08-أغسطس-2023
قيس سعيّد

لن تنتصر عصا السلطة على حرية الصحافة. والصحفيون مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالدفاع عن رسالتهم

مقال رأي 

 

من المفارقة أن رئيس الدولة قيس سعيّد، الذي قرّع مديرة التلفزة العمومية على الملأ منتقدًا ترتيب الأخبار في النشرة كان ضيفًا بصفة دورية في هذه النشرة زمن "الانتقال الديمقراطي" بصفته خبيرًا في القانون الدستوري، وقد صرّح في إحدى استضافاته وقتها أن "الدستور أكله الحمار".

هذا الدستور، للتذكير، هو ذلك الذي كتبته مختلف القوى السياسية والأيديولوجية على مدى ثلاث سنوات، وليس دستور 2022 الذي كتبه سعيّد بنفسه لنفسه في غرفة مظلمة دون إشراك ولو مدقّق لغوي. مرّ ذلك التصريح بهدوء، وهذا الطبيعي، في سياق ممارسته لحرية التعبير في وسيلة إعلام.

عادت التلفزة التونسية، بعد 25 جويلية 2021، لما كانت عليه قبل الثورة: بوقًا للسلطة وإقصاء للمعارضة، ورغم ذلك، قيس سعيّد ليس راض. هو إمعان منه في محاولة وضع اليد على الإعلام العمومي، ولكن أيضًا على الإعلام بصفة عامة

وقد كانت التلفزة العمومية فضاءً لمختلف الآراء والتقديرات السياسية من السلطة إلى المعارضة، بيد أنها عادت، بعد 25 جويلية/يوليو 2021، لما كانت عليه قبل الثورة: بوقًا للسلطة وإقصاء للمعارضة. ورغم ذلك، قيس سعيّد ليس براضٍ. هو إمعان منه في محاولة وضع اليد على الإعلام العمومي، ولكن أيضًا على الإعلام بصفة عامة.

من سخرية القدر أن سعيّد الذي لم يعرفه التونسيون في الفضاء العام إلا بفضل الصحافة التي كانت تستضيفه بصفة دورية كخبير في القانون الدستوري طيلة سنوات ما بعد الثورة، لم يتردّد في إثبات معاداته للصحافة منذ صعوده لرئاسة الجمهورية. والشواهد عديدة. أولّها أن رئيس الدولة منذ دخوله لقصر قرطاج لم يقم بإجراء أي حوار صحفي مع أية وسيلة إعلام تونسية، عدا حوار وحيد مع التلفزة الوطنية بمناسبة مائة يوم منذ تنصيبه، وذلك تنفيذًا لالتزام قطعه كل مترشح للدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية وقتها.

من سخرية القدر أن سعيّد الذي لم يعرفه التونسيون في الفضاء العام إلا بفضل الصحافة التي كانت تستضيفه بصفة دورية كخبير في القانون الدستوري، لم يتردّد في إثبات معاداته للصحافة منذ صعوده لرئاسة الجمهورية

في الماضي القريب، أجرى الرئيسان السابقان المرزوقي وقائد السبسي رحمه الله العديد من الحوارات الصحفية زمن الرئاسة. سعيّد لا يريد أن يحاوره صحفي لحوار مسجّل كان أو مباشرًا، ربّما يعتبر نفسه أرقى من أي سؤال. والحال أن الحوار الصحفي للمسؤول هو حق للصحفي وللمواطن أيضًا تكريسًا للحق في الشفافية والمساءلة. من باب المقارنة مثلًا، يجري الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لقاءً إعلاميًا دوريًا مع ممثلي وسائل الإعلام الجزائرية.

في الأثناء، القضايا المثارة بعد 25 جويلية/يوليو 2021 شملت صحفيين محالين بين القضاء العسكري والقضاء العدلي، على غرار عامر عيّاد الذي اُحيل على المحكمة العسكرية لقراءته مقطعًا من قصيدة لأحمد مطر، وشذى الحاج مبارك الموقوفة فيما يُعرف بقضية "أنستالينغو" التي حفظ قاضي التحقيق التهمة في حقها قبل أن تقرّر دائرة الاتهام إصدار بطاقة إيداع جديدة بحقها، ونورالدين بوطار، مدير عام إذاعة "موزاييك"، التي كان قد انتقد سعيّد، صراحة وعلنيًا، خطّها التحريري.

