08-يوليو-2023
خمور

من الظواهر المنتشرة خاصة في الوسط الشبابي في تونس من الشمال إلى الجنوب نجد صناعة الخمور المحليّة (Getty)

 

 فكرة "الهامش" لم تكن إيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية صرفة كما يذهب إلى ذلك العديد من المحللين بقدر ما هي منتج فكري وفلسفي، وقد تناولتها بالعناية العلمية طيلة القرن العشرين أغلب العلوم الإنسانية المنشقة عن الفلسفة بمختلف تفريعاتها ومنها علم الاجتماع وعلم الإناسة وعلم النفس وعلم التاريخ وعلم الديمغرافيا.. وقد أثمر ذلك تأسيسًا متينًا لما سمّي بـ"فلسفة الهامش" التي تدافع عن كل مقصي من دائرة المركز، سواء أكان المركز سياسيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو حضاريًا.

وضمن هذه السياقات أثمرت الدراسات والبحوث السوسيولوجية الحديثة والمعاصرة تفكيكًا للأسباب التي تصنع الهامش الاجتماعي الذي يؤدي إلى نشوء "البثور" الاجتماعية التي يصعب زوالها بسهولة وتخلّف أحيانًا ندوبًا بارزة لا تمّحي بل وتظل هامدة تحت رماد الأيام ولها أن تعود إذا ما جدّت الأسباب في الظهور من جديد. وقد تم الاستئناس بتلك الدراسات والمخرجات العلمية في السياسات الاجتماعية التي تتوخاها الشعوب بواسطة السلط القائمة بشكل ديمقراطي من أجل درء المخاطر المترتبة عن ذلك. 

ظاهرة صناعة الخمور المحلّية بأبسط المكونات هي هامش يترعرع في ضواحي المدن والقرى حيث يعم الفقر ويوجد التهميش ويغيب دور الدولة في توفير الحد الأدنى من الضروريات وخلق توازنات بين الفئات الاجتماعية

ومن الظواهر القديمة ذات التجدد الدائم داخل المجتمع التونسي والمنتشرة على وجه الخصوص في الوسط الشبابي من الشمال إلى الجنوب نجد "صناعة الخمور المحليّة" وهذه الظاهرة هي هامش يترعرع في ضواحي المدن والقرى، حيث يعم الفقر ويوجد التهميش ويغيب دور الدولة في توفير الحد الأدنى من الضروريات وخلق توازنات بين الفئات الاجتماعية.

وفي ظل عدم استقرار سياسي واقتصادي وتدهور معيشي واضح سجلته تونس في السنوات الأخيرة لدى غالبية طبقات مجتمعها والذي زادته الحرب الروسية الأوكرانية سوءًا وتعقيدًا، عرفت أسعار الخمور ارتفاعًا مشطًّا وخصوصًا الأنواع الشعبية منها والمعدّة للاستهلاك المحلي مثل البيرّة المستخرجة من حبوب الشعير والنبيذ أو "الشراب الأحمر" بمختلف أنواعه المستخرج من مخمّر العنب والذي تنتجه سواء المصانع الخاصة أو الدولة التونسية عبر "مجمّع الكروم" الذي تأسس سنة 1942 حيث تم تسجيل عودة واضحة للأساليب التقليدية في صناعة الخمور والمسكرات.

 

  • "القوارص" و"البانتا" مسكرات الفقراء

ولمزيد فهم ما يحدث التقى "الترا تونس" بمختار، وهو اسم مستعار لكهل يصنع خمرة محلية بمنزله خارج ما تنص عليه القوانين التونسية ويقطن بحي الزهور بالضاحية الغربية للعاصمة تونس، بأحد المقاهي الشعبية بالحي المذكور وقد بادَرَنا بالحديث قائلًا إنه  يمارس هذه المهنة منذ فترة طويلة وقد ورثها عن أعمامه الذين كانوا يشتغلون مع يهود تونس في صناعة الخمور، وقد تخلى عنها لبضع سنوات ثم سرعان ما عاد إليها بقوة بعد الثورة.

