19-مايو-2020

فشلت الديمقراطية التونسية في ابتكار تلفزيون جديد يساهم في ترقية المجتمع (جيتي)

مقال رأي

 

لا ريب في أن مكانة التلفزيون الاجتماعية والثقافية باعتباره مؤسّسة تتجلّى في شهر رمضان الذي يتوّسط فيه الحياة الاجتماعية رغم تنامي الميديا الرقمية ومنصاتها الاجتماعية وانخراط الناس فيها.

وفي شهر رمضان، تتكثّف إشكاليات التلفزيون وتتجلى رهاناته وتظهر مساوئه. وتُمحى الحدود بين التلفزيون الخاص والتلفزيون العمومي ويتخلّى التلفزيون العمومي بكل جرأة عن جوهره ويستقيل من مهامه ليتشبّه بالتلفزيون الخاص يجاريه في كل شيء يماريه ويعاند، يلهث مثله وراء الجمهور بكل الوسائل ويتحول إلى تلفزيون ترفيهي محض. وعلى هذا النحو، يفقد المشهد التلفزيوني تنوعه المحدود أصلًا وتندمج القنوات كلها العمومية والخاصة في قناة واحدة ترفيهية بترددات مختلفة.

لعل من مساوئ التلفزيون الرمضاني أنه تلفزيون ترفيهي محض لا مكان فيه لأي مضمون آخر ثقافي أو سياسي

لعل من مساوئ التلفزيون الرمضاني أنه تلفزيون ترفيهي محض لا مكان فيه لأي مضمون آخر ثقافي أو سياسي. فغاية التلفزيون الرمضاني الأولى هي التسلية والترويح على النفس والاسترخاء. وهو يتعامل مع المشاهدين باعتبارهم كائنات تحتاج دائمًا إلى الاسترخاء وإلى الهروب من الواقع والانغماس في المشهد الترفيهي حتى ولو كان بليدًا ورديئًا.

يمكن أن تبحث طويلًا ولن تجد برنامجًا واحدًا يمكن أن يرهق دماغ المشاهد أو أن ينغص عليه استرخائه المتواصل على غرار برامج التحقيقات أو الحوارات أو البرامج الثقافية أو البرامج الجهوية والبيئية التي يمكن أن تدعو المشاهد إلى التأمل والتفكير والتحليل والحصول على معارف جديدة واستكشاف عوالم أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: المسلسلات التونسية.. رداءة رمضانية

ومن مساوئ التلفزيون الرمضاني أنه سالب لمواطنية المشاهدين لأنه يدعوهم شهرًا كاملًا إلى تعطيل تفكيرهم في شؤون المدينة لصالح التفكير في شؤون بطونهم فيبعدهم عن المجال السياسي بل عن المجال العمومي كذلك. والتلفزيون الرمضاني بهذا المعنى تلفزيون المشاهد الذي ارتد إلى حياته الخاصة المحضة. وحتى في النقاش في المسلسلات الدرامية ليست فرصة لطرح القضايا التي تثيرها بقدر ما هو ظهور استعراضي للممثلين يُستضافون في البرامج الإذاعية والتلفزيونية للحديث للخوض في شؤونهم باعتبارهم نجومًا.

يتحول التلفزيون في شهر رمضان إلى خدمة تجارية أيضًا لا فقط بسب كثرة الإشهار بل لأن التلفزيون العمومي والخاص ينخرطان معًا في السباق من أجل الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الإشهار حتى ولو كان ذلك بواسطة برامج رديئة وسطحية صممت على عجل غايتها انتزاع الضحك بأي ثمن. ولهذا نلاحظ تكاثر برامج الطبخ التي يحبذها المستشهرون لوضع إشهارهم واستقطاب أكبر قدر ممكن من المستهلكين لها، بل إن الإشهار للمواد الغذائية يصبح مضمونًا أساسيًا من مضامين التلفزيون الذي يتحول إلى متجر ضخم أو حتى "مول".

