مقال رأي
كان لافتًا أن تتحفّظ تونس على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في دورة استثنائية طارئة الدّاعي إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة ومتواصلة تفضي إلى وقف لإطلاق النار". القرار الذي قدّمته المجموعة العربية نال موافقة ساحقة بأغلبية 120 دولة ورفض 14 دولة بينها الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة مع تحفّظ 45 بلدًا بينها تونس.
احتفاء حركة حماس بالقرار داعية إلى تنفيذه، أثار الارتياب حول الموقف الرسمي التونسي، ليس تشكيكًا في التزامه في إسناد المقاومة ومواجهة العدوّ الصهيوني، بل في مدى موازنته بين المصالح وبالتبعية نجاعته في ظل التوازنات الدولية-الأممية.
لا يُمكن فهم القرار التونسي، بداية، إلا باستعادة الموقف الرسمي من القضية الفلسطينية. يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول تاريخ بدء "طوفان الأقصى"، لم تقدّم رئاسة الجمهورية تفاعلًا دبلوماسيًا كلاسيكيًا على نحو المواقف المتتالية لدول المنطقة، بل أعلنت موقفًا تاريخيًا يعيد تأسيس الموقف الرسمي من القضية الفلسطينية بما يقطع مع الموقف التقليدي للدبلوماسية التونسية.
حق الشعب الفلسطيني في استرجاع كل أرض فلسطين، وبالتبعية الحق في المقاومة المشروعة. تاليًا، تجاوز رئيس الدولة قيس سعيّد الأرضية التي تبنّتها الدبلوماسية التونسية منذ عقود وهو الاعتراف بحق الكيان الصهيوني في الوجود ودعم خطة سلام منتهاها حلّ الدولتين في فلسطين التاريخية، وتأسيس دولة فلسطينية على حدود ما قبل حرب 67 عاصمتها القدس الشرقية. كنّا تناولنا في مقال سابق هذا الموقف، بيد أن السؤال الجوهري ظلّ في تنزيل هذا الموقف "الجديد" على الأرض ضمن ديناميكية الحركية الدبلوماسية العربية والدولية. وكان مشروع قرار الجمعية العامة أول اختبار.
تجاوز قيس سعيّد الأرضية التي تبنّتها الدبلوماسية التونسية منذ عقود وهو الاعتراف بحق الكيان في الوجود ودعم خطة سلام منتهاها حلّ الدولتين في فلسطين التاريخية
الدبلوماسية التونسية كانت مخيّرة بين موقفين من القرار الأممي. أولًا الدعم وهو المقدّم من المجموعة العربية وبما يطالب به من هدنة إنسانية تفضي إلى وقف لإطلاق النار لكن دون إدانة لجرائم الكيان ومع التأكيد على سقف حلّ الدولتين. وبالتالي، ستجد الدبلوماسية التونسية، التي قدّمت موقفًا "ثوريًا" على النحو السابق بيانه، لازالت تعمل تحت سقفها الكلاسيكي، وعمليًا سقف المجموعة العربية في نيويورك. وهو ما يعني، بالنسبة لسعيّد، أن موقفه سيُعتبر خطابيًا بحتًا لا مفاعيل تطبيقية له.
أما الموقف الثاني فهو التحفّظ على القرار باعتباره "دون المستوى" ببساطة. في هذا الجانب، أرجع المندوب الدائم لتونس لدى الأمم المتحدة طارق الأدب التحفظ إلى إغفال القرار لـ"الإدانة الصريحة والقوية لجرائم الحرب والإبادة الجماعية"، وعدم المطالبة بمحاسبة الكيان الصهيوني دونًا عن "مساواته بين الضحية والجلاد". بهذا المعنى، كان تحفّظ تونس متناسقًا مع الموقف الرسمي. اختار سعيّد تأكيد موقفه الجديد المتخالف عن النظام الرسمي العربي، وفرض التناسق الرسمي بين الخطاب والفعل دون أي اعتبار لأي حسابات أو تسابق الأولويات. سعي مطلق لتأكيد المبدئية على حساب المصلحية أي المنافع المنجرّة من القرار الأممي.