بائع خمر محلية لـ"الترا تونس":  أمارس هذه المهنة منذ فترة طويلة وقد ورثتها عن أعمامي الذين كانوا يشتغلون مع يهود تونس في صناعة الخمور وأنا اليوم أحقق أرباحًا هامة خاصة في الصيف مع كثرة الأعراس والمناسبات

وقال مختار إنه ينتج بمنزله صنفين من المسكرات، الأول باستعمال المشروبات الغازية، والثانية باستعمال العصائر، موضحًا أن له إضافات أخرى خاصة من الكحول وغيرها من المواد. 

وأشار محدثنا إلى أن زبائنه يعرفون بـ"الزبراطة" وهو مصطلح قديم منتشر في الأوساط الشعبية التونسية في الستينات والسبعينات، مشيرًا إلى أنّ أكثر من نصف زبائنه من المراهقين والشباب ممن لا يقدرون على شراء الخمر المعلّب المعروض في المغازات وفي المتاجر الخاصة نظرًا لأسعاره المشطة، مستطردًا أن سعر اللتر الواحد مما ينتج هو من الخمر لا يتجاوز الدولار الواحد.

وتحدث مختار أيضًا عن الازدهار الذي تعرفه بضاعته خلال فصل الصيف مع كثرة الأعراس والمناسبات، مضيفًا أن رواد وهواة منتجاته المسكرة ينسقون معه مسبقًا حتى يجهّز البضاعة ويُحبذ أن ينسق لعملية البيع مع أفراد بعينهم درءًا  للشوشرة ولفت انتباه الأمن لتحركاته، وفق قوله.

يصنع البعض الكحول بتخمير نجارة الخشب ومن ثمة استعمالها في صناعة المسكرات بعد إضافة مواد أخرى مخدرة وخلطها جميعًا بأحد أنواع العصائر المعلبة ويسمى هذا المشروب في الأوساط الشبابية "البانتا"

وإلى جانب ما يقوم به مختار وباقي المنخرطين المتمرسين في صناعة المشروبات الكحولية المنتجة محليًا، يذهب شباب المدن والأرياف على حدٍّ سواء إلى تطبيق وصفات خاصة مستخرجة من شبكة الانترنت أو رائجة ومتداولة في الأوساط المحلية. ويعدّون عطر"الكولونيا" المعروف بـ"القوارص" والمخلوط بمادة "الميتانول" من أشهر المشروبات المنتشرة في الأحياء الفقيرة بالمدن التونسية وفي أرياف الوسط الغربي بولايات القيروان وسيدي بوزيد والقصرين، وهو مشروب يؤدي سنويًا إلى وفاة ما لا يقل عن عشرة أشخاص وذلك رغم منع الدولة التونسية بيع مادتي عطر الكولونيا والكحول الموجه للاستعمال المنزلي في محلات بيع المواد الغذائية العامة خاصة بعد حادثة 7 فيفري/شباط 2021 التي راح ضحيتها 10 أشخاص من بين 53 شابًا تناولوا مشروب "القوارص" في عرس بريف القصرين.

 

 

ورغم بيانات وزارة الصحة التونسية والجنوح الواضح إلى المعالجات الأمنية والقانونية إلا أن الشباب التونسي الباحث عن اللذة هروبًا من وضعه المأساوي أصبح يستخرج الكحول لوحده بعد تخمير نجارة الخشب، ومن ثمة استعمالها في صناعة المسكرات بعد إضافة مواد أخرى مخدرة وخلطها جميعًا بأحد أنواع العصائر المعلبة، ويسمى هذا المشروب في الأوساط الشبابية "البانتا".

 

  • "القيشم" بالجنوب التونسي 

أما في الجنوب التونسي، فهناك مشروب واحد منتج محليًا يُسمّى "القيشم"، وهو يُستَخرج من مشروب "اللاقمي" بعد تخميره وإضافة عدة مواد أخرى إليه.  

و"اللاقمي" هو مشروب يُستخرج من قلب النخلة أو ما يعرف بالجمّار ويتشكل بطيئًا في جوف الجذع ويشبه إلى حد كبير مشروب الأناناس وهو ذو مذاق لذيذ وغني بالمعادن والفيتامينات والسكريات سريعة الامتصاص. ويتوفّر بكثرة في واحات الصحراء الكبرى وخصوصًا بالجزائر وتونس وهو مثلًا لا يغيب عن موائد الإفطار والسحور في شهر رمضان الكريم لدى سكان تلك المناطق التي يتسم مناخها وطقسها بدرجات حرارة مرتفعة. 

