06-يونيو-2018

حينها فقط أدركت أنني في عداد الموتى رغم أن روحي تأبى أن تغادر هذا العالم باكرًا

لا أخفيكم سرًا لم أتمكن ليلة أمس من النوم سوى لدقائق معدودات، فقد تملكني التوتر لدرجة أني أمضيت ساعات مستلقيًا أنظر إلى سقف غرفتي وأردد سرًا ما حفظته من دروس مادة الفلسفة إلى أن رن جرس المنبه مشيرًا إلى بزوغ شمس الأربعاء.

نهضت من فراشي الذي احتضنني وكراساتي وكتبي لأسابيع طوال حاولت خلالها، في سباق مع الزمن، قدر الإمكان تدارك ما فاتني.

الحقيقة لست بطالب مجتهد، فالمقاعد الأولى من فصول معهدي لم تكن المحبذة بالنسبة لي، ولا تلك المقاعد الأخيرة أيضًا. ولعلكم فهمتم الآن بأني شاب "وسطي" على هوى الدولة، فلا أنا من أصحاب النظارات والضالعين في القانون، أولئك الذين إذا ما استوقفهم شرطي لا ترتجف أقدامهم ولا تتسارع دقات قلوبهم، بل يحاورونه بكل جرأة متسلحين بقوانين وحقوق دستورية.

ولست من الذين يسيرون على خطى "علي شورب" ممن تمكنهم عضلاتهم المفتولة من استبدال القوانين والتخلي عنها فتراهم يفتكون حقوقهم بقوة الذراع وبمساعدة أصحابهم، "الحنش" و"الباندي" و"كحلة".. وإذا ما استوقفهم شرطي ونظر في ملامحهم التي تنم عن بطش واستمع إلى نبرات أصواتهم التي تدل على ثقة، فسح لهم الطريق خوفًا من جبروتهم، فهو يعلم جيدًا بأن التهديد بالسجن لن يؤرق مضاجعهم.

الحقيقة لست بطالب مجتهد فالمقاعد الأولى من فصول معهدي لم تكن المحبذة بالنسبة لي ولا تلك المقاعد الأخيرة أيضًا ولعلكم فهمتم الآن أنني شاب "وسطي" على هوى الدولة

المهم، نهضت من فراشي، وبعد أن انتهيت من تحضير الأقلام والأوراق غادرت غرفتي مبتسمًا وقد ظننت بأني سأجد أمي كما كل مرة في انتظاري لتحمل عني كما فعلت دائمًا حمل الهم والكظم، إلا أنها لم تستقبلني، ولم تكن في المطبخ ولا في غرفة الجلوس.

تحولتُ إلى غرفتها، فأنا اليوم في أمس الحاجة إلى كلمات منها تشرح قلبي الصغير، فإذ بها تتخذ ركنًا وملامح الحزن بادية على محياها. فكرتُ، لربما الخوف قد فعل بها أكثر مما فعله بي. لا بد من أنه خطئي كالعادة، فهي على يقين بأن فرصة نجاحي في دورة الباكالوريا لهذه السنة منعدمة خاصة وأني أمضيت السنة الدراسية بين اللعب واللهو.

وبما أنها لم تنتبه لوجودي أصلًا تفاديت إزعاجها وغادرت ولسان حاليَ يقول إنيَّ سأدخل حتمًا الفرحة على قلبها وأمسح الكمد عن وجهها الجميل، سأجتاز الامتحانات بنجاح وسأختار جامعة محترمة وأصير بعد ذلك من المفلحين.

ففي حينا الفقير كان جل من يكبرونني سنًا مثلي، مستهترين، يمضون أيامهم بين المقهى والحانة والأزقة الضيقة يقامرون.. ولكنهم اليوم مسؤولون، منهم من ظفر بفرصة عمل بـ"بلاد الحق"، وبلاد الحق اسم مستعار نستخدمه هنا للحديث عن بلدان العالم المتقدم. ومنهم من تزوج وكوّن عائلة وهاهو اليوم يحمل أكياسًا مليئة بالخضار والغلال كلما عاد مساء من الدوام.

