"هذا النسق دمّر حياتي! هذه السنة استثنائية بكل المقاييس، خوف وضغط وانقطاع متكرّر عن الدراسة لدرجة أنّي أصبت باكتئاب جعلني لا أنام سوى بأقراص النوم رغم أني لم أتجاوز السابعة عشر من عمري.. تخيّل معي هل أنّ 70 يومًا كفيلة لتقييم تلميذ؟" كانت هذه صرخة أحد تلاميذ المعاهد النموذجيّة الذي أحدثت جدلًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد دراسة لجمعية جودة التعليم، التي أقرّت أنّ نصيب التّلميذ التّونسيّ من أيام الدراسة لا يتجاوز هذه السّنة السبعين يومًا، تلقّاها بصورة متقطّعة. وكان من المفروض أن يكون قد تلقّى 180 يوم دراسة فعليّة، ما اعتبرته الجمعيّة معدّلًا ضعيفًا بالمقارنة مع دول أخرى يتراوح عدد أيّام الدّراسة فيها بين 200 و220 يومًا سنويًا.
أحد تلاميذ المعاهد النموذجية: "هذا النسق دمر حياتي! هذه السنة استثنائية بكل المقاييس، تخيّل معي هل أنّ 70 يومًا كفيلة لتقييم تلميذ؟"
الترا تونس تواصل مع عدد من المتدخّلين في الشأن التربوي لمعرفة مدى تأثير الانقطاع المتكرّر عن الدراسة في مكتسبات التلميذ التونسي وتقييمهم للبيداغوجيا المعتمدة في التعليم التونسي منذ تفشي وباء الكورونا في تونس.
- "النسق المتقطّع للسنة الدراسية علّم التلميذ الكسل"
تقول مديحة عبد العزيز التريكي، أستاذة أولى مميّزة بالمدرسة الإعدادية الإمام سحنون بقرمدة صفاقس، إنّ الإشكال انطلق منذ الثلاثي الثالث للسنة الفارطة الذي لم يكتمل وكان له تبعات خطيرة خاصّة وأنّ هناك تعلّمات لم يتعرّض لها التلميذ وهو ما ادّى إلى مشاكل في السنة الحاليّة. فالبرامج التربوية هي سلسلة من التعلّمات، وما نقص من السنة الفارطة يحتّم على المربي أن يبسطه ويتداركه وهذا ما يعطّل مسار الحصّة.
وتضيف التريكي أنّ ارتقاء التلميذ بـ 8.5 معدّل في السنة الماضية جعل المستوى داخل القسم متدنٍّ باعتبار أنّ عددًا كبيرًا من التلاميذ كان من المفترض أن يرسبوا على حدّ تعبيرها.
مديحة التريكي (أستاذة) لـ"الترا تونس": نظام الأفواج أثر سلبيًا على استكمال البرامج رغم أنه كان بإمكان التلميذ استغلال يوم الراحة للمراجعة
"نظام الأفواج أثّر سلبيًا على استكمال البرامج، رغم أنه كان بإمكان التلميذ استغلال يوم الراحة للمراجعة. أمّا الجانب الإيجابي فهو العمل بالفرق المريح للتلميذ وللإطار التربوي، فتقلّص العدد داخل القسم يمكّن المربّي من استثمار مجهوده. كما لاحظنا نقصًا في المشاكل وعدد الإقصاءات والعقوبات.. يا ليت هذا النسق يتواصل، ولكن للأسف مؤسساتنا لا تملك الإمكانيات" هكذا قيّمت مديحة التريكي نظام الأفواج، مضيفة أنّ ارتداء الكمامات كان عائقًا للتواصل وأنّ النسق المتقطّع للسنة الدراسية علّم التلميذ الكسل.
