18-أغسطس-2018

تعدّ الرحبة في تونس عالمًا بأسره مختلف المكونات (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

"العيد الكبير"، هكذا يحلو للتونسيين تسمية عيد الأضحى وذلك تقديسًا وتبجيلًا روحيًا لركن من أركان شعيرة الحجّ وشوقًا لجدّ الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي كان صافي السريرة وصادق النوايا مع ربه لمّا ابتلاه بذبح ابنه إسماعيل وفي اللحظة الحاسمة التي همّ فيها إبراهيم بتلبية طلب ربه وبطريقة سوريالية تتجاوز خيال البشر يستعيض الملاك جبريل الفتى الإنسي إسماعيل بذبح عظيم.

وقد أبقى الإسلام على هذا الركن من أركان الحج المتوارث منذ الدعوة الإبراهيمية إلى حلول الإسلام لكونه مليئًا بالعبر والحكم فمنه يستخلص الإنسان دروسًا عظيمة في الالتزام مع الذات ومع الله والتضحية بالنفيس والمسؤولية والإحسان في العطاء والتفاني. لكن بعيدًا عن المقدس وبالنظر إلى المسألة من زاوية أنتروبولوجية ، يعدّ هذا الموعد من الأفعال الثقافية الرئيسية التي يأتيها التونسيون مرة كل سنة في ارتباط يبدو ظاهره دينيًا لكن باطنه ثقافي.

نقاط بيع عديد الأضاحي عشوائية وخارجة عن القانون وتعاني أغلب البلديات التونسية من هذه الظاهرة السنوية المرتبطة بعيد الأضحى والتي عادة ما تخلّف مئات الأطنان من الفضلات

وكلما اقترب موعد العيد الكبير إلا ونبتت "رحبة" هنا وأخرى هناك في خواصر المدن الكبرى وفي الأرياف أيضًا، توكل لنفسها بيع "العلّوش" (الخرفان) للمواطنين. وحسب المعطيات المتوفرة من أكثر من جهة  فإن نقاط بيع هذه الأضاحي أغلبها عشوائي وخارجة عن القانون وتعاني أغلب البلديات التونسية من هذه الظاهرة السنوية المرتبطة بعيد الأضحى والتي عادة ما تخلّف مئات الأطنان من الفضلات تضطر الدولة لرفعها في الأيام الموالية لعيد الأضحى بتكاليف باهظة.

اقرأ/ي أيضًا: اتحاد الفلاحين يعلن عن أسعار أضاحي عيد الأضحى

وتعدّ الرحبة في تونس عالمًا بأسره فهي سوق وقتية لخرفان الأضحية تدبّ فيها الحركة ليلًا نهارًا ويأتيها فلاّحو الماشية من الولايات المعروفة بتربية الأغنام مثل القيروان وسيدي بوزيد وسليانة وباجة. فالعيد الكبير هو ذروة موسم البيع بالنسبة إليهم، فنراهم يتكبدون مشاق التنقل والمبيت بالرحبة حذو الخرفان.

كما نجد في الرحبة ما يسمى بـ"القشارة"، وهم وسطاء ومحتكرون يقدّمون أنفسهم في الرحبة على أساس أنهم من "الفلاّحة" فتفضحهم لهجتهم "العاصمية".  وتزدهر مهن أخرى صغيرة داخل الرحبة فنجد "براوطية " لبيع "السندويتشات" السريعة وباعة السجائر الرخيصة وباعة التبن و"القرط" وأحيانًا تنتصب مقهى داخل الرحبة. و"الرّحبة في هذه الأيام الدخول إليها أصعب من دخول بورصة وول ستريت"، هكذا وصفها أحد "شباب فيسبوك" على صفحته الخاصة.

"الترا تونس" تنقل إلى عدّة "رحب" بضواحي العاصمة ودخل هذا العالم الغريب الذي تحكمه نواميس خاصة به وحاول رصد بعض التفاصيل التي تبدو أحيانًا مجهولة أوغير مرئية.

أولى محطاتنا رحبة الملاسين، وهي متاخمة لأحد أشهر الأحياء الشعبية بالعاصمة، أغلب الباعة من "الفلاّحة" هنا من ولايتي  باجة وسليانة وهم يعرفون "خطورة" المكان وخبروه فيتخذون تدابير استثنائية. فالعم حمدة صرّح لـ"الترا تونس" أنه يأتي مرفوقًا بأبنائه الأربعة وهم أقوياء أشدّاء يتداولون على حراسة الزريبة والعناية بالخرفان وتأمين كل شيء ويتولى هو عملية البيع والشراء و"مكاشحة" الزبائن.

ويضيف أن له أحد أقربائه يقطن بالملاسين وهو يحرص على زيارتهم خلال هذه الفترة ويجلب إليهم الغذاء والماء الذي تشربه الخرفان وبذلك لا تطالهم يد المنحرفين الذين ينتشرون بكثرة في الرحبة والذين يتصيدون فلاحًا غافلًا أو نائمًا من شدة التعب. ويتدخل أحد أبناء العم حمدة قائلًا "نحن نأتي إلى العمل في هذه الرحبة وندفع "مكسًا " (ضريبة) للبلدية على أساس أن المكان آمن وبه المرافق الضرورية لكن كل ذلك غير موجود فنضطر إلى تأمين أنفسنا بأنفسنا".

