الباحثون عن الماضي تنقذهم الذاكرة وترشدهم إلى الأوّلين، عبر تلك الأشياء القديمة التي كانوا يستعملونها في حياتهم اليومية والمهنية والاقتصادية. لا يكفي أن نكتشف حياة الأجداد من خلال الذاكرة الشفوية أو التاريخ اللامادي بل إن إبريقهم قد يدلك على طريقة الشرب وأوانيهم قد تقودك إلى طريقة أكلهم، والغليون قد تعبق منه رائحة تبغهم والصورة الحائطية قد تسافر من خلالها في محيطهم الطبيعي الذي لم توثقه صورة شمسية، وتلك الآلة التي استعملوها قبل مائة سنة قد ترشدك إلى عبقريتهم في الإنتاج و التصنيع، كل هذه الآلات أو بعضها قد يذهب به الزمن وتهلكه الحضارة وتأكله النار أو يدفن في طي النسيان.
العديد من العائلات تحتفظ بالذاكرة العائلية من خلال مقتنياتها القديمة في حين يفرط الأبناء والأحفاد فيها دون إعطاء قيمة حقيقية لذلك الموروث، لكن الكثيرين يتعهدون بجمع تلك المقتنيات من أهلها بأرخص الأثمان ويحيون فيها الماضي والذاكرة
كنت في صغري أهتم بالأشياء القديمة التي لا يزال الغبار يكسوها في بيت جدي القديم، كنت أرى مذياعًا قديمًا ضخمًا في الزاوية وساعات قديمة مرصعة بالفضة تشدّ بسلسلة إلى الملابس وإذا نظرت إلى الميقات رفعت الغطاء الدائري المنحوت.
كانت بعض الأشياء النادرة تأخذني إلى عبق التاريخ الذي كان يملأ الدار حياة كمثل تلك الصورة للمرأة التي علقت في البيت وكان يروى عنها أنها "الجازية الهلالية"، تلك المرأة العربية الأصيلة ذات الجمال الأخاذ والمحلاة بالحليّ على الصدر والغطاء الرأسي الذي يأسر سحر الوجه ويزيد من نظارته الطبيعية.
كانت العديد من العائلات والأسر تحتفظ بالذاكرة العائلية من خلال مقتنياتها القديمة في حين يفرط الأبناء والأحفاد في تلك الأشياء إما بالإتلاف أو البيع دون تقييم حقيقي لقيمة ذلك الموروث المادي الثمين، لكن الكثيرين يتعهدون بجمع تلك المقتنيات من أهلها بأرخص الأثمان ويعتنون بها كالوليد ويحيون فيها الماضي والذاكرة.
في بيت صالح مريزق، تطالعك صور زيتية يشتد لمعانها تحت ضوء خافت أصفر اللون، وأباريق نحاسية وفضية أنيقة كانت تسقي علية القوم في بيوت أثرياء فرنسا قبل 100 سنة، وترى آلة صغيرة للبث السينمائي من منتصف القرن الماضي
صالح مريزق، أحد المغرمين بجمع هذه المقتنيات القديمة، لا يزال منذ 20 سنة يجمع العديد من التحف "الأنتيكا" في بيته ودفعه العشق إلى الأشياء القديمة والحنين إلى تراث الأجداد وأشيائهم في حين وسّع ثقافته لتشمل أشياء قديمة أوروبية الصنع فقدت قيمتها بين أهلها وضاقت بها بيوت أهلها فتخلوا عنها بالإتلاف دون أي اعتبار لقيمتها.
في بيت صالح مريزق، تطالعك صور زيتية نباتية يشتد لمعانها تحت ضوء خافت أصفر اللون، وأباريق نحاسية وفضية أنيقة كانت تسقي علية القوم في بيوت أثرياء فرنسا قبل 100 سنة. وهناك ترى آلة صغيرة للبث السينمائي من منتصف القرن الماضي، إلى جانبها آلة كاتبة لعلها كانت تستعمل في العمل الصحفي لرقن مقال أو تحرير بحث أمني لدى مركز شرطة، وآلات تصوير عتيقة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر في عطالة عن العمل بعد أن وثقت ما تيسر لصاحبها من صور عائلية فكانت عدساتها شاهدًا على التاريخ.
أشياء كثيرة متناثرة هنا وهناك من بينها خزفيات إيطالية ويونانية أصيلة يعود جلها إلى التاريخ الحديث وغير مشمولة بالمنع أو عدم التداول، إنها العنقود الأخير في هذا العصر.
صالح مريزق لـ"الترا تونس": كنت أستغل أوقات فراغي في ارتياد الأسواق واقتناء أشياء قديمة تروقني، فمرّة أصيب ومرات أخطئ الاختيار، وبذلك تعلمت على مدى 20 سنة القيمة الحقيقية لـ"الأنتيكا"
كنت أجول بين هذه الأشياء القديمة وقد شدتني إليها دقة الصنع وأصالة التاريخ. حدثنا جامع "الأنتيكا" صالح مريزق عن غرامه وهوايته المفضلة قائلًا: "كان لديّ متسع من الوقت فكنت أستغل ذاك الفراغ في ارتياد الأسواق وأقتني أشياء قديمة تعجبني، فمرّة أصيب ومرات أخطئ الاختيار فتعلمت على مدى 20 سنة القيمة الحقيقية للأشياء القديمة، وأعانني في ذلك بعض الأصدقاء بخبرتهم في المجال، كان الهوس شديدًا بجمع الأثاث والديكور وأشياء صغيرة تعرض في البيوت والصالات وتعلق على الجدران وتزين الأدراج والخزائن.
