19-مايو-2020

شخصية محورية في عرض السطمبالي (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

لا تكاد تميّز تفاصيل الملامح المخفية للراقص وراء قناع غريب أسود مزوّق بالأصداف الذي يغطي كامل رأسه ووجهه، ولا يمكنك أن تفقه تمثلات ملامحه خلال رقصه، وما إذا كان يرقص فرحًا أو غضبًا أو حزنًا، فلا تعابير قد تجعلك تفك لغز هذه الشخصية. وحدها الرقصة تشعر المشاهد أنّها لراقص حالم أو مجنون أو لشخص ينتشي فرحًا. 

يرقص على صوت نغمات "الشقاشق" التي يحركها بيديه لتتناسق أنغامها وحركة قدميه على الأرض، يتمايل رأسه يمينًا ويسارًا في حركات تشعر لوهلة أنّها غريبة أو غير منتظمة أو غير متناغمة حتى مع إيقاع الموسيقى المعزوفة.

يرتدي "بوسعدية" بعض جلود الحيوانات (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

رقصته ليست كباقي الرقصات التي تعوّدناها في الحفلات والعروض الموسيقية التقليدية في تونس، ومع ذلك تجدها حاضرة في العديد من التظاهرات الثقافية والحفلات الصوفية. هي رقصة "بوسعدية"، تلك الشخصية الغريبة التي لا يفقه العديد منا سرّها أو سرّ وجودها في عدّه تظاهرات ثقافية أو مهرجانات في عدّة مناطق في تونس.

يتقمص رجل أسود البشرة شخصية "بوسعدية" في رقصة السطمبالي وهو يرتدي غالبًا قناعًا من الأصداف البحرية وفوقه رأس طير كبير وحزام حول الوسط مكوّن من عظام الكلاب والثعالب

مهما اختلف زي "بوسعدية" من راقص إلى آخر إلاّ أنه يتشابه في الإيحاء إلى الفقر أو إلى بداوة الإنسان الذي يتدثر بجلود الحيوان ويتجول في الأرض دون عنوان أو وطن. يرتدي قميصًا غريب الشكل مزوّق بزينة غير مرتبة وغير متناسقة الألوان أو بخرق من القماش. كما يرتدي بعض الجلود الحيوانات التي تمّ قصها بشكل غير مرتب، تتدلى من خصريه في شكل خيوط طويلة.

ويتمايل في دراما راقصة تحكي قصصًا وحكايات ومعان مختلفة قيل أنّها رقصة سخرية من الخضوع، وقيل عنها أيضًا رقصة ضياع وخوف، وكذا رقصة أمل. فرقصة "بوسعدية" ليست ضجيجًا لكسب المال أو لمجرد الترفيه عن الناس، بل رسالة تمرّد على العبودية.

اقرأ/ي أيضًا: السطمبالي بين الأهازيج والموسيقى.. أين يكمن العلاج؟

لم أكن حقيقة أعي ماهية شخصية "بوسعدية" التي رأيتها لأوّل مرة سنة 2010 عند حضور أحد المهرجانات في الجنوب التونسي. شاهدت راقصًا كما وصفت، بل حتى أنّه قد علّق على جسده بعض الأجراس وقطع المعادن مختلفة الشكل والحجم لتحدث أصواتًا تشبه صوت السلاسل وهي تجرّ على الأرض ورنين الأصفاد وطقطقتها. لم أفقه حقيقة تلك الشخصية أو سرها، وذهب بي الظنّ أنّه مجرد عرض فولكلوري أو مجرّد زي اختاره الراقص ليضفي غرابة على رقصته أو يشد الانتباه. لكن شاهدت نفس الرقصة بنفس الزي في العديد من التظاهرات الثقافية والعروض الصوفية وحتى بعض الحفلات، مع تغير طفيف في الشكل. هو نفس القناع تقريبًا ونفس جلود الحيوان ونفس الشقاشق التي تعزف أنغامًا تشبه رنين الأصفاد والأغلال.