 

 

رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن قدمت بدورها شكاية ضد الصحفي نزار بهلول على خلفية مقال صحفي ناقد لها. كما قدم وزير الشؤون الدينية شكايات جزائية ضد الصحفيين منية العرفاوي ومحمد بوغلاب. نقيب الصحفيين نفسه محمد ياسين الجلاصي لم يكن خارج دائرة التتبعات بعد إحالته على التحقيق إثر مشاركته في احتجاجات رافضة لدستور 2022. وآخر الإحصائيات تبيّن أن 34 صحفيًا أُحيل على القضاء في ظرف عامين في قضايا خارج إطار قانون الصحافة.

سعيّد لا يريد أن يحاوره صحفي لحوار مسجّل أو مباشر والحال أن الحوار الصحفي للمسؤول هو حق للصحفي وللمواطن أيضًا تكريسًا للحق في الشفافية والمساءلة

برلمان سعيّد انخرط بدوره في هذه الهجمة الممنهجة استهدافًا للصحافة وتقييدًا لعمل الصحفيين: منع الصحافة الخاصة من تغطية أشغال الجلسة الافتتاحية، ومن ثم إصدار مكتب البرلمان قرارًا بمنع الصحفيين من حضور جلسات اللجان البرلمانية. من الطبيعي أن يستهدف أي نظام سلطوي ومعاد للحريات الصحافة الحرّة والمستقلّة، وسعيّد لم يشذّ عن هذه القاعدة. وهو يدّعي خطابًا بما لا يمارسه واقعًا.

 

 

مشهد الممارسات المعادية لحرية الصحافة متكرّرة منذ 25 جويلية: لا يتعلق الأمر بارتفاع عدد الانتهاكات بمختلف أصنافها ضد الصحفيين فقط، ولكن أيضًا بعودة ممارسات خلنا أننا طوينا صفحتها مثل تعيين السلطة لمديرة للتلفزة العمومية دون احترام القانون وتحديدًا المرسوم 116 الذي يفرض الاستشارة الوجوبية لـ"الهايكا" والتزام الحكومة برأيها المطابق.

أكثر من ذلك، ثبت إبعاد صحفيين من تقديم برامج في إذاعتين عموميتين لأنها "غير متناغمين" مع السلطة، بل تمت صنصرة مقالات في وكالة الأنباء الرسمية بحسب التقرير السنوي لنقابة الصحفيين.

ثبت إبعاد صحفيين من تقديم برامج في إذاعتين عموميتين لأنها "غير متناغمين" مع السلطة، وتمت صنصرة مقالات في وكالة الأنباء الرسمية بحسب التقرير السنوي لنقابة الصحفيين

ويبقى المرسوم عدد 54، في الأثناء، العنوان التشريعي الذي يظهر الوجه الحقيقي لسلطة سعيّد، وهو مرسوم يخالف دستور سعيّد نفسه وتحديدًا الفصل 55 الذي يضع ضوابط لتقييد الحريات لم يحترمها سعيّد، إضافة إلى معارضته للمعايير الدولية في مجال حرية التعبير. هذا المرسوم، الذي يفتح أبواب السجون لعقوبة تصل لمدة 10 سنوات، بتعلّة نشر أخبار زائفة، هو سيف السلطة لقمع وترهيب الصحفيين والتونسيين إجمالًا. 

دستور سعيّد 2022، في جانب متصل، يعدّ نكسة عن دستور 2014 لعدم تنصيصه على إنشاء هيئة تضمن حرية الإعلام وتعديل الإعلام السمعي والبصري وتتمتع بالسلطة الترتيبية في مجال اختصاصها، وذلك بعد إلغاء دسترة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.

يُضاف إلى ذلك انقطاع العلاقة بين رئاسة الجمهورية والهيئة الوقتية الحالية (الهايكا) بحسب تصريح رئيسها المتخلي النوري اللجمي الذي لم يقع تعويضه البتّة. "الهايكا" حاليًا تقاوم لأداء واجبها رغم حصار السلطة. والملاحظ، في هذا الجانب، أن سعيّد لم يعلن بعد عن مشروعه لإدارة الإعلام، على خلاف مشاريعه في مجالات أخرى التي تبيّنت أهدافها "الحقيقية".

