01-نوفمبر-2019

الفيلم يشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية في أيام قرطاج السينمائية

 

"قدمي في الحكومات.. في البدء والنصف والخاتمة" كلمات للشاعر مظفّر نواب تستحضرها وأنت تشاهد وثائقي "فتح الله تي في" للمخرجة وداد الزغلامي، وثائقي تتلبّس فيه المشاعر وتعانق فيه العبرات الابتسامات وتحضن صرخات الثورة آهات الضيم ويضمّد الوجع جراح الأمل وتهمس القلوب النابضة حياة "لابد لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر".

"فتح الله تي في" ليس وثائقًيا فحسب بل ذاكرة جيل وتجربة عمرها عقد من الزمن، تجربة أبعد من الثورة نفسها، وأعظم من إصرار أبناء جبل الجلود (حيّ في العاصمة تونس) على خلق معنى جديد للحياة بعيدًا عن كذبة العدالة الاجتماعية.

جبل الجلود المقاومة بالموسيقى والكلمات والألوان ودعاء الأمهات حاضرة في الدورة الثلاثين لأيام قرطاج السينمائية في فيلم "فتح الله تي في" المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية

اقرأ/ي أيضًا: افتتاح أيام قرطاج السينمائية: بعيدًا عن السجاد الأحمر.. بوزيد يطرح جهاد النكاح

وأنت تتأرجح بين واقع حقيقي تحكيه الجدران والطرقات وواقع متخيل ترويه الألحان والكلمات تتمنّى لو كان للحكومات المتعاقبة أعين تمدّ يدك نحوها فتفقأها وتملأ الفراغات بموسيقى الرفض، ففي كل الأحوال لن تنال هذه المنطقة وغيرها نظرة ودّ منها.

تتواتر الصور والكلمات وتختلط كل المفاهيم وتتكاثر الأسئلة كلّما حاولت الإجابة عن أحدها، تأبى الأسئلة أن تموت وتأبى الأجوبة أن تولد ويعج رأسك بكلمات لن تجيد ترتيبها وسط فوضى الحواس والأحاسيس، وتتمنّى لو كان للحكومات أياد تكسرها إذ هي لم تربّت على كتف شاب يشعر أنه يحيا في أقصى الهامش.

الأمر لا ينحصر في البعد المادي بل أيضًا في المعنوي، فلا شيء يظاهي ذلك الشعور بالانتماء إلى وطن لن تشكّ للحظة أنه سيلفظك، وطن يأويك ويحتويك ويحفظ كرامتك، وطن أنت حريّته، لا وطنًا تعيش بين ثناياه لتلاحقك وصوم مختلفة قد لا تعرف معناها ومأتاها ولكن ذنبك أنّك ابن جبل الجلود.

الومضة التقديمية لفيلم "فتح الله تي في"

 

مسلّمات وأفكار مسبقة واحكام انفعالية يقذفها الآخر على ذلك القادم من عمق أزقّة جبل الجلود، دون أن يلقي بالًا إلى أثر ذلك في نفسه بل إن الدولة التي من المفترض أن تحميه تنظر إليه من نفس الزاوية، حتّى تؤمن أن المواطنين درجات، ولكن ليت  موزعي صكوك المواطنة يعلمون أن من منحوهم الدرجة الثانية يحبون تونس رغم الخراب المحيط بهم.

جبل الجلود المقاومة بالموسيقى والكلمات والألوان ودعاء الأمهات آناء الليل وأطراف النهار، حاضرة في الدورة الثلاثين لأيام قرطاج السينمائية، في فيلم "فتح الله تي في" المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية وسواء توّج الفيلم أم لم يتوّج فقد نجحت المخرجة وداد الزغلامي أن تستنطق جمالية جبل جلود.

في الفيلم جبل الجلود جميلة بل فاتنة، رغم كل ما يقال على صحّته أو خطئه، كابتسامة أبنائها وروح الدعابة في شخصياتهم رغم كل القسوة التي يصادفونها

في الفيلم جبل الجلود جميلة بل فاتنة، رغم كل ما يقال على صحّته أو خطئه، كابتسامة أبنائها وروح الدعابة في شخصياتهم رغم كل القسوة التي يصادفونها، هكذا صوّرتها المخرجة التي صارت جزء من القصة، مشهدية استيتيقة بحتة بعيدًا عن استدرار مشاعر الشفقة والعطف.

في الحقيقة، الواقفون خارج إطار "فتح الله" وغيره من أحياء جبل الجلود هم الأولى بالشفقة من أبنائها ، فهم على الأقل نجحوا في أن يتجاوزوا عتبة التهميش وحلقوا بأجنحة الفن بعيدًا عن أسوار السجن الكبير الذي يعيش فيه الكثيرون دون أن يدروا.