شخصية "بوسعدية" مرتبطة بـ "السطمبالي"

الرقص حقيقة هو تعبير عن الثقافة التقليدية أو الحديثة، يتمظهر في شكل عام من حاجة الفرد إلى التواصل. وقد حضرت شخصية الراقص "بوسعدية" في التظاهرات الصوفية التي تقام في مقامات الأولياء الصالحية على غرار سيدي محرز بباب سويقة وصولًا إلى مقام الولي الصالح سيدي بن عروس بالمدينة العتيقة وسيدي بوسعيد. وارتبطت هذه الشخصية بالأساس بموسيقى "السطمبالي" التي كُتب عن رمزيتها وتاريخها كثيرًا بعد الثورة.

ارتبطت موسيقى الاسطمبالي في تونس بسود البشرة (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

يقدّر الباحث في الموسيقى كاظم بن محمد أنّ موسيقى السطمبالي جاءت إلى تونس رفقة "العبيد" من أفارقة جنوب الصحراء القادمين إلى سوق النخاسة، كما جاءت من القوافل التجاريّة، وازدهرت في تونس خاصة بعد إلغاء الرق عام 1846 ميلادي.

ويؤكد أنه خلافًا لما يُقال، فالسطمبالي لم يسمّ نسبة إلى الباشا آغا السطمبولي الذي ينحدر من مدينة إسطنبول التركية بل تعود إلى جماعة سعد الشوشان أو بوسعدية والذي يعتبر أحد الأولياء الصالحين.

اقرأ/ي أيضًا: احتفالات "الشعبانية".. قصة ورع وتقوى وتحرر من العبودية

وارتبطت موسيقى الاسطمبالي في تونس بسود البشرة. وترى بعض المصادر التاريخية أنها تعود إلى بعض التجار الأفارقة الذين استقروا في شمال أفريقيا.

وتعتمد هذه الموسيقى على آلات أساسية هي القمبري والطبلة والشقاشق، وهي عبارة عن صفائح من نحاس تصدر صوتًا شبيهًا بصوت أصفاد الحديد وتذكرنا برنين السلاسل والأغلال في العهود السابقة حين كُبّل بها أصحاب البشرة السوداء بعد أسرهم كعبيد واقتيادهم إلى برّ تونس. وتُستعمل هذه الموسيقى في بعض المناسبات رغم طابعها الروحي والصوفي الشعبي، وفق محدثنا.

كما أشار هيكل الحزقي المختص في الموسيقى بدوره، لـ"ألترا تونس"، إلى أنّ أغلب أناشيد السطمبالي تُقدم بلهجة غريبة عن العربية تسمى بالعجمي، وهي لا تعني الانتساب إلى العجم، بل تشير إلى قوى حاضرة في المكون الروحي لعالم السطمبالي، وفق تأكيده.

من هو "بوسعدية"؟

أغلب ما يشد في عروض موسيقى السطمبالي، ذلك الرجل صاحب المظهر الغريب الذي يتوسط الفرقة الموسيقية، الكلّ يركز في حركاته وحركات أقدامه وزيّه المطرّز. شخصية يقول عنها الحزقي إنّها شخصية تراثية تشير إلى أحد ملوك إفريقيا الذي اختُطفت ابنته سعدية وقيدت إلى سوق العبيد. فهام في المدن البعيدة مرتديًا ذلك القناع حتى لا يكشف عن هويته، بحثًا عن ابنته ومرددًا لأغانيها علّها تتعرف إليه عبرها.

ومازالت هذه الشخصية حاضرة في الألعاب الشعبية بتونس وليبيا، حيث يركض الأطفال وراء الرجل الحامل للقناع متسائلين "وين حوش بوسعدية" (أين هو بيت بوسعدية) فيجيبهم "مازال القدام شوية" (لا يزال إلى الأمام).

 أجمع عدة باحثين أنّ "بوسعدية" ليس إلا شخصية تشير إلى أحد الملوك من إفريقيا جنوب الصحراء

ولعلنا نجد في صورة "سعدية"، سليلة الملوك التي اختطفت وصارت عبدة في أسواق الرق، ترميزًا لرحلة البحث عن الهوية وسط ذوبان الذات داخل العدد الجمعي الحامل للاختلافات العرقية واللونية.

