قبل نحو سنة من الآن، عادت ريمان بارود من تونس إلى قطاع غزة لقضاء عطلتها بين عائلتها وأصدقائها، بعد سنوات من الغياب بسبب مواصلة دراستها كطالبة دكتوراه في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس.
شاءت الأقدار أن تتزامن عودتها حينها مع قرب نهاية شهر رمضان وحلول عيد الفطر المبارك، لتتمكن بعد سنوات من الغياب من قضاء العيد مع عائلتها ولقاء أقاربها وأحبائها والتجول في شوارع غزة والإفطار على بحرها، الذي تعتبره المتنفس الوحيد للسكان بسبب الحصار المفروض عليهم من إسرائيل.
-
ريمان بارود: في زيارتي الأخيرة إلى غزة شعرت وكأنني أودعها
عن هذه الزيارة، تقول ريمان بارود في حديثها مع "الترا تونس": "عند عودتي إلى غزة بعد سنوات من الغياب وجدت أنها تغيرت نحو الأفضل، فأصبحت أكثر جمالاً وأكثر نظافة، فتجولت حينها في شوارعها الواسعة والنظيفة بكل سعادة وفخر وكأنني أودعها".
طالبة غزاوية مقيمة في تونس: وثّقتُ في زيارتي الأخيرة صورًا ومقاطع فيديو لأماكن عديدة في قطاع غزة، ألجأ إلى مشاهدتها عقب الدمار الذي خلّفته الحرب وأنا أتألم على مدينتي التي دُمّرت ودُمّرت معها كل ذكرياتي
تضيف: "في زيارتي الأخيرة شعرت فعلاً وكأنني أودع منزلي وشوارع غزة ومساجدها ومعالمها الشامخة، حتى أنني تمنيت وأنا أتجول في غزة أن تُتاح الفرصة أمام الجميع لزيارتها والتجول فيها من شدة جمالها".
وتعتبر محدثتنا أنّ الله منحها فرصة العودة إلى مدينتها قبل أن تدمرها الحرب، كي تستمتع بضجيج الأطفال والنوم في غرفتها وتشارك أجواء العيد مع عائلتها وأحبائها، وكي تأكل الأكلات والحلويات الغزاوية على شاطئ البحر.
في عودتها الأخيرة، وثّقت الطالبة الغزاوية صورًا ومقاطع فيديو لأماكن عديدة في قطاع غزة، وعقب الدمار الذي خلّفته الحرب تلجأ ريمان بين الفينة والأخرى إلى مشاهدة الصور وهي تتألم على مدينتها ومنزل عائلتها الذي دُمّر ودُمّرت معه كل ذكرياتها.
كانت عائلة ريمان تعيش في برج الأندلس بحي الكرامة (شمال غربيّ غزة)، الذي يتكون من 17 طابقًا، غير أن القنابل الإسرائيلية دمرته بالكامل منذ الأسابيع الأولى للحرب، ويعدّ هذا البرج شاهدًا تاريخيًا على همجية الاحتلال الإسرائيلي حيث سبق وأن تم تدميره في حرب 2008 كما تم قصف جزء منه سنة 2014 بعد إعادة بنائه.
طالبة غزاوية مقيمة في تونس لـ"الترا تونس": كانت عائلتي تعيش في برج الأندلس بحي الكرامة (شمال غربيّ غزة)، الذي يتكون من 17 طابقًا، غير أن القنابل الإسرائيلية دمرته بالكامل منذ الأسابيع الأولى للحرب
هنا تقول ريمان، إنّ مربع حيّ الكرامة الذي كان ينبض بالحياة وضحكات الأطفال وزقزقة العصافير تحول إلى مدينة أشباح لا حياة فيه ونزح كل سكانه هربًا من المجازر الإسرائيلية، فيما استشهد المئات داخل منازلهم.
بدورها، نزحت عائلة ريمان إلى مدينة رفح في رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، وهي تواجه منذ أشهر صعوبة في الحصول على الغذاء والدواء والماء كغيرها من مئات الآلاف من الفلسطينيين النازحين، هربًا من جحيم القنابل ورصاص القناصة الإسرائيليين.
-
أجواء عيد الفطر في غزة
على غير العادة، يستقبل أهالي قطاع غزة عيد الفطر هذه السنة وهم مهجرون في الخيام وبين ركام المنازل وعلى أرصفة الطرقات، بعد حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على المدنيين والأبرياء منذ أكثر من 6 أشهر، وخلّفت حتى الآن أكثر من 33 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى.
"قبل هذه الحرب، كانت أجواء العيد في غزة مميزة وفريدة بالنسبة لسكانها، حيث يستقبل أهالي القطاع يومهم بتكبيرات العيد ثم يتوجهون للصلاة ومن ثمة يتبادلون التهاني ويبدأون في تجهيز أنفسهم لاستقبال الضيوف والأقارب وهم في كامل أناقتهم وزينتهم"، تقول ريمان بارود.
تواصل حديثها مفسرة: "يوم العيد، تُزيّن العائلات الغزاوية موائدها بأشهى أنواع الحلويات والكعك والعصائر والشكولاتة، ومع بزوغ أشعة الشمس تبدأ العائلات في زيارة بعضها البعض وتبادل التهاني، بينما ينشغل الأطفال بجمع (العيدية)" من عِند الكبار".
