إنه أحد المنتجين التونسيين الذين مازالوا يصرون على أن العمل الثقافي لا يمكن أن يتحول إلى تجاري ويعتبر أن هناك "سياسة ممنهجة لضرب الثقافة التونسية والذائقة من خلال عصابات إعلامية خاصة".
هو المنتج التونسي عبد الكريم الباسطي الذي من أبرز أعماله: عرض "ملحمة الدغباجي" و"الزردة" وعرض "تاريخهن"، و"زبرجد"."الترا تونس" التقت الباسطي وكان الحوار التالي:
- ما تعليقكم على الحادثة التي هزت الساحة الثقافية والمتعلقة بعرض الممثل لطفي العبدلي في صفاقس وانسحاب الأمن من تأمينه؟
الأمر شائك ودقيق جدًا، لكنني أرى أن للمسرح حرمته وقدسيته ولا أقبل أن يتعدى أيٌّ كان على الركح، لكن الحرية المطلقة تفرض على الفنان أن يتحمل مسؤولية حريته.
وفي المقابل، بلا أمن لا يمكن أن نعيش ونتحول إلى غابة. أنا مع نقد المؤسسة الأمنية، لكن بأسلوب فني إبداعي راقٍ، حتى الأمني يتفاعل معها ألم ينقد المسرحي الكبير توفيق الجبالي المؤسسة الأمنية؟ نقدها لكن بأسلوب فني ذكي إبداعي ساخر.
عبد الكريم الباسطي: للمسرح حرمته وقدسيته ولا أقبل أن يتعدى أيٌّ كان على الركح، لكن الحرية المطلقة تفرض على الفنان أن يتحمل مسؤولية حريته، وما قام به العبدلي لا يندرج في إطار العمل المسرحي الإبداعي بتاتًا
أما ما فعله لطفي العبدلي ليس نقدًا فنيًا وإنما إشارة لا أخلاقية بإصبعه في وجه الأمنيين وهو ما أعتبره ابتذالًا واستفزازًا وقلة حياء، ولا يندرج في إطار العمل المسرحي الإبداعي بتاتًا.
كما أنني لا أعتبر أن ما يقدمه من كلام سوقي بذيء فنًا وعملًا مسرحيًا وإنما نوع من التهريج.
- لكن العبدلي يقدم أعمالًا كغيره من الفنانين وتمت برمجة عروضه في المهرجانات وأعماله تعرض على لجان مختصة وهو نجم جماهيري، أليس من الإجحاف اعتبار أن أعماله لا علاقة لها بالإبداع؟
الأعمال المباشراتية في تقييم الواقع هي سلاح ذو حدين، فإما أن تكون فنانًا بخلفيات وأدوات فنية حقيقية فتنجح في تقديم عمل مباشراتي وهنيئًا لك ذلك، أما إذا كنت أحد الذين جمعتهم عصابات تلفزية خاصة في فترة ما وجعلوا منهم نجومًا فهذا أمر آخر.
لقد تم ضرب الثقافة من خلال هذه العصابات التي صنعت نجوم "العهر الثقافي والإعلامي" وتقديم "النكرات" في صورة استهلاكية تمس من قيمة المرأة التونسية وتضرب الفن في مقتل.
وهنا أود أن أقول إن لطفي العبدلي الذي كان مع الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ليس هو لطفي عبدلي الحالي فقد كان محاطًا بمبدعين ومثقفين ثم تغيّر وأصبح من غير الممكن مشاهدته على الركح. كفانا نفاقًا وتزلفًا، فهذه هي الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، والتضامن في المجال الفني لا يمكن أن يكون على حساب جودة وعمق الأعمال المقدمة.
عبد الكريم الباسطي: الديمقراطية لا تعني التهريج والابتذال والتمييع، بل هي تفتح للفنان المجال للنقد والتعبير، لكن ليس بالإشارات اللاأخلاقية
الديمقراطية لا تعني التهريج والابتذال والتمييع، بل هي تفتح للفنان المجال للنقد والتعبير، لكن ليس بالإشارات اللاأخلاقية وبالكلام البذيء وبالملابس الداخلية.
- الثقافة التي استثمرت فيها كمنتج تونسي على مدى سنوات، قدمت فيها عدة أعمال. هل وصلت للجمهور وحققت النجاح؟
الخصخصة في المجال الثقافي في تونس توجه صعب جدًا خصوصًا إذا كنت لا تبحث عن الثقافة التجارية، فهذه الأخيرة سهلة؛ يكفي أن يصعد شخص على الركح ويقول نصًا يتضمن كلامًا بذيئًا وبعض تعليقات فيسبوك حتى يخلق "البوز" ويملأ المسرح ويحقق أرباحًا.
