تشهد مكاتب البريد آخر كلّ شهر وطيلة أسبوع كامل إلى بداية الشهر الموالي طوابير من كبار السنّ في انتظار صرف جرايات المتقاعدين من منظوري الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية. مشكل ليس بالجديد يثير الرأي العام في عديد من المناسبات، لكنّه أثار الانتقاد أكثر خاصة بعد انتشار فيروس كورونا الذي أظهر مشكل التخلف الرقمي الذي تعيشه العديد من المؤسسات العمومية على غرار البريد التونسي، على الرغم من تأكيد ضرورة التباعد الاجتماعي بين الأفراد لتفادي انتشار العدوى.
إجراءات لا يُمكن تطبيقها والحال أنّ آلاف المتقاعدين يتوافدون على شبابيك البريد التونسي لاستلام جراياتهم وسط فوضى كبيرة لا يفكر فيها المواطن في التباعد، أو في خطر انتشار الفيروس، ربّما لأنّ الجوع قاتل أكثر من أي فيروس وجراية التقاعد تمثل الحياة بالنسبة للآلاف.
تشهد العديد من مكاتب البريد اكتظاظًا كبيرًا خلال فترات صرف جرايات التقاعد، مما يتسبب في تعطيل شؤون المواطنين ويشكل خطرًا على صحتهم في ظلّ جائحة كورونا
كان يجلس منذ الساعة الثامنة صباحًا أمام البريد في انتظار أن تُفتح أبوابه لاستلام جراية التقاعد، لكن لم يشفع له خروجه الباكر في أن يكون أول الداخلين للمكتب، فالمئات مثله توافدوا على مكاتب البريد باكرًا علّهم يتجنّبون الانتظار. والنتيجة مئات من كبار السنّ وغيرهم في انتظار دورهم لصرف جراية التقاعد في ذات الوقت.
يقول عبد الرحمان (71 سنة) لـ"الترا تونس" إنّه "يُعاني نفس المشكل منذ إحالته على التقاعد على غرار جميع المتقاعدين، خاصة وأنّ الجرايات تُصرف في ذات الوقت، والكلّ لا يستطيع الانتظار لتخفيف الضغط على مكاتب البريد"، متسائلًا: "لِمَ لا يتم إرسال الجرايات إلى بعض أصحابها في بيوتهم لاسيما أنّ الأغلب تُعرف عناوين سكناهم المسجلة لدى مكاتب البريد؟".
وتساءل أيضًا: "لِمَ لا يقع مثلًا إيجاد صيغة صرف الجرايات عبر بطاقات على غرار البطاقة البنكية لسحب الأموال من الموزّع لتفادي الاكتظاظ كلّ شهر؟".
عبد الرحمان (متقاعد) لـ"الترا تونس": لِمَ لا يقع مثلًا إيجاد صيغة صرف الجرايات عبر بطاقات على غرار البطاقة البنكية لسحب الأموال من الموزّع لتفادي الاكتظاظ كلّ شهر؟
ويحدث أن يطلب منك أحد كبار السنّ كتابة بياناته في إحدى القصاصات الخاصة ببعض العمليات البريدية، سواء لسحب أموال أو إرسالها، ربّما لأنه أمّي أو ربما لصعوبة فهم ما يُطلب منه كتابته في تلك القصاصات الصغيرة. وفي الوقت الذي يجد فيه العديد منهم بعض الصعوبات في ملء فراغات بعض تلك القصاصات، أعلن البريد التونسي في ديسمبر/كانون الأول الماضي أنّه في إطار تطوير وتسهيل الخدمات المالية الموجهة لفائدة الحرفاء للحدّ من الاكتظاظ وتجنّب عدوى فيروس كورونا، سيتم بداية من شهر فيفري/شباط 2021 تعميم خدمة "سهلي جرايتي" لتشمل كافة المنتفعين، مما سيمكنهم من صرف جراياتهم من الموزعات الآلية للأوراق المالية "DAB" التابعة للبريد التونسي في أحسن الظروف وفي كل وقت على مدى كامل أيام الأسبوع.
