"قد الخبزة قد المرقة الفاضل ما ثماش"، و"نشبح في غرايب ليل راسي شاب"، و"خيار بنادم زي الذيب يهرب ع العيب ولا يعطي سرّه لحبيب" وغيرها من الأغاني التي تُرَدد غالبًا في أعراس أو مهرجانات عدّة مدن بالجنوب التونسي. أغانٍ خاصة بفرق فولكلورية صحراوية في الجنوب، وتحديدًا بولاية مدنين تسمى جميعها بفرق "عبيد غبنتن".

وسط تجمع كبير من الناس في مهرجان دوز سنة 2018، قدّمت عدّة فرق شعبية من الجزائر وتونس وليبيا عروضًا فلكلورية مختلفة، جميعها فرق شعبية صحراوية بالأساس، ذات أزياء خاصة وفريدة. وقدّمت فرقة "عبيد غبنتن" خلال المهرجان عدّة عروض أيضًا، بكلمات غير واضحة في الغالب وبنغم موسيقي يعتمد أساسًا على نغمات الصوت وتغيّراته، وعلى طبلة صغيرة كانت تتوسط تلك الفرقة التي تقوم بالنقر عليها بواسطة أعواد رقيقة صُقلت من أغصان الزيتون.

لم أكن أعرف أنّها فرقة شعبية في تونس لها موروث ثقافي خاص، ولا حتى تسميتها أو دلالتها أو انتماءها. وكان الحشد آنذاك يتابع عرضها بشغف ورقصها وحركاتها البسيطة، ونغمات الطبلة التي يسمونها "الشنّة".

""عبيد غبنتن" هي فرقة موسيقية شعبية شهيرة جدًا في أقصى الجنوب وخصوصًا في ولاية مدنين، اشتهرت منذ قرون عدّة بأشعارها الهزلية أحيانًا والملتزمة أحيانًا أخرى، وحاضرة في العديد من حفلات الأعراس أو في المهرجانات الصحراوية. "هي فرقة بسيطة جدًا في الشكل وفي الأداء ولكنّها مختلفة عن بقية الفرق الصحراوية التي تقدم عروضًا فلكلورية"، هكذا تحدّث عبد الحميد لـ"ألترا تونس"، وهو أحد المهتمين بالفرق الصحراوية وأحد المشاركين في تنظيم المهرجانات الصحراوية منذ سنوات.

اقرأ/ي أيضًا: "بوسعدية".. رقصة الحرّية على أنغام الأغلال

لباسهم شبيه باللباس الصوفي

يرتدي أعضاء فرقة "عبيد عبنتن" عباءة بيضاء فضفاضة مصنوعة غالبًا من الصوف، تحتها قميص وسروال من اللون الأبيض أيضًا. زيّهم مختلف نوعًا ما عن الزي التقليدي التونسي، يضعون شاشية تونسية تعلوها عمامة بيضاء ويحملون منديلًا أحمر باليد اليسرى وعكازًا باليد اليمنى، حتى أنّ الزي يمتاز بطابع أفريقي تونسي يمزج بين اللونين الأبيض والأحمر في رمزية للعلم التونسي.

ولا توجد فرقة واحدة لـ"عبيد غبنتن" بل توجد عدّة فرق تحمل نفس التسمية، وترتدي جميعها نفس الزي وتلتزم بنفس أسلوب العروض خلال المهرجانات وبنفس الأشعار وطريقة ترديدها.

"عبيد غبنتن" هي فرقة موسيقية شعبية شهيرة جدًا في أقصى الجنوب وخصوصًا في ولاية مدنين

يقول محمد الهادي الجويلي الذي أصدر "دراسة مونوغرافية لأقلية سوداء بالجنوب التونسي" بعنوان "مجتمعات للذاكرة مجتمعات للنسيان"، إنّ "تسمية "عبيد غبنتن" تشير بدرجة أولى إلى مجموعة من الأفراد ذات لون أسود من أصل إفريقي قدمت إلى المغرب الكبير عمومًا وإلى تونس خصوصًا مع القوافل التجارية الآتية من جنوب الصحراء ليتم بيعها في الأسواق للغرض ذاته. أما الدلالة الثانية لهذه التسمية فهي عملية الالتحاق أو التجمع الذي خضعت له هذه المجموعة بحيث أضحت تابعة لـ"قبيلة غبنتن" فحملت اسمها وتحركت في مجالها الحيوي.