لكن إذا ما تحدثنا عن الإنتاج الثقافي وهو عالم شاسع ودقيق فيه أدوات ومنهجية وأهداف، وهو أمر صعب جدًا تحقيقه، فدور العمل الإبداعي شد انتباه الجمهور والارتقاء به وجعله يستكشف عوالم أخرى.
عبد الكريم الباسطي: المهرجانات التي تعتبر "كبيرة" أصبح مسيروها يبحثون عن العروض التجارية التي تملأ المدارج والخزينة دون تقييم لما سيتم عرضه
لهذا فإن الذين يقدمون على هذا المجال يكونون مولعين مفتونين به فلا يكفي أن تكون منتجًا بل يجب أن تكون مغرمًا بالثقافة والفنون.
بالنسبة لي، أنا مغرم بالفنون والثقافة منذ نعومة أظافري، أنجح أحيانًا وأخسر في أحيان أخرى. المنتج يجد نفسه إما أمام الجمعيات المنظمة للمهرجانات التي تمثل ملفًا معقدًا وشائكًا أو وزارة الثقافة التونسية التي تقدم الدعم. بالنسبة لي أنا، فإني أنتج أعمالي بمالي الخاص من الألف إلى الياء، وأعمل سنة كاملة حالمًا بعرضها وأقدمها للوزارة من أجل الترويج لها، فأجد أعمالي مبرمجة في عرضٍ أو عرضين يتيمين.
كما أن المهرجانات التي تعتبر "كبيرة" فقد أصبح مسيروها يبحثون عن العروض التجارية التي تملأ المدارج والخزينة دون بحث ولا تفكير ولا تقييم لما سيتم عرضه.
وفي هذا السياق، أطالب وزارة الثقافة التي فيها مئات المسؤولين والإداريين أن تنظم مهرجانًا ثقافيًا لأن وجودها كمؤسسة ثقافيٌ، وعليها أن تقتني أعمال المنتجين بالتوازي مع الأعمال التجاري حتى لا يظلم المثقفون والمبدعون سواء المنتجين أو الفنانين، كما أن جزءًا هامًا من الجمهور متعطش للأعمال الراقية الإبداعية.
- أنتجتم عرض "تاريخهن" وهو بحث في أعلام النساء اللاتي تميزن في تاريخ تونس لكن لم نر هذا العمل في المهرجانات. ما السبب؟
هذا العمل قمت بإنتاجه دفاعًا عن المرأة التونسية التي يتم تقزيم صورتها من خلال ظهورها سواء في وسائل الإعلام أو الأعمال التلفزية. وأردت أن أذكر بأن تونس رائدة في العالم كله على مدى التاريخ وقد قمنا ببحث معمق، وقد كتب النص الشاعر الشاذلي القرواشي، ووضعنا العمل في إطار أوبيرالي موسيقي راقٍ وقدمته لمهرجان قرطاج الدولي، لكنه وُضع في الدرج وقُبر علمًا وأن هناك عروضًا أخرى تمت برمجتها لم يقبل عليها سوى العشرات.
عبد الكريم الباسطي: قدمت عرض "تاريخهن" الذي تناولنا فيه تاريخ المرأة التونسية بعيدًا عن تقزيم صورتها لكنه وُضع في الدرج وقُبر، بينما تقتصر العروض التي تتحدث عن المرأة عن نفس المواضيع الجريئة
أتساءل لماذا لم تتم برمجة هذا العمل يوم 13 أوت/أغسطس بمناسبة عيد المرأة في تونس؟ لماذا تقتصر العروض التي تتحدث عن المرأة على مسرحيات تكرر نفس المواضيع التي تعتبر مسكوتًا عنها أو جريئة؟ لماذا لا تبرمج الأعمال والعروض الموسيقية والشعرية التي تتناول تاريخ المرأة التونسية من زاوية أخرى؟
- "زبرجد "عرض صوفي قمتم أيضًا بإنتاجه وتمت برمجته في مهرجان سوسة الدولي، ألا تبدو العروض الصوفية مكررة وسط تنامي عددها؟
فعلًا "زبرجد" عمل صوفي قديم جديد وإذا تأملنا العروض الصوفية وهي كثيرة فإن جميعها مكررة سواء من ناحية الأغاني أو الإيقاع أو العرض الفرجوي، وهناك بعض الجمل يغيرونها من أجل الرقص جاعلين الأغنية تفقد معناها.
هي عروض بسيطة تقوم على البخور والرقص ولا علاقة لها بالفن الصوفي الذي لا بدّ أن يقدم بالشكل الصحيح ليُمتّع الأذن ويُبكي العين ويُرقص في مرحلة أخرى.
البعد الروحاني غاب عن الأعمال الصوفية، وهناك إجرام في حق هذا النوع الموسيقي، فالذين يعتقدون العمل الصوفي الناجح هو الذي تكتظ فيه المهرجانات بأناس ترقص وسط البخور والإضاءة مخطئون، لأن هذا المشهد يؤكد أن العرض فاشل جدًا.