14-ديسمبر-2023
المحاكمة عن بعد

رئيس جمعية القضاة الشبان لـ"الترا تونس": من باب الشعبوية تعميم المحاكمات عن بعد والتخلي عن المحاكمة المباشر (صورة أرشيفية)

 

تتوجه تونس بخطى ماراطونية نحو تعميم تجربة المحاكمة عن بعد على جميع المحاكم التونسية وذلك بغية إصلاح المنظومة القضائية والتمكن من التسريع في معالجة الملفات المعروضة على المحاكم والتصدي للاكتظاظ الذي بات كابوسًا يؤرق منظومة العدالة في تونس. 

المتدخلون في الشأن القضائي على غرار المحامين والقضاة، يرفضون سياسة المحاكمات عن بعد التي تحاول وزارة العدل التونسية تكريسها لعدة أسباب

وتم مؤخرًا الانطلاق في أولى جلسات المحاكمة عن بعد باستعمال التكنولوجيا الحديثة والوسائط الرقمية بالمحكمة الابتدائية بسوسة 2، وقد أكد وكيل الجمهورية بالمحكمة عبد الحكيم بن جمعة أن جميع ضمانات المحاكمة العادلة متوفرة مع إمكانية ترافع المحامي من السجن أو من قاعة الجلسة حسب الطلب، فيما شملت الجلسة 30 موقوفًا في قضايا مختلفة كالسرقة والمخدرات، لكن المتدخلين في الشأن القضائي على غرار المحامين والقضاة، رفضوا سياسة المحاكمات عن بعد التي تحاول وزارة العدل التونسية تكريسها لعدة أسباب، أهمها عدم توفر الإمكانيات اللوجستية اللازمة والمخاوف من إمكانية مساسها بحقوق المتهم ضمانات حسن سير العدالة.

  • "التواصل المباشر قيمته أهم بـ 50% من الملف"

ويرى المحامي مالك بن عمر أن فكرة المحاكمات عن بعد ظهرت خلال فترة فيروس كورونا، واستُعملت تفاديًا لتعطيل المحاكمات بالنسبة للموقوفين وتأخر الإفراج عنهم، مع ذلك لم يتم عقد العديد من الجلسات، وحتى الغرفة الخاصة للتواصل مع المحكمة التي تم إحداثها في سجن المرناقية لم يتم استعمالها، لافتًا إلى أن استعمال الوسائل العصرية يتم تفهمه في وضعية استثنائية لكن في الوضعية العادية لا داعي له، وحتى الدول المتقدمة لم تستعمله على الرغم من الإمكانيات المتوفرة لديهم.

المحامي مالك بن عمر لـ"الترا تونس": استعمال الوسائل العصرية يتم تفهمه في وضعية استثنائية كجائحة كورونا، لكن في الوضعية العادية لا داعي له

كما بيّن في حديثه لـ"الترا تونس" أنه من الناحية القانونية تم الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية باسم الوباء، لكن في مجلة الإجراءات الجزائية يجب أن تكون الجلسة مباشرة بحضور المتهم والمحامي مبينًا أن مرافعات المحامين المباشرة يكون وقعها أكبر، وكذلك الاستنطاق المباشر مع القاضي يختلف عن الاستنطاق عن بعد، منوهًا إلى العنصر المهم في عناصر الحكم في المادة الجزائية وهو وجدان القاضي الذي يقتضي النظر مباشرة للمتهم وسماع طريقة كلامه ودراسة حركاته.