الدبلوماسية التونسية كانت مخيّرة بين موقفين، إما الدعم وتجد نفسها تعمل تحت سقفها الكلاسيكي وهو ما يعني، بالنسبة لسعيّد، أن موقفه سيُعتبر خطابيًا بحتًا لا مفاعيل تطبيقية له أما الموقف الثاني فهو التحفّظ على القرار باعتباره "دون المستوى"
التحفظ التونسي ليس أول تطبيق عملي للدبلوماسية التونسية على أساس الموقف الجديد/التاريخي لرئيس الدولة من القضية الفلسطينية. فقبلها بأيام، طلب قيس سعيّد من وزير الخارجية تسجيل تحفّظ تونس "جملة وتفصيلًا" على نص القرار الصادر عن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية بالتأكيد على "حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلّة على كلّ أرض فلسطين".
ولاحقًا، وبطلب من سعيّد، استقبل وزير الخارجية سفراء الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن لتحميلهم رسالة إلى عواصمهم بخصوص الموقف التونسي. من الواضح أن مصلًا جديدًا جاري حقنه في جهاز الدبلوماسية التونسية الذي طالما عمل لعقود تحت سقف موقف النظام الرسمي العربي.
بات يصعب راهنًا التمييز بين مواقف الدبلوماسية التونسية ومواقف دول ما يُسمى "محور المقاومة". وللإشارة هنا، تحفّظ العراق بدوره على قرار الجمعية العامة لأنه يتبنى حل الدولتين ويدين المقاومة الفلسطينية، وإن لم توجد إدانة صريحة ومباشرة واقعًا لأي طرف. بيد أن إيران دعمته.
القرار واقعًا تضمّن اختراقات لافتة بداية بعنوانه "الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وحديثه عن "تصعيد للعنف إثر الهجوم المنفذ يوم 7 أكتوبر" مع إدانته لجميع أعمال العنف ضد المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين "بما في ذلك كافة أعمال الإرهاب".
القرار واقعًا تضمّن اختراقات لافتة بداية بعنوانه "الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وحديثه عن "تصعيد للعنف إثر الهجوم المنفذ يوم 7 أكتوبر"
إن لم تتوجه إدانة صريحة لدولة الكيان، لم يتضمن أيضًا إدانة موجهة للمقاومة الفلسطينية وتحديدًا حماس التي تتالى الاتهامات الموجهة من العواصم الغربية بأنها حركة إرهابية. كما تفادى القرار وصف "الهجوم المنفذ" يوم 7 أكتوبر بأنه "إرهابي".
إضافة لذلك، وعدا التأكيد على ضرورة احترام القانون الإنساني الدولي، تضمن القرار تشديدًا على ضرورة المساءلة وأهمية القيام بتحقيقات مستقلة، والمعلوم أن دولة الكيان طالما عملت على إجهاض أي محاولات لمساءلتها ومقاضاة مسؤوليها.
وانتهى القرار لجملة قراراتها أهمها هدنة إنسانية تفضي إلى وقف للأعمال العدائية، وهو ما يرفضه الكيان الذي يؤسس باسم حق الدفاع لارتكاب جرائمه نازعًا حق الفلسطينيين في المقاومة والدفاع عن أنفسهم أيضًا.
وقد استعملت الولايات المتحدة الفيتو لأكثر من مرة في مجلس الأمن لإسقاط قرارات تدعو لوقف إطلاق النار. يعدّ قرار الجمعية العامة بذلك اختراقًا داخل المنتظم الأممي، وليس الاطلاع على خريطة الأصوات إلا بمؤكد: رفض الكيان والولايات المتحدة والدول الجزر الأمريكية للقرار ودعم أكثر من ثلثي دول العالم للقرار، الذي احتفت به حركة حماس التي يقود أبنائها معركة "طوفان الأقصى" على الأرض.