ويعيش "عبيد غبنتن" في منطقة تسمى "القصبة" وهي إداريًا تتبع معتمدية سيدي مخلوف بولاية مدنين، في منطقة منعزلة نوعًا ما بعيدًا عن أي تجمعات سكانية. ويشير محمد الهادي الجويلي إلى أنّ "حدود منطقتهم مرسومة بحواجز طبيعية واضحة، ولهذه المسألة دلالاتها الواسعة. إذ لا يمكن لهذه المجموعة التنقل بحرية، إذ تمنعها هذه الحواجز الطبيعية من تجاوز الحدود وضم أراضٍ أخرى".

وتضم "قبيلة غبنتن" خمس طوائف وتتوزع حسب الانتماء العشائري، فكل عرش له مجموعة من الطوائف. ويعيشون أساسًا من الزراعة عبر امتلاك أراضٍ خاصة أو اشتراكيات يستغلونها في الفلاحة. كما يعيشون من الصيد الموسمي، أساسًا من صيد المحار عبر الحدود البحرية للقصبة وهي الحدود الشمالية.

يقول محمد التومي، أحد أعضاء فرقة "عبيد غبنتن"، لـ"ألترا تونس" إنّهم يعيشون في مناطق محددة بولاية مدنين، في شكل قبيلة لا يتزوجون من خارجها، ومنغلقون نوعًا ما في علاقاتهم عن البقية. وتعتمد حياتهم على بعض الحرف البسيطة، ولكن يعيشون أساسًا من الفلاحة والصيد. ويمثل الغناء والشعر بالنسبة لهم طريقة للتعبير عن الانتماء والتواصل مع بقية المجتمعات لا سيما الصحراوية، وفق قوله.

محمد التومي (أحد أعضاء فرقة عبيد غبنتن) لـ"ألترا تونس": الغناء والشعر بالنسبة لنا هو طريقة للتعبير عن الانتماء والتواصل مع بقية المجتمعات

يقول محمد الهادي الجويلي في كتابه إنّ "الزواج لدى عبيد غبنتن داخلي بدرجة أساسية. كما تعرف هذه الأقلية ظاهرة اجتماعية لم نتعود عليها في مجتمعنا وهي ظاهرة الهروب بالنساء. وتعني هذه الظاهرة أن يقوم فرد من أفراد القبيلة بالهروب مع فتاة من نفس القبيلة إلى مكان بعيد باتفاق مسبق. يحملها معه إلى أهله ثم يعلن رغبته في الزواج بها. وما إن يبلغ الأمر أهل الفتاة حتى يسرعوا بالذهاب إلى حيث توجد ابنتهم ويقع التفاوض حول هذه الزيجة".

أشعارهم ترتبط بالقضايا السياسية والاجتماعية

حين يُقام في بن قردان أو مدنين عرس بالعبيد، فالمقصود "عبيد غبنتن" لأن ميزة هؤلاء أنّهم يقيمون حفلات الزفاف ويحيونها بطريقة مغايرة تمامًا للطريقة التي تحيي بها الفرق الأخرى ذات أصحاب البشرة السوداء بعض العروض. يلقون أشعارًا مختلفة يؤلفها غالبًا رئيس الطائفة، يعتمدون خلال عروضهم على آلة موسيقية واحدة وهي الطبلة التي سمونها "الشنّة"، تصنع أساسًا من جلد الجمل.

