عاد الجدل مجددًا، في الأوساط السياسية والحقوقية في تونس، حول مدى قبول القانون التونسي لزواج التونسية المسلمة بغير المسلم من عدمه وذلك بعد نشر بلدية الكرم (العاصمة) التي يترأسها فتحي العيوني (قائمة حركة النهضة) لبلاغ، الأربعاء 8 جويلية/يوليو 2020، ينصّ على وجوب استظهار الأجنبي بشهادة في اعتناق الدين الإسلامي إن كان يروم الزواج بمسلمة، وهو ما اعتبره حقوقيون مخالفة للقوانين خاصة بعد إلغاء رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي عام 2017 لمنشور يعود لسنة 1973 كان يمنع عدول الإشهاد من إبرام عقود الزواج بين المسلمة وغير المسلم إلا بعد ثبوت إسلام الأخير بشهادة تمنحها دار الإفتاء.
غير أن إلغاء هذا المنشور المذكور لم ينه، واقعًا، الجدل الممتد عبر عقود بين المحاكم والتيارات القانونية في تونس، في ضوء غموض النص القانوني (مجلة الأحوال الشخصية) وعدم الحسم في خيار تشريعي واضح.
لم ينه إلغاء المنشور 1973 الجدل الممتد عبر عقود بين المحاكم والتيارات القانونية في تونس حول مسألة زواج المسلمة بغير المسلم في ظل غموض النص القانوني
فتحي العيوني، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، قال إنه "بصدد تطبيق القانون وليس لديه أي أجندة دينية أو إيديولوجية"مذكرًا بأن الفصل 4 من مجلة الجماعات المحلية ينص على أنه لا يكتب عقود الزواج إلا طبقًا للقوانين الجاري بها العمل، مشيرًا بالخصوص للفصل 5 من مجلة الأحوال الشخصية الذي ينص على "الموانع الشرعية" للزواج.
اقرأ/ي أيضًا: إلغاء منشور يمنع زواج التونسية بغير المسلم.. هل انتهى الجدل فعلًا؟
وقال إن كل ما سبق الحديث عنه بشأن إلغاء جميع الموانع لإبرام عقد زواج تونسية مسلمة بغير مسلم هو "مغالطة قانونية للرأي العام ودعاية سياسية في تلك الفترة لاستقطاب النساء تحت ذريعة تعزيز حقوق المرأة بينما لم يتم في الواقع إلغاء الموانع الشرعية لإبرام عقد الزواج".
في المقابل، اعتبرت النائب السابق ورئيسة لجنة المساواة والحريات الفردية (لجنة رئاسية كوّنها الرئيس السابق السبسي) بشرى بلحاج حميدة أن اشتراط شهادة في اعتناق الدين الإسلامي من قبل الرجل غير المسلم للزواج بتونسية "مخالف للقانون" متهمة، في تصريح لذات الوكالة، رئيس بلدية الكرم فتحي العيوني بأنه "يتمرّد على القانون ويقوم بتأسيس دولة داخل دولة". واعتبرت أن عدم احترام رئيس بلدية الكرم إلغاء موانع الزواج يجعله محل تتبع قضائي لفعل يستوجب العقاب.
ليست هذه المرة الأولى التي يُثار فيها الجدل حول مسألة اشتراط بلدية الكرم شهادة اعتناق للدين الإسلامي للزوج الأجنبي، ففي أوت /أغسطس 2018، صرح رئيس البلدية فتحي العيوني أنه أعطى تعليماته بعدم تسجيل عقود الزواج بين التونسية المسلمة والأجنبي غير المسلم رغم إلغاء منشور 73 في سبتمبر/أيلول 2017.
ماهي الأسس القانونية لكل موقف؟
وحول اختلاف مواقف كل تيار حول المسألة المثيرة للجدل الدائم، فيما يلي الأسس القانونية المؤسسة لكل موقف:
التيار الداعم لاشتراط إسلام الزوج الأجنبي:
- الدستور: يستند هذا التيار إلى النص الدستوري الذي ينص في التوطئة على "التمسك بتعاليم الإسلام" وعلى "الهوية العربية الإسلامية"، وينص في الفصل الأول أن تونس "دينها الإسلام"، وكذا الفصل 6 الذي يشدد أن "الدولة راعية للدين".
- مجلة الأحوال الشخصية: يرتكز هذا الموقف أساسًا على الفصل 5 من المجلة ونصه "يجب أن يكون كلّ من الزوجين خلوًا من الموانع الشرعية"، وتسمح عبارة "الموانع الشرعية"، وفق هذا الرأي، بالعودة للفقه الإسلامي بما أنه المصدر المادي لمجلة الأحوال الشخصية. ويضيف أن المشرع اعتمد هذه العبارة لهذه الغاية بدليل عدم استعمال عبارة "الموانع القانونية"، وبالتالي لا يجب الاكتفاء بالموانع الأبدية والمؤقتة الواردة في نص المجلة فقط.