ويضيف الباحث في الموسيقى أنّه في الاسطمبالي يتقمص رجل أسود شخصية "بوسعدية" ليكون محور الاحتفال الراقص الذي يستعيد رقصات الزنوج الأفارقة. وهو يرتدي غالبًا قناعًا من الأصداف البحرية وفوقه رأس طير كبير وحزام حول الوسط مكون من عظام الكلاب والثعالب وأصداف أخرى عند الكاحلين أو المعصمين. ولربما توحي أصداف البحر إلى الوجه الآخر لمعاناة الرجل الأسود الذي خُطف من موطنه ليعبر البحار نحو العالم الجديد، أما عظام الثعالب والكلاب، فلعلها تُشير إلى عوالم الصحراء القاحلة، الحاضنة التاريخية للزنوج الأفارقة.

تعود أصول شخصية "بوسعدية" إلى إفريقيا جنوب الصحراء (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

وقد أجمع العديد أنّ "بوسعدية" ليس إلا شخصية تشير إلى أحد الملوك من إفريقيا جنوب الصحراء، ولها علاقة كبيرة بموسيقى الاسطمبالي التي جاءت إلى تونس رفقة العبيد الأفارقة من جنوب الصحراء. والمتابع لعروض تلك الرقصة يكتشف أنّ أغلب من يتقمص شخصية "بوسعدية" هم من ذوي بشرة سوداء، وكأنّه تأكيد أنّها شخصية تعني فقط الزنوج دون البيض.

ويشير زين العابدين بلحارث رئيس جمعية تراثنا لـ"ألترا تونس" إلاّ أنّ أغلب المهتمين بالتراث والعروض الموسيقية أشاروا إلى أنّ شخصية "بوسعدية" أصولها من إفريقيا جنوب الصحراء، فرقصته وزيه وحركاته وكل شيء فيه أقرب إلى تلك المنطقة. وتوجد شخصيات مشابهة لها في بلدان عربية على غرار المغرب والجزائر رواياتها عن هذه الشخصية لا تختلف كثيرًا عن تونس، وفق قوله.

رقصة مميّزة

برهان (اسم مستعار) راقص في إحدى الفرق الصوفية يجسد شخصية "بوسعدية" ورقصتها في العديد من التظاهرات الثقافية، يقول لـ"الترا تونس" إنّه ليس خريج معهد موسيقى ولم يتعلّم الرقص سابقًا لكنّه انظم إلى إحدى الفرق الصوفية ليرقص رقصة "بوسعدية"، الشخصية التي أحب قصّتها وعشق هذه الرقصة المختلفة عن أي رقصة أخرى في تونس".

وعن سر أنّ أغلب راقصي هذه الرقصة أو مجسدي شخصية "بوسعدية" هم من ذوي البشرة السوداء، يقول محدثنا إنه لا يدري سبب ذلك ولكن ربّما لأنّ الشخصية أصلها من إفريقيا جنوب الصحراء لا يمكن أن تجسد أو تنجح كفلكلور إلا إذا جسّدها شخص من ذوي البشرة السوداء حتى تنقل القصة كاملة كما هي، أو حتى يقع المحافظة على صورة ذلك العبد الإفريقي الذي أتى إلى تونس بحثًا عن ابنته، أو ربّما لأنّها عرفت كونها رقصة ضدّ العبودية والظلم ولا يمكن أن يجسدها صاحب بشرة بيضاء طالما أنّ العبودية ارتبطت بالأساس بأصحاب البشرة السوداء دون غيرهم. ويشير محدثنا إلى أنّ أغلب مجسدي "بوسعدية" يخفون هويتهم وملامحهم خلف قناع وذلك كما فعل "بوسعدية" نفسه.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

"البنقة".. تخمّر الألم ورقصة الانعتاق

المرقّعة والسر والورد.. عن الطريقة الكركرية بتونس