ويقول المتحدث: "بالنسبة إليّ كمحامٍ، أفضّل الترافع عن منوّبي بصفة مباشرة لأنّ هناك جانبًا حسيًا مهمًا في التواصل أعتقد أنه يُفقد عن بعد.. العمل عن بعد فكرة ممتازة ومهمة في المادة القضائية لكن ليس في المادة الجزائية بل في المادة المدنية.. مثلًا نحن نحتاج إلى تقديم تقارير تعليقًا على اختبارات عن بعد وهذا غير متاح حاليًا، على الرغم من أنه يضيع وقت المحامين والمتقاضين ويعطّل القضايا.. رقمنة العدالة في تونس مازالت متأخرة وهناك دول سبقتنا بأشواط مثل الجزائر التي أصبح من الممكن فيها إرسال التقارير للقضاة واستخراج الأحكام عن بعد.. في تونس هناك بعض التجارب في دوائر معينة لكنها فردية وخاصة ليست عامة، بالتالي فإنّ عصرنة العدالة ورقمنتها أمر مهم لكن ليس في المادة الجزائية" وفق تقديره.

المحامي مالك بن عمر لـ"الترا تونس": بالنسبة إليّ كمحامٍ، أفضّل الترافع عن منوّبي بصفة مباشرة لأنّ هناك جانبًا حسيًا مهمًا في التواصل أعتقد أنه يُفقد عن بعد

ويشدّد مالك بن عمر على أن التواصل المباشر قيمته أهم بـ50% من الملف، وعلى أن نفس الملف عندما يتم التقاضي فيه عن بعد وبصفة مباشرة، ستصدر فيه أحكام متضاربة ومختلفة لأن الجانب الحسي غير موجود، بالتالي فإنّ المحاكمات عن بعد يمكن أن تمس من ضمانات المحاكمة العادلة التي تقتضي الحضورية، وفقه.

ويختم المتحدث بالتأكيد على أننا في الوضع العادي لا نحتاج لمحاكمات عن بعد خاصة وأن المحاكم لديها بنية تحتية لاستقبال الموقوفين وهيئة السجون والإصلاح بإمكانها توفير وسائل نقل للمساجين كما رجح أن الذهاب نحو هذه التجربة يمكن أن يكون هدفه التقليص من تنقل المساجين الموقوفين على ذمة قضايا إرهابية خاصة بعد هروب مساجين من سجن المرناقية خلال الفترة الماضية.

محام لـ"الترا تونس": الذهاب نحو تعميم تجربة المحاكمات عن بعد في تونس يمكن أن يكون هدفه التقليص من تنقل المساجين الموقوفين على ذمة قضايا إرهابية خاصة بعد هروب مساجين مؤخرًا

  • "تطوير العدالة لا يكون عبر المحاكمات عن بعد"

أتاح القانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال في فصله التاسع والأربعين والقانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته في فصله الحادي والخمسين لقاضي التحقيق أو لرئيس المحكمة استنطاق المتهم وتلقي تصريحات من يَرَيَان فائدة في سماعه باستعمال وسائل الاتصال المرئية أو المسموعة الملائمة دون ضرورة لحضور المعني بالأمر شخصيًا، وذلك في حالات الخطر الملمّ، ولئن حدد هذان القانونان الحالات التي يمكن فيها التقاضي عن بعد، فإن جائحة كورونا فرضت الإعلان عن تدابير استثنائية من بينها التقاضي عن بعد تناغمًا مع إستراتيجية التباعد الجسدي للحد من مخاطر انتشار الوباء في المؤسسات السجنية وقد تم تنظيم ذلك بالمرسوم عدد 12 لسنة 2020.

ولئن تعكف السلطات التونسية على المضي قدمًا في مسار إصلاح المنظومة القضائية والسجنية فإنها ارتأت المواصلة في تجربة التقاضي عن بعد وتعميمها على جميع المحاكم التونسية رغم الانتقادات الحادة التي تتعرض لها هذه الإجراءات.