وتساءلت محدّثتنا: "بعد 22 سنة في مجال التعليم دائمًا ما أفكّر لماذا أصبح تلميذنا عازفًا عن الدرس؟ هذا السؤال الحارق يحتاج دراسة معمّقة خاصة وأنّ المنظومة التربوية بتوقيتها وكثرة برامجها وموادها أدّت إلى هذا التردّي في المستوى".
اقرأ/ي أيضًا: مدرّسات واجهن كورونا بمفردهن.. عندما تختلط مشاعر اليأس والتنكّر والخذلان
- "النسق الدراسي الحالي قد يخلق تفاوتًا في التعلّم بين المدارس"
يؤكّد بلال التوايتي، أستاذ مدارس ابتدائية بالمدرسة الابتدائيّة نهج مرسيليا، أنّ الانقطاع المتكرر بسبب فيروس كورونا ساهم في تراجع مستوى التلاميذ بشكل ملفت خاصة في المستويات الأولى وذلك لعدة أسباب، منها فشل نظام الأفواج الذي مثّل عبئًا على المتعلمين من حيث تحصيل الحد الأدنى المعرفي المطلوب، ومثّل أيضًا عبئًا على المربّين مع كثافة الدروس ومطالبة الوزارة للمربين بإنهاء البرنامج الدراسي.
كلّ هذا أدى إلى تقديم تعلّمات كثيرة في حصة واحدة وهو ما سبب في تراجع كبير في قدرة المتعلمين على الاستيعاب في مدة زمنية قصيرة.
وأشار التوايتي إلى أنّ إلغاء العمل الفرقي أو المجموعاتي بسبب الخوف من انتشار العدوى كان له تأثير سلبي على الدرجات الأولى خاصّة وأنّه كان يساهم بنسبة كبيرة في إنجاح الدرس وترسيخ التعلمات، مضيفًا أنّ الوزارة لم تتخذ الإجراءات البيداغوجية اللازمة لتوجيه المدرسين لضمان الحد الأدنى المعرفي، وتركت المسألة للارتجال وهو ما قد يخلق تفاوتًا في التعلم بين المدارس على حدّ تعبيره.
"يجب في نهاية هذه السنة تكثيف جهود كل الأطراف المتداخلة في العمليّة التربويّة" هكذا ختم بلال حديثه مؤكّدًا على ضرورة وضع خطط واضحة لتدارك هذا النقص في السنة الدراسية القادمة.
- "الوليّ مطالب بالمشاركة أكثر في العمليّة التربويّة"
وقالت الأخصائيّة في الديداكتيك الدكتورة سماح البرادعي من جهتها: "لا شكّ أنّ تأثير تقلّص عدد ساعات الدراسة إلى الثلث على التحصيل الدراسي سلبيّ، غير أنّ خياراتنا مع انتشار وباء كورونا محدودة جدًا، ذلك أنّ حسن ترتيب أولوياتنا يجعلنا نعطي الأولويّة القصوى لصحّة أطفالنا" وفق وصفها.
أخصائية في الديداكتيك لـ"الترا تونس": تقلص عدد ساعات الدراسة يؤثر سلبًا على التحصيل الدراسي وهو ما يفرض بالضرورة على الولي المشاركة أكثر في العملية التربوية
ولخّصت الدكتورة سماح هذا التأثير في عدد من النقاط منها صعوبة تأقلم بعض التلاميذ، خاصّة الذين يعانون من اضطرابات تعلّم، مع تغيّر نمط الدراسة. بالإضافة إلى تأخّر في اكتساب بعض المعارف وتراجع في نسق تعلّم بعض أطفال الدرجة الأولى (سنة أولى + ثانية) للكتابة والقراءة أساسًا. وأخيرًا، عدم قدرة بعض التلاميذ على التمكّن من كلّ ما درسوه بسبب قصر مدّة التدريس.