"الهايكا" حاليًا تقاوم لأداء واجبها رغم حصار السلطة والملاحظ أن سعيّد لم يعلن بعد عن مشروعه لإدارة الإعلام، على خلاف مشاريعه في مجالات أخرى التي تبيّنت أهدافها "الحقيقية"

هل سيتمّ إنشاء هيئة مستقلة للإعلام بمقتضى قانون رغم عدم تنصيص الدستور عليها؟ هل سيعيد سعيّد تجربة وكالة الاتصال الخارجي بشكل مغاير؟ المشهد غير واضح، وسعيّد مبدع في فرض الغموض والضبابية. ليبقى المشهد على حاله: "الهايكا" هي وقتية بحكم تشريعها وواقع ممارستها لأعمالها، وسلطة تظهر يومًا بعد يوم سعيها الممنهج لوضع يدها على الإعلام.

ويبقى المؤشر البيّن حول تراجع حرية الصحافة زمن سعيّد هو حلول تونس في المرتبة 121 في الترتيب السنوي لحرية الصحافة لعام 2023 بعد أن كانت في المركز 94 سنة 2022 وفي المركز 73 سنة 2021 لتخسر بكل ذلك الصدارة العربية إلى المركز الخامس دفعة واحدة في ظرف سنتين فقط. هذه ببساطة نتيجة هجمة سعيّد على الصحافة، والهجمة لا زالت لم تكفّ بعد.

هل سيتمّ إنشاء هيئة مستقلة للإعلام بمقتضى قانون رغم عدم تنصيص الدستور عليها؟ هل سيعيد سعيّد تجربة وكالة الاتصال الخارجي بشكل مغاير؟ المشهد غير واضح، وسعيّد مبدع في فرض الغموض والضبابية

قيس سعيّد، بالنهاية، هو شخص يرفض التعددية بمختلف أصنافها، هذا واضح. فهو لا يستمع إلا لنفسه، وهو يضيق بكل ما هو ناقد له، إذ يعتبر ذلك خروجًا عن الوطنية وعمالة وبيعًا للذمة وليس مجرّد ممارسة لحرية التعبير عن رأي مخالف. وفي هذا السياق وبالضرورة فهو لا يحبّ الصحافة أيضًا. كل رئيس سلطوي دائمًا ما يسعى لمهاجمة وسائل الإعلام التي يراها غير متناغمة مع سياساته.

استطاع سعيّد تركيع التلفزة العمومية بيُسر، وقد باتت تلفزة التونسيين تقصي معارضي الانقلاب في برامجها الحوارية. والإعلام الخاصّ يقاوم بدوره للحفاظ على الحدّ الضامن لممارسة عمله بكل استقلالية، فيما عادت الرقابة الذاتية، رقابة القمع الداخلي، داخل عديد المؤسسات الإعلامية خشية غضب السلطة.

قيس سعيّد، بالنهاية، هو شخص يرفض التعددية بمختلف أصنافها، هذا واضح. فهو لا يستمع إلا لنفسه، وهو يضيق بكل ما هو ناقد له، إذ يعتبر ذلك خروجًا عن الوطنية وعمالة وبيعًا للذمة وليس مجرّد ممارسة لحرية التعبير عن رأي مخالف

استطاع سعيّد وضع اليد بشكل غير مباشر على مساحات إعلامية، ولكن زمن تكميم الأفواه قد فات ليس فقط بفضل مقاومة بعض المؤسسات المتمسكة بحرية الإعلام، ولكن أيضًا بفضل "الإعلام الجديد" الذي يفرض، بالقوّة، التعدّدية وتيسير تبادل الآراء، رغم محاولات الترهيب بالمرسوم 54 على وجه الخصوص.

في الختام، لن تنتصر عصا السلطة على حرية الصحافة. والصحفيون مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالدفاع عن رسالتهم. بقدر ما تبقى المقاومة قويّة، بقدر ما تفشل السلطة في مبتغاها.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"