رئيس جمعية القضاة الشبان لـ"الترا تونس": المحاكمة يجب أن تكون دائمًا عن قرب لا عن بعد، لأن المحاكمة المباشرة تتوفر فيها المواجهة بين القاضي والمتهم والشهود.. وتكون أكثر صدقًا وواقعية

ويرى رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي أن تجربة المحاكمات عن بعد اقتضتها الضرورة خلال فترة جائحة كورونا لتفادي تعطيل المحاكمات في الجرائم البسيطة، ويمكن أن تكون حلًا واقعيًا لبعض الحالات الأمنية أو الصحية التي تحول دون تنقل السجين إلى المحكمة، لكن المحاكمة في الواقع يجب أن تكون دائمًا عن قرب لأن المحاكمة المباشرة التي تتوفر فيها المواجهة بين القاضي والمتهم والشهود وتركيبة الجلسة العادية بصفة عامة تكون أكثر صدقًا وواقعية وأجدى.

ويشدد المسعودي في حديثه لـ"الترا تونس" على أنه لا يمكن القيام بمحاكمة عن بعد بطريقة مستمرة ولا تعميمها لأنها ليست من التجارب التي تعمم وذلك خشية المساس من مبدأ المحاكمة العادلة، مشيرًا إلى أن السجين عندما يعترف بالأفعال التي اقترفها أمام القاضي يتمكن هذا الأخير من معاينة حالة المتهم والتثبت من عدم وجود أي ضغوط أو تهديدات تسلّط عليه، كما يمكّن اللقاء المباشر والحضوري بين القاضي والسجين وتدخله بصفة مباشرة وعفوية من إضفاء قيمة في المحاكمة لكن تواجد السجين في السجن فذلك يمس من حقوقه الشرعية.

رئيس جمعية القضاة الشبان لـ"الترا تونس": لا يمكن القيام بمحاكمة عن بعد بطريقة مستمرة ولا تعميمها لأنها ليست من التجارب التي تعمم وذلك خشية المساس من مبدأ المحاكمة العادلة

ويذهب المتحدث إلى أنه من باب الشعبوية تعميم المحاكمات عن بعد والتخلي عن المحاكمة المباشر، وإلى أن تطوير العدالة لا يكون عبر المحاكمات عن بعد، بل عبر إصلاحها عن قرب، والذي يكون بتوفير السيارات للشرطة وتوسيع قاعات المحكمة وتوفير أماكن مناسبة ولائقة للمحامين والمتهمين الذين يتم استجوابهم في ظروف مزرية وغير مناسبة وكذلك تمكين المحكمة من السيطرة الفعلية على السجون لأنه في الكثير من الأحيان يطلب وكيل الجمهورية أو القاضي سجينًا ولا تقدمه إدارة السجون وهو ما يؤكد أن القضاء ضعيف و"القضاء الوظيفة لا يمكن له أن يحقق محاكمة عادلة".

ويقول رئيس جمعية القضاة الشبان "الأساس في تحقيق محاكمة عادلة هو إصلاح القضاء ماديًا لأنه يشكو من نقص في التجهيزات وعدم توفر البنية التحتية واللوجستية الضرورية ومن كثرة القضايا حتى أن الدائرة الجنائية أصبحت وكأنها دائرة جناحية فيها مئات قضايا القتل والاغتصاب والمخدرات.. الاهتمام بالجانب البشري واللوجستي وتقريب المحاكم للمتقاضين هو الإصلاح الحقيقي.. يمكن تعميم تجربة رقمنة الإدارة وهو المطلوب، لكن لا يمكن ذلك عبر المحاكمات عن بعد وهي ليست موجودة حتى في التجارب المقارنة".

رئيس جمعية القضاة الشبان لـ"الترا تونس": تطوير العدالة لا يكون عبر المحاكمات عن بعد، بل عبر إصلاحها عن قرب، والذي يكون بتوفير السيارات للشرطة وتوسيع قاعات المحكمة وتوفير أماكن مناسبة ولائقة للمحامين والمتهمين

جدير بالذكر أن 14.836 موقوفًا استفادوا من المحاكمة عن بعد منذ انطلاق العمل بها في شهر أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2020 وذلك وفق إحصائيات كان قد قدمها الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية سوسة 1 وسام الشريف لوسائل إعلام محلية. كما شملت هذه المحاكمات قضاء الرشّد ثم شملت قضاء الأطفال بطلب من وزارة العدل.