المعلّقة الرسمية لفيلم "فتح الله تي في"

 

اقرأ/ي أيضًا: "سوبيتاكس".. فيلم هامش الإدمان والبذاءة في مواجهة مركز أشدّ بذاءة

عبر تجربة ثلاثة موسيقيين احتضنتهم أركان فتح الله هم "حليم اليوسفي" و"تيقا بلكنا" و"بازامان"، يصّور الفيلم عمرًا من الوجود والمقاومة يمتد من سنة 2007 إلى سنة 2017، عشر سنوات تغيّرت فيها القشور وظل اللب على حاله.

وأنت تسافر بين تفاصيل الفيلم لن تستطيع التمييز بين الحزن والفرح، وقد تضحك لما يبكي وتبكي لما يضحك، وقد يتعطّل عقلك أمم الكم الهائل من المفارقات، كلمات ترشح أملا ونظرات يسكنها الوجع، مشاعر حب لهذا الوطن يقابلها حنق على سياساته.

وطريق الفنانين الثلاث الذي داسوا فيه على الأشواك ورسموا بأثار وخزاتها في أقدامهم كلمات تنبأت بالثورة قبل حدوثها، كلمات تترجم فلسفة جيل كامل، جيل قسّمته السياسة، وجعلت شقّا منه ينقم على شق آخر وكلاهما لا ذنب له فاللعبة أعمق من الهوّة بينهما.

عبر تجربة ثلاثة موسيقيين احتضنتهم أركان فتح الله هم "حليم اليوسفي" و"تيقا بلكنا" و"بازامان"، يصّور الفيلم عمرًا من الوجود والمقاومة يمتد من سنة 2007 إلى سنة 2017

والموسيقى التي خلقت تحت سماء جبل الجلود تشدّك إليها شدًا وإن لم تكن من عشّاقها لأنّ كلماتها نابعة من هواجس سكّانها وهموهم، هي بعض من همساتهم وصرخاتهم وضحكاتهم وبكائهم، ربّما هو السبب الذي أغرة المخرجة وداد الزغلامي بإخراج وثائقي عن موسيقيين من جبل الجلود حينما وضعت الصدفة موسيقى حليم اليوسفي في ظريقها سنة سبع وألفين.

وفكرة تصوير وثائقي في جبل الجلود في ذروة تغوّل نظام بن علي لم تكن تخلو من المجازفة، حتّى أنّ حليم اليوسفي أحبط من عزيمتها وشكّك في قدرتها على مجاراة الوضع في المنطقة "الساخنة" ولكن وداد الزغلامي أثبتت عكس ذلك، وكان الفيلم تجربة مشتركة بين الموسيقيين الثلاثة والمخرجة وأبناء المنطقة الذين خلقوا لأنفسهم فضاءً يتنفسون فيه على طريقتهم.

ربّما هو سحر حبل الجلود أو سحر الحكايات الراسخة بين جدران بناياتها وفي أعين النساء والرجال والشيب والشباب والصغار، وربّما هو الأمل في تغيير جذري، أو هي أنفاس الثورة التي مازالت تبحث عن شرارة توقدها لعلّ الفوارق تتذلل، وربّما كل هذه الأشياء مجتمعة هي التي جعلت من مخرجة الفيلم شخصية فيه، هي الخيط الناظم الرابط بين كل التفاصيل.

كان الفيلم تجربة مشتركة بين الموسيقيين الثلاثة والمخرجة وأبناء المنطقة الذين خلقوا لأنفسهم فضاء يتنفسون فيه على طريقتهم

وليس من السهل على المخرجة أن تكون خلف الكاميرا وأمامها في ذات الآن، ولكنّها نجحت في ذلك وربّما يعود السبب إلى النقاط المشتركة بين الشخصيات، فكلهم يرفضون الواقع ولكنهم لا ييأسون من التغيير حتّى وإن كان المشهد يتقدّم إلى الوراء، وفق تعبير حليم اليوسفي.

نفس التوجّه نفس الأحاسيس ونفس النظرة إلى المستقبل، نقاط التقاء جعلت الفيلم مارقًا عن الكليشيهيات والصور المستهلكة وباحثًا عن جمالية جبل الجلود بين أكوام الألم الذي تجلّى في بعض الشهادات التي لم يقنط أصحابها رغم السوداوية التي يبدو أنّها تظهر للآخر أشدّ فتكًا.

وفي فتح الله تي في الفن أخ الحياة، ومن الموسيقى إلى الرسم فالسينما تتشكّل آليات المقاومة والصمود في وجه التهميش والتفقير والتمييز وتتعرّى الحقائق تباعًا، وعلى إيقاع الألحان والألوان والصور يكبر حب التغيير في قلوب الشباب حتى تضيق به.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"قيرّة" للفاضل الجزيري: إسقاط غير محكم لـ"ثورة صاحب الحمار" على الواقع

يوسف بن يوسف.. ساحر الأضواء و"الكادرات" الخلاّبة