01-ديسمبر-2021

لا يزال تقرير محكمة المحاسبات حول انتخابات 2019 يثير الجدل (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

مقال رأي

 

"كلّ يوم أكتشف أننا أهل المحروسة أكثر الناس خوفًا وخشية من الحكّام. إنّنا نحبّ المحافظة على ما كسبناه دومًا، نضطرّ إلى المداهنة، وإلى خداع أنفسنا بأنّها السياسة". هكذا حدّث حمّة السلاوي نفسه، في رواية "الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي، بعدما تيقّن من استكانة مواطنيه وعدم رغبتهم في مقاومة الغزو الفرنسي، وقد سبق أن لبثوا عهدًا مع بطش اليولداش الأتراك. بل ذهب أغلبهم للتمنّي، حسب نص الرواية، أن يكون احتلال الفرنسيين أقل وطأة عليهم من وطأة سابقيهم، أي تحسين ظروف الاحتلال. مع تغيير بسيط في الأطر السردية والشخصيات في الرواية، يمكن إعادة كتابة هذه الرواية لتكون شهادة لما يحصل في تونس هذه الأيام.  


منذ صدوره منذ أكثر من سنة، لا يزال تقرير محكمة المحاسبات "حول مراقبة الحملة الانتخابية الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019 ومراقبة مالية الأحزاب" يثير الجدل، بل حوّله بعض الفاعلين السياسيين مطيّة لضرب شرعية المسار السياسي الذي أفرزه صندوق 2019، كإشارة رئيس سلطة الاستثناء إلى عزمه إصدار مراسيم، ذات مفعول رجعي، لإسقاط قوائم انتخابية لخصومه في إطار تصفية الحسابات السياسية باستعمال أجهزة الدولة. ما أثار جدلًا على الجدل.

اقرأ/ي أيضًا: لوّح بإصدار مراسيم في علاقة بالمخالفات الانتخابية.. انتقادات واسعة تطال سعيّد

عرضًا نشير إلى أن التقرير يذكر كذلك أن لأحد المترشحين في الانتخابات الرئاسية، 30 صفحة على فيسبوك، يشرف على إدارتها 120 "أدمينًا" من الداخل والخارج، روّجوا مناشير مدعومة لفائدة مرشحهم، ربما على وجه الفضل كذلك، ما يعني أيضًا "شبهة تمويل أجنبي" وفق طرح الادعاء، باعتبار أن منصة فيسبوك لا تقبل الدفع بالدينار التونسي، وفق قائمة العملات المتاح الدفع عبرها التي يتيحها الموقع.

أثرت هذه الصفحات، ومنشوراتها المدعومة بالمال الأجنبي "التطوّعي/على وجه الفضل" في المسار الانتخابي، حيث فاز المترشح المذكور في الانتخابات، موضوع المهمة الرقابية الأخيرة لمحكمة المحاسبات، موضوع الجدل القائم والمقيم. 

لا يزال تقرير محكمة المحاسبات "حول مراقبة الحملة الانتخابية الرئاسية والانتخابات التشريعية لسنة 2019" يثير الجدل، بل حوّله بعض الفاعلين السياسيين مطيّة لضرب شرعية المسار السياسي الذي أفرزه صندوق 2019

وللقطع مع سردية العفوية والصدفة، قام المتخصص في علم السكان "الديموغرافيا" والمستشار الجهوي السابق للأمم المتحدة في التحاليل الديموغرافية، حافظ شكير، بقراءة معمقة في نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، صدرت ضمن المؤلف المشترك الإغواء الشعبوي la tentation populiste عن دار سارس، وانتهى إلى أن فوز قيس سعيّد في الدور الأول لم يكن نتيجة الصدفة، حيث كتب: "هذه الكثافة في التصويت للمترشّح قيس سعيّد لم تكن نتيجة (ثمرة) الصدفة. وإنّما هي نتيجة لحملات دعائية قوية بين الأنصار وشبكات (réseautage) فعّالة" (صفحة 86).

هل ستتحرك النيابة العمومية للتحقيق في العلاقة بين المترشح المذكور وشبكة "الأدمينات"؟ وهل ستشمل المراسيم المزمع إصدارها هذا المترشّح، عملًا بقاعدة "تطبيق المرسوم على الجميع على قدم المساواة"؟ أم سيكون مرسومًا على المقاس هو الآخر على شاكلة "رمتني بدائها وانسلّت"؟ 

بعيدًا عن هذا الصخب، وبالإصغاء إلى صخب من نوع آخر في الضفة الشمالية للمتوسط، صخب جديد، غير تقليدي وليس على المقاس، وقع في صيف 2020 الإفراج عن أرشيف انتخابات 1995 في فرنسا، والتي فاز فيها جاك شيراك على ليونال جوسبان، التي تعتبر كفضيحة دولة، أو كما وصفتها عدة وسائل إعلام كفرانس culture والـ nouvel obs بـ "أقذر" حملة انتخابية في التاريخ.

توصل المتخصص في الديموغرافيا حافظ شكير إلى أن الكثافة في التصويت للمترشّح قيس سعيّد لم تكن نتيجة الصدفة، وإنّما هي نتيجة لحملات دعائية قوية بين الأنصار وشبكات فعّالة

تعود وقائع القضية للحملة الانتخابية بين شيراك وجيسبان في الدور الثاني، والتي تجاوز فيها شيراك سقف التمويلات الانتخابية المحدد بـ 120 مليون فرنك فرنسي آنذاك. ويعد هذا التجاوز، وفق القانون الانتخابي، موجبًا لإلغاء النتيجة وحرمان الفائز من تولّي منصبه في الإليزيه.

