعدلات في الإملاء.

هذه الأخطار في فهم الأصم والأبكم وتشخيص حالته ترجع حسب رأي بن زكري إلى سببين على الأقل، أولهما جهل جلّ التونسيين بخصوصية هذا "الضرب" من الحاجة الخصوصية، لأنها لا تشاهد مباشرة من بعيد كما الأمر بالنسبة إلى إعاقات أخرى تتصل ببقية أعضاء الجسد لاسيما فقدان البصر والإعاقة عن الحركة.

السبب الثاني يرتبط بتقصير الدولة من خلال مؤسساتها التعليميّة والإعلاميّة وغيرها من الأجهزة، إذ أهملت هذه الفئة وأعرضت عنها ، فالبيداغوجيا المهيمنة في المدارس وجل مساحات التواصل ظلّت على حدّ تعبير بن زكري مشدودة إلى المشافهة رغم تطوّر لغة الإشارة والخطاب المرتكز على الصورة.

للتأكيد على خطورة هذه المفارقة بين إعاقة الصمم وبيداغوجيا المشافهة يتساءل بن زكري في استنكار هل يمكن لنا مثلا اعتماد الصبورة لتدريس التلميذ الكفيف؟ 

ألقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له إيّاك أن تغرق

الأخطر من ذلك، في رأي بن زكري، أنّ "الصم والبكم الذين تمّ إدماجهم مع بقية التلامذة يقع الزج بهم في هذا الفضاء دون تأمين شروط نجاحهم معرفياً وجزائيًا وتواصلياً، فهم بمثابة الغرباء المقهورين أو كأنك تلقيهم في اليمّ مكتوفي الأيدي وتنتظر منهم أن لا يغرقوا". 

مؤسس جمعية إشارة: "الصم والبكم الذين تمّ إدماجهم مع بقية التلامذة يقع الزج بهم دون تأمين شروط نجاحهم فهم بمثابة الغرباء المقهورين"

فهؤلاء الصم والبكم يتلقون في المدارس الأساسيّة والإعدادية والمعاهد نفس الدروس التي تُلقى في الغالب شفويًا على الأصحاء في السمع والنطق، والغريب في الأمر، حسب بن زكري، أنهم يتابعون نفس البرامج بنفس المناهج والأساليب ويتم تقييمهم بنفس المعايير. وهو ما يقتضي في رأيه نقلاً عن أولياء التلامذة الإسراع بوضع جملة من الإصلاحات أهمها المحافظة على مشروع الإدماج وتعزيزه بأسباب النجاح، منها إعفاء الصم والبكم من بعض المواد، "ألا يحظى المعوق عن الحركة بالإعفاء عن الرياضة، ألا يمكن أن يتم الاستئناس بهذا الاجتهاد في مراعاة وضعية الأصم الأبكم؟" يقول بن زكري.

فضلاً عن ذلك يدعو محدث "ألترا تونس" إلى مراجعة مضامين الامتحانات وضواربها ومدة إنجازها بالنسبة إلى هذه الفئة، وهي خطوات دقيقة تقتضي الاستئناس بآراء التلامذة المعنيين بالأمر وأوليائهم والمربين والمتفقدين وعدد من المختصين. 

وشدّد بن زكري في نهاية حديثه إلى "ألترا تونس" على ضرورة إيلاء الصم والبكم  الاهتمام المناسب لأن هذه المحنة تشتدّ وتصبح أكثر تعقيدًا وأصعب في المعالجة والمتابعة بسبب الجهل والتقصير والحال أنّ الاضطراب في السمع نسبة عالية في تونس إذ يشمل حوالي 10 بالمائة من التونسيين بدرجات متفاوتة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيديو: الإدماج المهني لحاملي الإعاقة في تونس

فيديو: نجاة بامري فنانة تحدّت الإعاقة لترسم بفمها