- المناشير: يشير هذا الرأي إلى أن منشور 1973، الذي وإن سبق إلغاؤه، "لا يغير من الأمر شيئًا"باعتبار أن الفصل 5 من مجلة الأحوال الشخصية هو المستند الأساسي. كما يؤكد هذا التيار أن المنشور المُلغى يؤكد، حقيقة، ما نصت عليه مجلة الأحوال الشخصية بخصوص "إحالتها الضمنية" إلى "شرط" اعتناق الإسلام بالنسبة للزوج غير المسلم إن كان يروم الزواج بمسلمة، وهو ما جرى العمل عليه طيلة عقود. كما يذكّر هذا الرأي بمنشور لوزير الداخلية السابق الطيب المهيري عام 1962 أكد فيه أن إبرام عقود زواج مسلمات بأشخاص غير مسلمين "غير قانوني وينافي ما جاءت به مجلة الأحوال الشخصية صراحة أو ضمنيًا وخاصة الفصل الخامس منها". ويأتي استذكار هذه المناشير في إطار التأكيد على "مراد المشرّع"، وباعتبار بالخصوص أنها صادرة عن حكومة يترأسها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي قدم بدوره مشروع مجلة الأحوال الشخصية عام 1956. وتأتي الإشارة، في هذا السياق، إلى أن عميد عدول الإشهاد في تونس، صرح في وقت سابق، عن رفضه تغيير المنشور 73 بل طالب مفتي الجمهورية التونسية بالخروج عن صمته وحسم الأمر، وفق قوله.
التيار الداعم لعدم اشتراط إسلام الزوج الأجنبي:
- الدستور: يستند هذا التيار على الدستور أيضًا بالخصوص مع تنصيص التوطئة على "مبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية" و"المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات" (باعتبار أنه لا اشتراط لإسلام الزوجة بالنسبة للزوج المسلم). كما يرتكز على الفصل 2 الذي ينص أن "تونس دولة مدنية"، والفصل 6 بخصوص "حرية المعتقد والضمير"، وأيضًا على الفصل 46 الذي تنص فقرته الأولى أن الدولة تتلزم بـ "حماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها".
- الاتفاقيات الدولية: ينص الدستور أن الاتفاقيات الدولية المصادق عليها هي أقل مرتبة من الدستور وأعلى مرتبة من القوانين، ويأتي الحديث بالخصوص، في هذا الإطار، عن اتفاقية "السيداو" (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) التي تمنع التمييز ضد المرأة في علاقة بمسألة اشتراط زواجها بالمسلم ضرورة، وكذا اتفاقية العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- مجلة الأحوال الشخصية: يؤكد هذا الرأي أن المجلة حدّدت الموانع الأبدية والمؤقتة للزواج بشكل واضح وصريح ولم تنص في الفصول المنظمة لهذه الموانع على مانع "اختلاف دين الزوج" بالنسبة للمسلمة. وبالتالي، القانون لا يمنع زواج المسلمة بغير المسلمة.
- المناشير: تعزّز موقف هذا التوجه مع إلغاء رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي عام 2017 لمنشور 1973 الذي كان كان يشترط على عدول الإشهاد عدم إمضاء عقد زواج المسلمة والأجنبي إلا بعد استظهار الأخير بشهادة من مفتي الجمهورية تؤكد اعتناقه الدين الإسلامي. وحتى قبل إلغاء هذا المنشور، كانت تؤكد أوساط حقوقية أن منشور 1973 يظل غير قانوني لاستحداثه "مانع جديد" للزواج ومخالفته لنص أعلى منه درجة وهو مجلة الأحوال الشخصية التي تختص لوحدها بتحديد الموانع على النحو السابق عرضه.
اقرأ/ي أيضًا: 8 نقاط أساسية في مشروع المساواة في الميراث.. تعرّف عليها
متى ينتهي الجدل؟
الجدل إذًا حول مسألة زواج التونسية المسلمة بغير المسلم هو قديم في تونس لم يُحسم يومًا بشكل بيّن، وظل رهين الاختلافات والاجتهادات، وقد اختلفت توجهات المحاكم التونسية، على مدى عقود، بمناسبة النظر في صحة هذا الزواج لدى نظرها بالخصوص في قضايا استحقاق الميراث. وقد ذهبت محكمة التعقيب، أعلى محاكم البلاد، في قرار شهير يُعرف بـ"قرار حورية"،عام 1966 لاعتبار زواج التونسية بغير المسلم زواجًا فاسدًا يحرم المسلمة من الميراث. وهو توجه خالفته محاكم أخرى مستندة بالخصوص للاتفاقيات الدولية المصادق عليها من الدولة والتي تؤكد على حرية اختيار الزوج بغض النظر عن ديانته.
الجدل حول مسألة زواج التونسية المسلمة بغير المسلم هو قديم في تونس لم يُحسم يومًا بشكل بيّن
وإن الحسم في هذه المسألة على المستوى القانوني الإجرائي على الأقل يفترض تنقيح مجلة الأحوال الشخصية للخروج من حالة الغموض وذلك إما بحذف عبارة "الموانع الشرعية" وتعويضه بعبارة "الموانع القانونية" لصد الباب دون العودة للفقه الإسلامي لاستجلاب مانع عدم إسلام الزواج، وإلا، في الاتجاه المخالف، التنصيص على هذا المانع بصفة صريحة وإضافته لقائمة الموانع المؤقتة الواردة في نص المجلة. غير أن هذا التنقيح لا يُنتظر أن يرى النور، في ظل التوافق الضمني بين جل المكونات السياسية والحقوقية على إبقاء مجلة الأحوال الشخصية على حالها، وعدم فتح الباب لتنقيحها في الوقت الحاضر بالذات، في ظل احتدام الصراعات السياسية والهووية طيلة السنوات الأخيرة، وفتح ملف يظن التونسيون أنهم تجاوزوه منذ عقود، وقد يؤدي النبش فيه إلى شرخ مجتمعي.
اقرأ/ي أيضًا:
لتنقيح مجلة الأحوال الشخصية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة
هل التونسية ملزمة بالنفقة على أبنائها بعد الطلاق؟