لأوّل مرة آنذاك، تعهّد المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) بالتدقيق في الحسابات المالية للمترشحين، إلى جانب محكمة المحاسبات التي تتولّى التدقيق عادة. عند التدقيق المالي، بعد إعلان نتائج الانتخابات في جويلية/يوليو 1995 وإيداع المترشحين دفاتر حساباتهم، اتضح أن جاك شيراك وإدوارد بالادير الذي انسحب من الدور الأول، قد قاما بالعديد من الخروقات، وخاصة تجاوز السقف المسموح به.

وجد أعضاء المجلس الدستوري الـ 9 أنفسهم أمام معضلة فقهية دستورية قد تسبب أزمة سياسية حادة، وهي إلغاء فوز رئيس منتخب بتصويت عام! تحت إشراف رجل القانون رولان ديما، قرر المجلس الدستوري عدم تعريض البلاد لأزمة سياسية، وقام الأعضاء، إلى جانب المدققين ومقرري الجلسات، بتزوير الأرقام، باليد مباشرة كما يوضح الأرشيف وبالشطب المباشر، وتخفيض المصاريف حتّى تتلاءم مع قانون تحديد سقف الإنفاق.

تشكّل القضايا المتعلقة بالأموال والتمويلات، في زمن الشركات الواجهة "les sociétés écrans"، معضلة شديدة التعقيد أمام قضاة التحقيق، تتطلّب جهودًا تقنية بشرية ومادية، والأهم من ذلك، تستوجب تنسيقًا دوليًا في مستوى عال

سنة 2010، سئل رولان ديماRoland Dumas  عن الحادثة في لقاء تلفزيوني مباشر، فأجاب: "لقد أنقذت الجمهورية. شيراك كان منتخبًا من الفرنسيين. لقد قام بخروقات لكنه بالنهاية منتخب" يعلّق كذلك، ليونال جوسبان، الذي خسر الانتخابات أمام شيراك في الدور الثاني: "صحيح أن رولاند ديما قام بالتزوير، لكن بالنهاية، لا يمكن تغيير قرار الشعب. والمجلس الدستوري ليس أعلى من الشعب. لكن أرى أنه ربما كان يجب إعلام الشعب بأن الرئيس الذي تم انتخابه لم يحترم القانون".

اقرأ/ي أيضًا:  مراقبة تمويل الأحزاب.. الملف الشائك

إثر تلك الحادثة، راجعت الدولة الفرنسية منظومتها الرقابية على الحملات الانتخابية لتكون لها تقارير أولية قبل صدور النتائج النهائية، حتّى تتلافى ما حدث في انتخابات 1995، ولازالت تطوّرها وتؤقلمها مع كل انتخابات، باعتماد الأدوات التعديلية الآلية والداخلية التي تتيحها الديمقراطية، دون الحاجة إلى مراسيم وإجراءات استثنائية.

مؤخرًا، قررت عدة مؤسسات إعلامية، على غرار مؤسسة Ouest-France، عدم القيام بسبر آراء لرئاسيات 2022 ولا نشر نتائج وكالات أخرى، لتفادي تلويث النقاش العام وفق ما جاء في افتتاحية رئيس التحرير، فرانسوا إكسافيي لوفران، ليوم 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2021، وللتركيز على البرامج عوض المترشحين. فيما لا تزال المسألة الديمقراطية في موضع الاشتباه في الضفة الجنوبية. المسافة بين الضفتين هي أقل من ساعة بالطائرة، لكن على المستوى الحضاري، هي سنوات من مراكمة التجارب وعقلنة الخطاب والنضج السياسي. 

 التنسيب بين تمويل إشهارات فيسبوكية بـ 5 دولارات/الإشهار، وعقود لوبيينغ بآلاف الدولارات، كالتنسيب بين سرقة بيضة وسرقة خزينة بنك..  وأمام القانون هي سرقة، ودور القضاة الحكم وفق القانون لا العدل

قبل الختام، تجدر الإشارة إلى أن تقرير دائرة المحاسبات هو تقرير رقابي، عكس الصبغة القضائية للمجلس الدستوري في الحالة الفرنسية، حيث لا يعدو التقرير أن يكون سندًا للادعاء للنيابة العمومية، ثم يفترض أن يتلوه تحقيق وتدقيق مالي ثم مكافحة وإتاحة الفرصة للمتهمين بالتقاضي وإثبات البراءة أو على النيابة إثبات اتهامها. 

تشكّل القضايا المتعلقة بالأموال والتمويلات، في زمن الشركات الواجهة les sociétés écrans، معضلة شديدة التعقيد أمام قضاة التحقيق، تتطلّب جهودًا تقنية بشرية ومادية، والأهم من ذلك، تستوجب تنسيقًا دوليًا في مستوى عال. ويبقى أهم التحديات في مثل هذه القضايا، إثبات العلاقة بين الفرد/التنظيم موضوع الاتهام، وشبهات التمويل الأجنبي، خاصة عندما يكون غير مباشر كما في الحالات التي يذكرها التقرير، وبالنسبة لكل المتهمين بالمناسبة.

أما التنسيب بين تمويل إشهارات فيسبوكية بـ 5 دولارات/الإشهار، وعقود لوبيينغ بآلاف الدولارات، فهذه مسألة فقه قانوني قضائي، كالتنسيب بين سرقة بيضة وسرقة خزينة بنك. بالنهاية، وأمام القانون، هي السرقة، ودور القضاة هو الحكم وفق القانون، لا العدل، وليست كل القوانين عادلة بالضرورة. لكل "مرجعيته" لما يراه عدلًا على كل حال. لكن المؤكد أن المراسيم لا يمكن أن تكون أعدل من القوانين. ربما في العصور القروسطية. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشعبوية في تونس.. بين الخطاب والأداء

عن "شخصنة الدولة وهسترة المجتمع" في تونس