في حينا الفقير كان جل من يكبرونني سنًا مثلي مستهترين يمضون أيامهم بين المقهى والحانة والأزقة الضيقة يقامرون

سأتزوج مثلهم! حتمًا ستقع إحدى فتيات الجامعة في حبي، ستنتظرني إلى أن أحوز مكانًا لي في مكاتب تلك البنايات البلّوريّة لنجتمع بعد ذلك في بيت واحد صغير، أو ربما سنتقاسم المنزل مع أهلي، أعلم أن الأمر سيكون صعبًا في البداية، ولكن الله مع الصابرين وفي كل الأحوال سيسعد الجميع عندما نملأ أرجاء البيت أطفالًا!

لم أحدد بعد عدد الأبناء الذي أريده فلم أكن يومًا ممن يخططون للمستقبل البعيد، ولكنيَّ عاقدٌ العزم على تربيتهم تربية جيدة.. لن يكونوا مثلي ولن يرتكبوا أخطائيَ وسيكونوا من الصالحين.

غادرت المنزل بعد أن انتظرت دون جدوى أن يناديَ عليَّ أقرانيَ لنذهب إلى المعهد سويًا كما جرت العادة. وحال وصولي وجدت التلاميذ يققون مجموعات مجموعات، ومع اقترابيَ من أصدقائي سمعت أحدهم يقول بصوت متقطع "ليت عمر معنا". ابتسمت وربّتُ على كتفه وقلت "ها أنا هنا". لكن، ما من أحد التفت إلي! ضحكت! "أ لهذه الدرجة أنتم مذعورون؟ لا تقلقوا سننجح جميعًا".

فجأة صاح فينا القيم العام أن ادخلوا إلى قاعاتكم فقد حان وقت الامتحان.

وجدتني أركض بلا تفكير حتى وصلت إلى الوادي المحاذي لـ"درة المتوسط".. وإذ بطفل يشبهني يتخبط وسط المياه ويرفع يده طلبًا للمساعدة

جلستُ وكان المراقبون يوزعون أوراق الاختبارات وما إن وصل أحدهم إليّ حتى مددت يدي فإذ به يمرّ وكأن المقعد خالٍ! ناديته وما هو بمجيب. عندها وقفت ورحت أتنقل بين الصفوف أصرخ في الجميع "ما لكم تتصرفون اليوم بغرابة؟ لقد زاد الأمر عن حدّه!".

لكن صمتهم تواصل وتواصل معه تسلّل الرعب إلى فؤادي.. رعب شبيه بذلك الذي أحسست به عندما حاصرنا رجال الأمن من كل جانب بملعب رادس.. مهلُا! الملعب الأولمبي برادس! كان ذلك آخر مكان ذهبت إليه قبل أن أعتكف بغرفتي للمراجعة! الجميع يعاملونني بغرابة منذ ذلك اليوم!

غادرت المعهد مسرعًا وقد سالت دموع الخوف والغضب من عينيّ، ووجدتني أركض بلا تفكير حتى وصلت إلى الوادي المحاذي لـ"درة المتوسط" كما كان يلقب سابقًا، وإذ بطفل يشبهني يتخبط وسط المياه ويرفع يده طلبًا للمساعدة وعدد من أصحاب العصي يراقبونه في ذعر بعد أن تفطنوا إلى فداحة ما اقترفوه من ظلم وعدوان ليهرولوا بعيدًا تاركين الفتى يواجه الغرق بمفرده.

مددت يدي محاولُا إنقاذه ولكنه لم يستجب وقد واصلت مياه الوادي جرّه إلى مكان بعيد. لم أشأ أن أتركه وحيدًا وكنت أجري للحاق به حتى بلغت الضفة الأخرى من المكان فإذا به جثة هامدة. ولم تمر ساعات حتى اجتمع الأهالي من حوله وأولهم والديّ.. يبكيان عمرًا الذي لقي حتفه بعد انتهاء مباراة كرة قدم!

حينها فقط أدركت أنني في عداد الموتى رغم أن روحي تأبى أن تغادر هذا العالم باكرًا..

 

اقرأ/ي أيضًا:

"دخلات باك 2018" بإمضاء عمر العبيدي

"تعلم عوم".. شاهد جديد على عنف قوات الأمن في تونس