من مساوئ التلفزيون الرمضاني أنه سالب لمواطنية المشاهدين لأنه يدعوهم شهرًا كاملًا إلى تعطيل تفكيرهم في شؤون المدينة لصالح التفكير في شؤون بطونهم 

ولهذه الأسباب كلها، يتحدى التلفزيون العمومي والخاص التعديل ومقتضياته ويتحرر من كل سياسية تريده أن   تضبطه فيصبح تلفزيونًا خادمًا لنفسه فقط أو لقوى السوق التي يعيش بفضلها.  وعلى هذا النحو، فإذا أردنا أن نستخلص الصورة التي يتمثلها التلفزيون عن جمهوره، فلا بد أن نرى المشاهد كائنًا رخوًا، طفلًا يحبذ اللهو يأكل ثم يسترخي لا قدرة له على التفكير أو التفكر، وكائن استهلاكي تحرر من واجب الاهتمام بالحياة العامة وارتد إلى حالة ما قبل سياسية.  

إن التلفزيون الرمضاني في شكله الحالي هو امتداد لتاريخ طويل أو هو بناء تاريخي تأسّس في منتصف نهاية الثمانينات مع ظهور الإشهار لتصبح التسلية بعدًا أساسيًا من أبعاده ولم تمنع التحولات السياسية وإرساء منظومة التعديل من أن تتعزز مكانة تلفزيون التسلية وأن يفقد المجتمع سلطته على التلفزيون ويتحول إلى مؤسسة منفلتة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟

إن التلفزيون مؤسّسة أساسية في المجتمعات المعاصرة الديمقراطية على وجه الخصوص رغم تنامي الميديا الرقمية والاجتماعية، وهي فضاء أساسي من فضاءات الديمقراطية. ينظم التلفزيون المجال العمومي أي ذلك الفضاء الذي يحتضن أنشطة الاتصال المختلفة الأساسية للحياة العامة ومنها على وجه الخصوص أنشطة الاتصال السياسي. وفي هذا المجال أيضًا، يلج المواطنون إلى المعلومات والأفكار والمواقف المتنوعة التي تسمح لهم بتكوين آرائهم.

ولهذه الأسباب، فإن تنظيم التلفزيون (أو تعديله) في المجتمع الديمقراطي يمثل رهانًا أساسيًا. وتنظيم التلفزيون ليس سوى تعريفًا لما يمكن أن ينتظره المجتمع من هذه المؤسّسة من أدوار سياسية وثقافية: تنظيم النقاش العام، وتزويد المواطنين بالأخبار، وتيسير النفاذ إلى الثقافة والفنون المختلفة، وإحياء الذاكرة الوطنية وإتاحة برامج الترفيه بمختلف أشكالها.

وعندما يفشل التنظيم أو التعديل في أن يكون التلفزيون قادرًا على تحقيق كل هذه الوظائف يترك لنفسه أو بالأحرى للمتلاعبين به وللقوى التي تريد أن تختزله في وظائف محدودة بعينها لتحوله إلى تلفزيون ترفيهي واستهلاكي واسترخائي أو موسمي. وعندئذ يصبح التلفزيون العمومي والخاص في شكله الحالي تلفزيونًا معاديًا للمجتمع وللثقافة وللحياة الديمقراطية وأسير قوى السوق والإشهار وكل المتلاعبين به في الخفاء.

فشلت الديمقراطية التونسية طوال العشر سنوات الماضية في ابتكار تلفزيون جديد يعبر عن المجتمع 

لقد فشلت الديمقراطية التونسية طوال العشر سنوات الماضية في ابتكار تلفزيون جديد يعبر عن المجتمع وتنوعه السياسي والثقافي والاجتماعي والفكري، تلفزيون يساهم في ترقية المجتمع وتحسينه ومرآة له في الوقت ذاته. ورغم الاهتمام المتفاوتة ببعض الأفلام الدرامية أو لإحصاءات التي تنشرها مكاتب قيس الجمهور فإن التلفزيون التونسي (العمومي والخاص) منقطع عن المجتمع ولا يعبر عنه.

ولا شك أن ردود الفعل المختلفة التي صاحبت إعلان المساعدات الحكومية للقنوات الخاصة مؤشر جيد على علاقة التونسي بالتلفزيون، وهي ودافع لفتح نقاش حقيقي حول كيف يجب أن يكون التلفزيون العمومي والخاص في مجتمع يطمح لتأسيس الديمقراطية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما العمل ليكون لنا التلفزيون الذي نستحق؟

في التلفزيون.. التونسيون شعب بلا تاريخ!