اقرأ/ي أيضًا: "البنقة".. تخمّر الألم ورقصة الانعتاق

"لم يغيروا طريقة احتفالاتهم منذ أن بدأوا ممارسة هذا العمل. فلا أدوات الاحتفال تغيرت ولا تقنياته تغيرت ولا مضمون الأشعار وتوجهاته شهدت تحوّلًا". وتختلف الممارسة الاحتفالية لدى "عبيد غبنتن" اختلافًا جذريًا عن احتفال السطمبالي لأنّ البعد الديني السحري غائب تمامًا ولا نلاحظ حضور شرب الدماء والتخمر إنما يحيون مناسبات الزواج فقط، وفق الباحث محمد الهادي الجويلي.

تغني "عبيد غبنتن" أساسًا أشعارًا متمردة على النظام ناقدة لعدّة قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية

ويعرف أهالي مدنين أنّ هذه الفرق تغني أساسًا أشعارًا متمردة على النظام ناقدة لعدّة قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية، ربما أشهرها في المنطقة أغنية "قد الخبزة قد عداها" كما تغنيها بعض فرق عبيد غبنتن أو "قد الخبزة قد المرقة الفاضل ما فماش" كما ترددها فرق أخرى.

وقد كتب الباحث في موسيقى الزنوج هيكل الحزقي أنّنا "نجد في أغانيهم احتجاجًا وتمردًا على الوضع المتردي والفقر الذي لا لون له. خرقت هذه الموسيقى الانعزال الروحي الذي يعيشه -الزنجي- داخل الأقفاص المجتمعية المشيدة بالناموس الأخلاقي والتحيز العرقي. ففي أغاني طائفة غبنتن نجد ملامح فن ملتزم بقضايا المجتمع ككل، إذ كانت الكثير من أشعارهم صرخة ضد السلطة وتدهور العيش، كهذه الأغنية التي تشير إلى مضامين العدالة الاجتماعية لكي تؤكد على أن الصراع طبقي وليس لوني".

يختلف شعر "عبيد غبنتن" من شعر مدحي إلى آخر هجائي ومن شعر يهتم بقضية وطنية إلى آخر يتناول قضايا عربية أو عالمية

ويقول محمد الهادي الجويلي في كتابه إنّ "أشعار "عبيد غبنتن" لم تحظ بالعناية المطلوبة ولم يقع تدوين إلا أشعار "الفيتوري تليش" بعد أن جمع محمد المرزوقي بعض أشعاره ونشرها في ديوان. و"يأتي نفور الدارسين وابتعادهم عن تناول شعر "عبيد غبنتن" من كونه شعرًا رمزيًا في أغلبه ترد فيه كلمات ومعانٍ صعبة الفهم.  إذ تتوزع أشعار عبيد غبنتن بين الشعر السياسي والشعر الذي يتناول اليومي والمعيش إلى ما يرتبط بالقضايا الذي تهم المجتمع المحلي كقضايا الهجرة والطلاق. إلّا أنّ الشعر المميز عندهم هو الشعر السياسي الذي يقتحم كل الأحداث فهو عبارة عن نشرة إخبارية تحليلية في شكل غنائي. ويختلف الشعر من شعر مدحي إلى آخر هجائي ومن شعر يهتم بقضية وطنية إلى آخر يتناول قضايا عربية أو عالمية".

ولا تمثل الأشعار لديهم مصدرًا للرزق المادي فحسب بل هي العنصر الذي يمكنهم من التواصل والخروج من دائرة النسيان والتهميش، فالممارسة الاحتفالية وما يكتنفها من غناء وقصائد هي التي تجعل المجتمع المحلي ينتبه لوجود هذه الأقلية. والعمل الموسمي الذي يقومون به، أي صيد المحار، لا يسمح لهم بنسج علاقات تبادلية مع أفراد المجتمع المحلي. ولذا عُرفت أكثر هذه الأقلية عبر مشاركتها في عدّة مهرجانات صحراوية تقام سنويًّا سواء في مهرجان القصور بتطاوين أو مهرجان دوز أو خلال المشاركة في بعض الأعراس والاحتفالات.

اقرأ/ي أيضًا:

النخلة في الجنوب التونسي.. منبع حياة بيعها عار وغراستها خير وبركة

سوق دوز.. زمن بالأبيض والأسود