في الجنوب التونسي هناك مشروب واحد منتج محليًا يُسمّى "القيشم" وهو يُستَخرج من مشروب "اللاقمي" يُستخرج من قلب النخلة أو ما يعرف بالجمّار بعد تخميره وإضافة عدة مواد أخرى إليه

وفي البلاد التونسية تتميز ولايات كل من قابس ومدنين وقفصة وقبلي وتوزر بإنتاج هذا المشروب بنسب وافرة نظرًا لوجود أغلب واحات وغابات النخيل، ومن ثمّة بيعه باردًا مثلجًا في محلات بيع المرطبات والمقاهي والنزل السياحية وأيضًا للعابرين في سياراتهم عبر مفترقات الطرق الرئيسية المؤدية إلى مختلف مدن وقرى الجنوب التونسي. ويسمي باعة هذا المشروب المنعش "اللاقميّة" وهي مهنة متوارثة منذ القدم عن الآباء والأجداد ومنه تستخرج بعض العائلات "خلّ النخيل" وهو للاستعمال المنزلي.

 

صورة
بيع "اللاقمي" (مشروب غير مسكر) الذي يُعدّ منه "القيشم" في شوارع قابس (مراد مجيّد/ أ.ف.ب)

 

وحدثنا الأزهر طابة وهو أستاذ تاريخ للتعليم الثانوي وباحث بالجامعة التونسية أصيل ولاية قابس ويقيم بها عن صناعة "القيشم" المسكر قائلًا إن هذه المادة تنتج منذ قرون في الجنوب التونسي والصحراء التونسية عمومًا، وهي تقليد قديم لم يتغير كثيرًا، لكنه يتنامى أحيانًا مع الأزمات المجتمعية.     

الباحث الأزهر طابة لـ"الترا تونس": صانع مشروب "القيشم" يقوم بعرض اللاقمي لساعات طويلة تحت أشعة الشمس وهناك من يضيف له نباتات صحراوية وآخر خضروات ولحوم حيوانات كالقطط والكلاب فيتغير لون المشروب ليصبح مائلًا إلى الصفرة وبطعم حامض

وأشار الأزهر طابة إلى أن "مشروب اللاقمي يمكن تحويله إلى مشروب مسكر بتخميره وفق أساليب تقليدية باستعمال الجرار وهو يسمي "اللاقمي الميت" أو "القيشم"، كما تنتشر تسميات أخرى بجهات تونسية بالجنوب أكثر محلية مثل "اللقوم" أو "السّحنتي" أو "الكلاو"، وفق قوله.

وحسب محدثنا فإن صانع مشروب "القيشم" يقوم بعرض اللاقمي الطبيعي لساعات طويلة تحت أشعة الشمس، مضيفًا أن كل "لقام" له الإضافات الخاصة به والتي تميز منتوجه، فثمة من يضيف نباتات صحراوية وثمة من يضيف خضروات ولحوم حيوانات كالقطط والكلاب، فيتغير لون المشروب ليصبح مائلًا إلى الصفرة وبطعم حامض جراء التخثر لساعات طويلة". 

وأوضح الأزهر طابة أن شباب الجنوب التونسي يميل إلى استعمال "القيشم" من أجل المتعة بدل وصفات أخرى أشد ضررًا.

إن ظاهرة إنتاج وتصنيع وترويج واستهلاك الخمور المعدة محليًا في تونس تعد هامشًا اجتماعيًا مسكوتًا عنه، وهي تقبر بالمعالجات الأمنية الصرفة وإلى حد اليوم لم يتم تناولها من زوايا أخرى رغم تعالي الأصوات المخالفة من ساحة المجتمع المدني التونسي والتي تنادي بالقيام مراجعات أخلاقية وقانونية وتجارية تهم بيع الخمور في تونس وتمكين الشباب من أسعار خاصة بدل الذهاب إلى الموت عبر استهلاك مواد مسكرة منتجة خارج الصيغ العلمية.