طالبة غزاوية مقيمة في تونس: قبل هذه الحرب، كانت أجواء العيد في غزة مميزة، حيث يستقبل أهالي القطاع يومهم بتكبيرات العيد ثم يتوجهون للصلاة ومن ثمة يتبادلون التهاني ويستقبلون الضيوف والأقارب وهم في كامل أناقتهم
ومن أشهر الحلويات التي لا تغيب عن موائد الغزاويين في العيد هو "المعمول" الذي يتمّ تحضيره من السميد ويتمّ حشوه بالمكسرات أو التمر أو الفستق والعسل ويقدم في الصباح مع القهوة، بينما يتمّ مساءً تحضير أطباق الفسيخ وهي عبارة عن سمك مملّح أو مجفف وتقدم معه قلاية البندورة (طماطم مع ثوم وبصل).
تحرص العائلات الغزاوية على التزاور يوم العيد بشكل لافت وهي من العادات الثابتة التي لم تتغير مع مرور الزمن، أما اليوم الثاني فيُسمح فيه لزوجات الأبناء بزيارة عائلاتهم وتمضية اليوم عندهم وهي عادة تسمى "تصدير الكنائن"، في حين يتم تخصيص ثالث أيام العيد للتنزه وحضور الحفلات، وفق ما أكدته محدثتنا.
وتشير ريمان بارود إلى أنه على الرغم من الحصار والحروب، فإن جميع أهالي غزة يستقبلون العيد بفرحة كبيرة وبملابس جديدة، مؤكدة أن هذا العيد سيكون مختلفًا في غزة بعد أن دمرت إسرائيل كل الأشياء الجميلة في المدينة.
تؤكد ريمان، أنّ من لم يحالفه الحظ لقضاء العيد في غزة قد فاته الكثير وفقها، وهي تشعر بالحسرة لأنّ القطاع محاصر ولا يسمح بدخول الجميع إليه لزيارته والتعرف على معالمه وأهله، وتذوق أطباقها الشهية.
طالبة غزاوية مقيمة في تونس لـ"الترا تونس": يتمّ مساء يوم عيد الفطر تحضير أطباق الفسيخ وهي عبارة عن سمك مملّح أو مجفف وتقدم معه قلاية البندورة
تتذكر ريمان جملة شهيرة تتم كتابتها في كل عيد على جدران مدينة غزة، وهي "ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن صار شهيد"، مؤكدة أنهم تربوا وكبروا على وجود هذه الجملة دائمًا في الشوارع وهي تُترجم صبر الأهالي وقوتهم وتقبلهم لفكرة الشهادة كقدر لهم ولأبنائهم.
تضيف بارود قائلة: "بعد 6 أشهر من الحرب، أثبت سكان غزة أنهم أقوياء وقادرين على الصمود رغم خذلانهم من كل الدول والشعوب ورغم تجويعهم وقصفهم بشكل مستمر وممنهج، حيث أثبتوا للعالم أنهم شعب جبّار شعاره المقاومة والصمود يرفض الاستسلام والعيش على المؤونة والمساعدات".
تواصل حديثها قائلة: "لا يوجد بيت في غزة إلا وفيه شهيد أو جريح، وكل السكان هناك دفعوا الغالي والنفيس فداءً لأرض فلسطين ودفاعًا عنها، وغدًا إذا توقفت الحرب سينزل الجميع إلى الشارع من أجل إعادة بناء المدينة وتنظيف شوارعها وتجميلها".
-
ريمان بارود: أتمنى أن تنتهي الحرب وستعود غزة أجمل من قبل
تقول ريمان بارود إنّ غزة ستعود أجمل مما كانت عليه وتُعَمّر من جديد بسواعد أبنائها، مضيفة أنّ نية الاحتلال ليس محاربة حركة حماس كما يُروّج وإنما يسعى لتدمير كل شيء جميل داخل القطاع وقتل الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير المدارس والجامعات.
طالبة غزاوية مقيمة في تونس لـ"الترا تونس": تربّينا وكبرنا على جملة شهيرة تتم كتابتها في كل عيد على جدران مدينة غزة، وهي "ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن صار شهيد"
وفي عيد الفطر الفائت، كانت ريمان تخطط لإرسال والدتها إلى العمرة وتمكنت فعلاً من جمع المبلغ المالي المطلوب وسلمتها إياه قبل عودتها إلى تونس، غير أنّ والدتها اضطرت لصرف المبلغ المالي لشراء بعض الغذاء والدواء في الحرب.
تقول ريمان إنها تنتظر نهاية الحرب كي تتمكن من إعادة جمع المال والوفاء بوعدها لوالدتها وإرسالها إلى زيارة بيت الله وتحقيق حلمها برؤية الكعبة الشريفة، علّها تنسى ما عاشته من عذاب وخوف وجوع في هذه الحرب، التي دمرت الشجر والحجر في غزة.
في الحقيقة تتمنى ريمان لو أنّ هذه الحرب لم تندلع أساسًا، لكن ومع اندلاعها واستمرارها لأشهر طويلة تقول ريمان إنها لم تشعر بطعم شهر رمضان ولا بفرحة العيد وأنّ كل ما تتمناه الآن هو أن تنتهي هذه الحرب في أسرع وقت ممكن.
تعاني ريمان من أزمات نفسية جرّاء المشاهد القاسية القادمة من غزة والتي توثق قصص الشهداء وأوجاع عائلاتهم ومعاناة الأطفال، وما زاد معاناتها هو عجزها عن تقديم المساعدة لعائلتها وسط نقص كبير في الغذاء والسيولة والأدوية.