بمرور الزمن تكونت لدى صالح مجموعة محترمة من المقتنيات المنزلية القديمة والآلات العتيقة حتى بدت وكأنها تحن إلى الحياة من جديد.
يقول مريزق: "لما تكونت عندي مجموعات من التماثيل والآلات اليدوية والصور، بدأت تأخذ حيزًا مكانيًا في بيتي ويزورني بعض الأصدقاء الذين ينبهرون بها لغرابتها وندرتها، كانوا يريدون اقتناء بعضها حتى قادوني قسرًا إلى التفويت فيها بالبيع رغم تعلقي بها".
ويضيف: "هناك أشياء ليست فريدة في صنعها، لكنها تعتبر نادرة لبعدها الزمني عن يومنا هذا ليصل عمرها إلى أكثر من 100 سنة أعتز بها ولا أفرط فيها مهما كان الثمن لأني أعتبر نفسي محظوظًا بوجودها، في حين أن البعض الآخر الذي يمكن تعويضه قد أتصرف فيه بالهدية أو البيع، من ذلك المذياع القديم أو المعالق والفرشاة والأواني والأطباق والأباريق".
صالح مريزق لـ"الترا تونس": "هناك أشياء ليست فريدة في صنعها، لكنها تعتبر نادرة لبعدها الزمني عن يومنا هذا ليصل عمرها إلى أكثر من 100 سنة أعتز بها ولا أفرط فيها مهما كان الثمن
ويتابع محدث "الترا تونس": "في السنوات الأخيرة كنت أقتني العديد من الأشياء التي يجلبها بعض الأصدقاء من خارج البلاد، وهي عبارة عن مقتنيات وأثاث منازل قديمة استغنى أصحابها عنها بالإتلاف لانعدام قيمتها عندهم في حين تعتبر إرثًا جيدًا عندنا لأصالتها وجودة صنعها ورمزياتها التاريخية والزمنية".
ويضيف مريزق قائلًا: "كل هذه الأشياء تتطلب إنفاقًا ماديًا معتبرًا، وكلما فرطت في قطعة إلا وتخلف عندي لوعة الفراق لأني قد أفقدها إلى الأبد ولا يمكن تعويضها مهما حاولت العثور على مثيلتها".
ويعقّب: "يحبذ أكثر التونسيين جمع الأشياء القديمة من "الأنتيكا"، وأغلبهم مولعون بجمع صنف معين من الأثاث أو الساعات أو الفخاريات لتشكيل مجموعة فريدة يتباهون بها في البيوت، وهذا ما شجعني على جمع كل ما يطلبه المغرمون غير أني أسعى دائمًا إلى البحث عن القطع الأصلية التي تكون موقّعة من طرف صانعها أو مصممها تاركًا بصمته فيها، فأخيّر من اللوحات الزيتية تلك التي تحمل إمضاء راسمها وتتحلى ببريق لامع يدل على أصالتها وبحكم الخبرة في المجال صرت أفرّق بين المزيف والأصيل. كما أسعى إلى التفريق بين المزهريات الفخارية ذات النقائش النادرة عن غيرها المقلدة وأميز بين دقيق الصنع منها وغيرها من المقلّد، أما الأدوات النحاسية والفضية فنحن نفرق بينها باللمس والنظر حتى لا نقع في الغش عند الاقتناء".
صالح مريزق لـ"الترا تونس": في بداية لم يتقبل الأهل اهتمامي بجمع المقتنيات القديمة واعتبروه مضيعة للوقت وخسارة في الجيب، غير أنه بمرور الزمن سرت هذه الهواية كالعدوى بينهم وتقبلوها شيئًا فشيئًا وصاروا يفرحون بالجديد النادر منها
ويكشف لنا صالح مريزق أن "القيمة المادية لمجموعاته القديمة من الأنتيكا معتدلة فقد لا يتجاوز أغلاها ألف دينار فقط، وذلك حرصًا منه على طابع الهواية الذي يهزه إلى عالم الأنتيكا، فهو لا يجازف بالأثمان الباهظة، وإذا باع منها شيئًا لا يزيد عن ثمن الاقتناء إلى النسبة اليسيرة فقط حتى يتسنى له استبدالها بجنيستها إن وجدت.
يقول صالح مريزق: "في بداية لم يتقبل الأهل اهتمامي بجمع المقتنيات القديمة واعتبروه مضيعة للوقت وخسارة في الجيب، غير أنه بمرور الزمن سرت هذه الهواية كالعدوى بينهم وتقبلوها شيئًا فشيئًا وصاروا يفرحون بالجديد النادر منها حتى عمت أرجاء البيت فكانت مفخرة لنا ومبهرة للأقرباء والأصدقاء الذين يزوروننا من حين لآخر".
ويتابع: "لا أخفيكم سرًا أن هذه الهواية تعترضها العديد من العقبات أهمها من أولئك التجار الذين يحسدونك فيما تملك من قطع نادرة فيسببون لك الأرق ويزعجونك بألسنتهم المشككة في جودتها ظنًا منهم أنك تزاحمهم في سوق "الأنتيكا".