يعدّ قرار الجمعية العامة اختراقًا داخل المنتظم الأممي، وليس الاطلاع على خريطة الأصوات إلا بمؤكد: رفض الكيان والولايات المتحدة للقرار ودعم أكثر من ثلثي دول العالم للقرار، الذي احتفت به حركة حماس أيضًا
تُطرح تباعًا معضلة المبدئية والنجاعة في قراءة التحفظ التونسي. فلا شكّ أن هذا التحفظ هو متناسق مع الموقف الجديد/الثوري للدبلوماسية التونسية ولكنه يتجاوز سقف الممكن على الأقل داخل الأمم المتحدة.
مسار إعداد مشاريع القرارات الأممية يخضع لاعتبارات معقدة في سياق تحشيد موافقة الدول الأعضاء التي تتباين طبيعة مواقفها ودرجتها، بما يقتضي العمل على تأمين الحد التوافقي الذي يراعي كل هذه التوازنات. لا يُنتظر مثلًا أن يمرّ قرار أممي يتضمن إدانة صريحة وواضحة للكيان الصهيوني، أو دعوة مباشرة لمحاسبة قياداته السياسية والعسكرية، وطبعًا لا يُنتظر أن يتجاوز القرار المقررات الأممية حول القضية الفلسطينية ورأسًا دعم حل الدولتين.
تُطرح هنا معضلة المبدئية والنجاعة في قراءة التحفظ التونسي. فلا شكّ أن هذا التحفظ هو متناسق مع الموقف الجديد للدبلوماسية التونسية ولكنه يتجاوز سقف الممكن على الأقل داخل الأمم المتحدة
القرار الأممي الذي يستلزم موافقة دول لا يمكن أن يتطابق جملة وتفصيلًا مع موقف دولة ما. القرار الأممي المذكور كان نتيجة مقبولة في نهاية المطاف في ظل انحياز الدول الكبرى للكيان الصهيوني من زاويتين اثنتين: عدم وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب والدعوة لهدنة تنتهي بوقف إطلاق النار مع اعتماد عبارات عامة وغير منحازة على نحو الصيغة المستعملة في جلّ القرارات الأممية.
مجددًا، احتفاء حماس بالقرار الأممي يعكس حقيقته كمكسب دبلوماسي في الوقت الراهن. لازالت ستتالى الاختبارات أمام سعيّد، وهو المطالب بتنزيل الموقف الحاسم إسنادًا لحقوق الشعب الفلسطيني أخذًا بعين الاعتبار التوازنات الإقليمية والدولية لتحقيق أقصى ما يمكن من اختراقات مفيدة.
احتفاء حماس بالقرار الأممي يعكس حقيقته كمكسب دبلوماسي في الوقت الراهن. لازالت ستتالى الاختبارات أمام سعيّد، وهو المطالب بتنزيل الموقف الحاسم إسنادًا لحقوق الشعب الفلسطيني أخذًا بعين الاعتبار التوازنات الإقليمية والدولية
وهذا الدرس تعلمه المقاومة الفلسطينية وحلفائها في المنطقة منذ عقود. التناسق والمبدئية لا يجب أن يتعارضا مع الواقعية والنجاعة. ولكن ربّما أن الإفادة الحاصلة هو أن التحفظ مثّل فرصة لإعلان تونس سقفها الجديد أمام مرأى العالم.
وربّما كانت الرسالة بالتبعية أن استمرار المظلمة الفلسطينية وإمعان المحتلّ في جرائمه كما لم يمنع بعض الدول العربية من الانخراط في التطبيع المخزي دون ربطه بحلّ القضية، فهو أيضًا جعل دولة عربية طالما تمسّكت تاريخيًا بالمقررات الأممية لأن تثور الآن عنها وتدعم حق الشعب الفلسطيني في استرجاع كل أرضه المحتلة وترفع الصوت عاليًا لمساءلة المحتل المجرّم. ربّما التحفظ كان مفيدًا من هذه الزاوية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"