وأشار البريد التونسي إلى أنّ سحب جرايات التقاعد من الموزعات الآلية للأوراق المالية "DAB" التابعة للبريد التونسي، تتم بصفة مجانية وسهلة ومؤمنة، إذ يكفي أن يضغط الحريف على الزر "سحب دون بطاقة"، ومن ثمّة إدخال رقم بطاقة التعريف الوطنية، وإدخال الأرقام الأربعة الأخيرة من الحساب الافتراضي، ثمّ الرّقم السري الذي يصلهم بصفة حينية بواسطة إرسالية قصيرة على رقم الهاتف الجوال.
اقرأ/ي أيضًا: رغم شعارات الرّقمنة: فوضى الخدمات الجامعية تتكرّر سنويًا
إجراء أثار سخرية الرّأي العام خاصة وأنّ أغلب كبار السنّ سيصعب عليهم اتباع تلك التعليمات للانتفاع بالجراية بأقل الجهود وأخف المشاكل ولتفادي الاكتظاظ، والحال أنّ العديد منهم يجدون صعوبة في ملء بياناتهم في بعض الوثائق البريدية.
التعليمات التي وضعت لسحب الجرايات عبر موزعات DAB الرقمية أثارت سخرية الرأي العام خاصة وأنها تعتبر غير مفهومة بالنسبة لكبار السن والحال أنّ العديد منهم يجدون صعوبة في ملء بياناتهم في بعض الوثائق البريدية
كانت مفيدة جاب الله (65 سنة) تجلس هي الأخرى خارج مكتب البريد رفقة مئات الحرفاء من كبار السنّ منتظرة دورها للحصول على جراية التقاعد. عند سؤالها عن إجراء "سهلي جرايتي" الذي أعلن عنه البريد آخر السنة الماضية، كانت الإجابة لا أدري ولم أعلم حتى ما يعنيه هذا الإجراء، لكن الحلّ بالنسبة لها فتح كافة الشبابيك وترفيع عدد أعوان مكاتب البريد لا سيما التي تشهد اكتظاظًا أكثر من غيرها خلال أواخر كلّ شهر".
يُذكر أنّ عددًا من النواب في البرلمان دعوا في ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى ضرورة تطوير القطاع البريدي لتقديم خدمات بنكية، وضرورة تطوير الرقمنة التي تعد من المعايير الدولية للتقدم ولمكافحة الفساد.
وأكد النائب فواد ثامر ضرورة تطوير البريد التونسي وتحويله إلى مؤسسة بنكية ومزيد توزيع المكاتب البريدية وتقليص الفجوة الرقمية والتقليل قدر الإمكان من استخدام الوثائق وتقييم خدمة الجيل الرابع والاستعداد للانتقال إلى الجيل الخامس.
وزير الشؤون الاجتماعية: نحو إعداد منظومة الحسابات الفردية للمنخرطين بما يُمَكن صندوق التقاعد من تحسين خدماته والمرور إلى التصفية الإلكترونية للجرايات، والاستغناء عن الملفات الورقية
وفي 26 فيفري/شباط الماضي، أعلن وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي أنّ الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية انطلق في العمل على تنفيذ مشروع منصة الحسابات الفردية التي سيتم بها الإرساء الفعلي لمنظومة الحسابات الفردية للمنخرطين وإحكام التصرف في ميدان الانخراط بما يُمَكن الصندوق من تحسين خدماته والمرور إلى التصفية الإلكترونية للجرايات، والاستغناء عن الملفات الورقية المتبادلة مع المؤسسات المشغلة.
وهي إجراءات تهدف كلها إلى تقليص الوثائق وتبسيط إجراءات الحصول على الخدمات والنفاذ إليها من قبل منظوري الصندوق، وبين أنّه في إطار تسهيل الخدمات وتفادي الاكتظاظ، توصل الصندوق عبر شراكة مع البريد التونسي إلى الاتفاق على تعميم إجراءات صرف جرايات المتقاعدين من الموزعات الآلية للأوراق النقدية للبريد التونسي باستعمال خدمة "سهلي جرايتي".
لكن على الرغم من هذا الإجراء ماتزال العديد من مكاتب البريد تشهد اكتظاظًا كبيرًا خلال صرف جرايات التقاعد، يتسبب في تعطيل شؤون العديد من حرفاء البريد خلال فترات صرفها.
اقرأ/ي أيضًا: