23-يونيو-2016

يجد أبناء الريف التونسي صعوبات للتنقل إلى المدارس والمعاهد(Getty)

أكّد تفاوت نسب النجاح في شهادة البكالوريا بين المحافظات في تونس حجم انعكاسات التمييز السّلبي، الذي عانت منه المناطق الداخلية طيلة نصف قرن وتحديدًا فيما يتعلّق بجودة التعليم. فبينما هيمنت المحافظات الساحلية على المراتب الخمس الأولى في نسب النجاح، محافظات صفاقس، وأريانة، والمهدية والمنستير وسوسة، بمعدّل نجاح يتراوح بين 45 و55% من جملة التلاميذ المتقدمين للمناظرة الوطنية، فقد جاءت خمس محافظات داخلية هي (سيدي بوزيد وتوزر وقبلي وقفصة والقصرين) في أسفل الترتيب بمعدّل نجاح لا يتجاوز 27%. كما بيّن التّحليل الإحصائي وجود علاقة عضوية مباشرة بين نسب الفقر ونسب النجاح، فكلّما ارتفعت نسبة الفقر في محافظة انخفضت نسبة النجاح والعكس صحيح.

أكد تفاوت نسب النجاح في شهادة البكالوريا بين المحافظات في تونس حجم التمييز السلبي، الذي عانت منه المناطق الداخلية طيلة نصف قرن

ولم يكن من قبيل الصّدفة أن تتخلّف المحافظات الداخلية في هذا الترتيب، وهي المحافظات التي عرفت تهميشًا ممنهجًا طيلة عقود ما جعلها بؤر بؤس اجتماعي، تعكس تدني المستوى المعيشي وارتفاع نسبة الفقر والبطالة وهو ما جعل شرارة الثورة تنطلق من مدنها رفضًا لهذا التهميش والإقصاء.

اقرأ/ي أيضًا: مطبّات العودة الجامعية في تونس

وقد مثل تردّي قطاع التعليم أحد مظاهر الحيف الذي لحق المناطق "غير المحظوظة" بالخصوص ما يتعلّق بالبنية التحتية حيث من شواهده التقليدية دائمًا بُعد المسافة عن المدرسة إذ يقطع التلميذ كيلومترات طويلة بين المسالك الوعرة للوصول إلى المدرسة، وإن كان محظوظًا، يجد سيارة "نقل ريفي" لا تتوفّر على مستلزمات النّقل الآمن عادة.

كما يشكو التلاميذ المقيمون في المبيتات المدرسية، بهذه المناطق الداخلية، من غياب أبسط شروط الإقامة أحيانًا خاصة ما يتعلّق بالأكل. وقد تعرّض قبل أشهر زهاء ثلاثين تلميذًا لتسمّم غذائي بمبيت مدرسي بمحافظة جندوبة، شمال غرب تونس. وقد كشفت زيارة فجئية قام بها وزير التربية ناجي جلول للمبيت والمدرسة الوضعية المزرية لهما ما جعله يصرّح أنه "لو كان أستاذًا لرفض التدريس بسبب تردي ظروف دراسة التلاميذ". وكان الوزير قد دعا في وقت سابق لاكتتاب وطني لترميم المدارس وصيانتها. وتكشف الأرقام، في جانب آخر، أن عدد المنقطعين عن الدراسة بصفة مبكرة يبلغ سنويًا 100 ألف تلميذ، ينتمي جلّهم للمناطق الريفية وبالخصوص المناطق الداخلية المهمّشة.

اقرأ/ي أيضًا: في محدودية التكوين في كليات الحقوق بتونس

كما تعاني المدارس في الجهات الداخلية من قلة عدد المدرّسين وهو ما أثر على جودة التعليم بصفة تراكمية. ولذلك لم يكن مفاجئًا الضعف الفادح لنسب النجاح في شهادة البكالوريا في هذه الجهات. وقد أكّدت وزارة التربية في بداية السنة الدراسية الحالية أن ما يزيد عن 2000 مدرّس يعملون في المدن الساحلية يرفضون العمل في المناطق الداخلية رغم الشغورات المسجّلة بها.

يفضّل الأساتذة التدريس بالعاصمة أو المناطق الساحلية بعيدًا عن المناطق الداخلية وأريافها. وأمام معضلة ضعف عدد الأساتذة إضافة إلى تردّي البنية التحتية، ينتشر في هذه المناطق نظام التدريس الثنائي أي تدريس تلاميذ من مستويين مختلفين بصفة مشتركة في نفس القاعة، وهو نظام لا يوفّر المقومات البيداغوجية للعملية التعليمية.

تكشف الأرقام أن عدد المنقطعين عن الدراسة بصفة مبكرة يبلغ سنويًا 100 ألف تلميذ في تونس، ينتمي جلّهم للمناطق الداخلية المهمّشة

وتشدّد الحكومات، التي تشكلّت بعد الثورة، على سعيها لتطوير القطاعات الأساسية في هذه المناطق الداخلية وذلك بهدف تقريبها على الأقل من المستوى العامّ في البلاد. حيث إضافة للقطاع التعليمي، يعاني قطاع الصحّة بدوره أوضاعًا مترديّة عكسها كذلك ضعف المؤشرات بهذه المناطق مقارنة ببقية مناطق البلاد.

وتأكيدًا لأهمية تجاوز آثار التهميش الذي لحق هذه المناطق، فقد نصّ الدستور على مبدأ التمييز الإيجابي لفائدتها وذلك بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات. وفي نفس الإطار، اعتبر قانون العدالة الانتقالية أن مصطلح الضحيّة لا يتعلّق فقط بالأفراد بل يشمل كذلك "كلّ منطقة تعرّضت للتّهميش والإقصاء الممنهج".

لقد كشف التوزيع الجغرافي لنسب النجاح في شهادة البكالوريا العلاقة الطردية بين تحقيق النجاح الدراسي وارتفاع المؤشرات المعيشية، ليمثّل تأكيدًا جديدًا أن جودة التعليم تظلّ مشروطة بتوفير مقوّماتها على غرار البنية التحتية والإطار التعليمي الكفء. وعليه، يبدو أن تلاميذ المناطق الداخلية في تونس هم في الأصل ضحايا لسياسات اجتماعية واقتصادية طيلة عقود، بالتالي حضورهم شاسع في حقل التخلف والتهميش التعليمي.

اقرأ/ي أيضًا: 

"دوّار السلاطنيّة".. حياة في قفص الموت

القصرين.. جرح الثورة الغائر