وأكّدت محدّثتنا أنّ هذا التأثير السلبي يفرض بالضرورة على الوليّ المشاركة أكثر في العمليّة التربويّة من خلال تخفيض مستوى توقعاته، وتأطير الطفل نفسيًا، ومحاولة دعم مهارات الطفل الحياتيّة كالتعامل المالي من خلال خلق وضعيات تدريب في الحياة اليوميّة، مضيفة أنّه على الأولياء التعويل على العطلة الصيفيّة لتدارك النقص في المكتسبات وسدّ الثغرات مع محاولة الحفاظ على رغبة الطفل في التعلّم من خلال المراوحة بين الدراسة في العطلة والأنشطة المحفّزة للطفل، على حدّ تعبيرها.
- "ما نعيشه اليوم هو بداية انهيار المدرسة العموميّة"
وفي تحليله للوضعية التربوية الحاليّة، أكّد رئيس جمعيّة جودة التعليم سليم قاسم لـ"الترا تونس" أنّ الأزمة الصّحّيّة التي تمرّ بها البلاد قد ساهمت في تشكيل هذا المشهد القاتم، ولكنّ الاكتفاء بالبحث عن مثل هذه التّبريرات ليس سوى تهرّب من المسؤوليّة وإعلان عن القبول بتواصل الوضع على ما هو عليه على حدّ تعبيره.
وأضاف أنّ العالم بأسره يعيش حالة طوارئ تربويّة، ويبحث في كلّ الاتّجاهات عن حلول مبتكرة من شأنها أن تحدّ من تأثيرات جائحة كورونا على العمليّة التّعليميّة، وقد طوّرت عديد الدّول في وقت قياسيّ نظمًا للتّعليم عن بعد، لم تمكّنها فقط من الحدّ من آثار غلق مؤسّساتها التّعليميّة، بل وأكسبتها خبرة ثمينة سوف تمثّل في قادم السّنوات أساسًا متينًا لبناء نظم تربويّة أحدث وأقدر على مواجهة تحدّيات العصر.
اقرأ/ي أيضًا: نحو تأميم الجهل وخوصصة المعرفة...
واستطرد قاسم بخصوص الوضع في تونس، أن هناك تحالفًا غير معلن بين بيروقراطيّة أهدرت على امتداد عقدين من الزّمن كلّ الاعتمادات التي تمّ رصدها لتحقيق التّحوّل الرّقميّ لمنظومتنا التّربويّة، وبين دعوات شعبويّة ترفع في الظّاهر شعارات الإنصاف وتكافؤ الفرص وتدفع في الواقع بالبلاد نحو مزيد من التّخلّف والانحطاط عبر محاربتها للتّعليم عن بعد بدل العمل على تعميمه على جميع أبناء تونس وبناتها.
وعن قرار العودة للدّروس خلال النّصف الثّاني من شهر ماي/آيار، أكّد محدّثنا في تصريحه لـ"الترا تونس" أنّ هذا القرار لا يمكن قراءته بمعزل عن هذا المشهد التّربويّ، فكلّ ما سيوفّره للتّعليم الثانوي مثلًا هو 4 أيّام دراسة لتلميذ البكالوريا و7 أيام دراسة لتلميذ باقي المستويات، وهو ما يعني أنّ تأثيره على مكتسبات المتعلّمين سوف يكون معدومًا أو شبه معدوم، مضيفًا أنّ الغاية منه إنّما تتمثّل بالأساس في تجنّب الحرج الكبير الذي كان سينشأ إذا وقع دعوة التّلاميذ مباشرة لإنجاز الفروض التّأليفيّة.
رئيس جمعيّة جودة التعليم لـ"الترا تونس": هناك دعوات شعبويّة ترفع في الظاهر شعارات الإنصاف وتكافؤ الفرص وتدفع في الواقع بالبلاد نحو مزيد من التخلف عبر محاربتها للتعليم عن بعد بدل العمل على تعميمه
وأشار رئيس جمعيّة جودة التعليم إلى أنّ إنجاز الامتحانات، وخاصّة الوطنيّة منها، منذ سنوات كان غاية الغايات لدى البعض، ومعظم المجهودات والقرارات باتت تصبّ في خدمة هذه الغاية دون سواها، أمّا تطوير مكتسبات التّلاميذ وتحسين جودة التّعليم ودعم نتائجه، فعناصر تحتلّ أدنى سلّم الأولويّات، بل وصارت تعتبر من باب التّرف الفكريّ والكماليّات، في حين تعتبرها عشرات الدول عبر العالم من الرّكائز الأساسيّة لاستراتيجيّاتها التّربويّة والتّنمويّة.
وقال سليم قاسم متأسّفًا: "نحن لم نأخذ للأسف بأسباب تطوير منظومتنا التّعليميّة، ولم نفعل على امتداد العقدين الفارطين شيئًا من أجل ذلك، وما نعيشه اليوم ليس سوى بداية انهيار المدرسة العموميّة الذي ستكون له عواقب كارثيّة على جميع المستويات الاجتماعيّة والتّنمويّة والحضاريّة.. فغياب الحوكمة، وسيادة منطق تصريف الأعمال، واستمرار العصبيّات القطاعيّة اللاّمسؤولة، وطغيان الحسابات الفرديّة البائسة، عوامل قد تظافرت كلّها لتعبث بمدرسة الجمهوريّة، هذا الإرث الثمين الذي ضحّت أجيالُ البُناةِ بالغالي والنّفيس من أجل تكوينه".
- تونس تحتاج تعلّمًا موجّهًا للحياة، ويجب ضمان حقّ كلّ تلميذ في تعليم مدرسيّ منصف
وعن الحلول لاستدراك هذا الخلل في مسار السنوات الدراسيّة الأخيرة، قالت الدكتورة سماح البرادعي إنّه بعد سنتين دراسيتين بنسق غير مستقر ونظرة مستقبليّة غير واضحة، من الضروريّ تصوّر نموذج مختلف للتعلّم، نموذج يقوم أساسًا على تطوير مهارات أطفالنا من خلال إضفاء الدلالة والمعنى على كلّ أنشطة القسم، وليس على تراكم المعارف، بمعنى استبدال أسلوب التراكم الكمّي للمكتسبات بأسلوب الإدماج الوظيفي للمعارف ممّا يجعلنا نتحدّث عن التعلّم في أسمى معانيه وأرقى أهدافه، التعلّم الموجّه للحياة وليس لاجتياز الامتحانات.
اقرأ/ي أيضًا: الامتحانات.. هاجس للأولياء وغول للأبناء
ومن جهته قال سليم قاسم: "إنّ الواجب يقتضي اليوم، بشكل ملحّ واستعجاليّ، تنظيم ورشات عمل تشاركيّة مفتوحة، تتدارس كافّة السّبل الممكنة لتعويض التّعليم الحضوريّ، وتخرج بسيناريوهات عمليّة تطرق جميع السّبل الممكنة، وتسخّر كافّة الإمكانيّات المتاحة لضمان حقّ كلّ تلميذ تونسي في تعليم مدرسيّ منصف وبجودة مضمونة، يمنحه ما يحتاجه من معارف ومهارات ويضعه على طريق النّجاح، بدل مواصلة التّشبّث بالشكليّات والمظاهر التي لم تعد تقنع أحدًا، بعد أن فضحتها نسب الانقطاع المفزعة، وأعداد المرتدّين إلى الأمّيّة المتزايدة، وبعد أن افتقدت شهاداتنا العلميّة القسم الأكبر من مصداقيّتها، والحال أن لدينا كلّ الإمكانيّات الضّروريّة لبناء منظومة تربويّة عالية الأداء تساهم في انبعاثنا الحضاريّ الذي طال انتظاره".
اقرأ/ي أيضًا:
إفراغ البرامج المدرسية من النزعة الحداثية.. حقيقة أم فزاعة إيديولوجية؟