الصادق (من باعة الخرفان في الرحبة) لـ"الترا تونس": نعاني من قصص التحيّل التي يقوم بها بعض الشباب "العاصمي" المنحرف والذي يستغل فترة العيد ليسطو على الخرفان أو على الأموال

الصادق، كهل أسمر قوي البنية، يلبس "دنقري" بالية ويضع قبعة رياضية لفريق نيويورك لكرة السلة يجلس قرب زريبة ملتصقة بسيارة "الديماكس" الشهيرة في الوسط الفلاحي التونسي، ذكر لنا أنه يعرف كل قصص الرحبة وخاصة قصص التحيّل التي يقوم بها بعض الشباب "العاصمي" المنحرف والذي يستغل فترة العيد ليسطو على الخرفان أو على الأموال لقد سمع هذه القصص من أبناء بلدته مكثر التابعة لولاية سليانة، لذلك هو يستعد لهذه المهمة على أكمل وجه حيث يشكل مع باقي "فلاحة" الجهة قطبًا واحدًا للحراسة والتموين والعناية بالخرفان وحتى الأسعار أيضًا يتم تداولها فيما بينهم للانطلاق في عملية البيع، وفق تصريحاته.

اقرأ/ي أيضًا: تونس: رئاسة الحكومة تحدّد عطلة عيد الأضحى

التقى "الترا تونس" أحد "القشارة"، الذي خيّر عدم ذكر اسمه، والذي أوضح منذ البداية أنه موظف عمومي و"يدوّر في الدولاب" على حدّ تعبيره. ويبيّن محدثنا أن له سنوات عديدة يتعاطى في هذا النشاط وقد تكونت لديه خبرة في الشراء والبيع فهو يملك رأس مال يحاول تنميته فيذهب بمناسبة العيد الكبير إلى أسواق الدواب المتاخمة للعاصمة تونس ويشتري بالجملة عددًا من الخرفان التي تتوفر فيها شروط الأضحية ويتولى بيعها مجددًا في الرّحبة.

وهو يمتاز عن بقية القشارة في رحبة الملاسين بتوفيره وسيلة نقل لزبائنه. ويرى محدّثنا أنّ في ذلك تجارة ليس فيها مضرّة لأحد عكس ما يروّج عن القشّارة.

أحد "القشارة" لـ"الترا تونس": عملنا تجارة ليس فيها مضرّة لأحد عكس ما يروّج عن القشّارة

كما التقى "الترا تونس" بعض المواطنين الذين كانوا يتجولون في الرحبة بحثًا عن سعر مناسب "لعلّوش العيد الكبير". وكانت البداية مع حاتم، وهو أستاذ تعليم ثانوي، وجاء لهذه الجولة مرفوقًا بابنه الصغير آدم.  وقد صرّح أن الأسعار "شاعلة فيها النّار" إذ قدّر الزيادة بمائة دينار كاملة مقارنة بأسعار السنة الفارطة وهو ما لا تقدر عليه الطبقة الوسطى، على حدّ قوله.

أمّا نديم، وهو موظف ببنك، فقد قال إن "المواطن صعبت عليه الرحبة كيما صعبت عليه أمور أخرى في ها البلاد"، في إشارة إلى ارتفاع الأسعار. وأضاف أن الأضحية متوسطة الحجم يفوق سعرها الخمس مائة دينار وهذا لا يقدر عليه عموم التونسيين، مطالبًا الدولة بالتدخل لحماية المواطن بجعل الخروف يباع بالميزان في كل الأماكن وفرض أسعار تتماشى والمقدرة الشرائية للمواطن. وأشار إلى أن كل بائع هنا يقدّر السعر حسب هواه.

عثرنا على عائلة بأكملها تتجول في الرحبة وكان لـ"الترا تونس" حوار مقتضب معهم  ذكر خلاله الزوج محمد الأمجد  أنه من أصول ريفية ويعرف أنواع الخراف وله دراية بالأمراض التي تخرج الخروف من دائرة الأضحية. وعن الأسعار، أكد أنها في تصاعد هذه السنة وستزداد ارتفاعًا مع صرف رواتب الموظفين في الأيام القليلة التي تسبق العيد فيجد المواطن نفسه مضطرًا للشراء بالأسعار المتوفرة في الرحبة.

أما الزوجة فأكدت أنها عادة ما ترافق زوجها في مثل هذه المناسبات بحثًا عن "علوش شباب ومزيان"، على حدّ تعبيرها. وأضافت أنها تتدخل أحيانًا في النقاش الخاص بالسعر رأفة بنقود العائلة. في حين مازال الأبناء بصدد اكتشاف هذا العالم، عالم العيد الكبير وعالم الرحبة الفسيح.

رمزي المحواشي (أستاذ الأنتروبولوجيا) لـ"الترا تونس": المجتمع التونسي لا يتنازل عن حقه الحضاري في هذه العادة الثقافية كلّفه ذلك ما كلّفه

حملنا تفاصيل ما رأينا في الرحبة إلى أستاذ الانتروبولوجيا بالجامعة التونسية رمزي المحواشي الذي أشار إلى أنّ عيد الأضحى أصبح عادة ثقافية بحكم ما يرافق هذا الفعل من احتفالات وتظاهرات وطقوس ضاربة في القدم وفي التاريخ البشري. وبيّن المحواشي أن الأضاحي أو النذور أو القرابين هي من الأفعال البشرية القديمة جدًا لكن غاياتها ومعانيها هي التي تختلف من حضارة إلى أخرى و من شعب إلى آخر، مضيفًا أن المجتمع الإسلامي نفسه أضفى على الأضحية جوانب أخرى فنية وكرنفالية واحتفالات تختلف من جغرافيا الى أخرى وهذا هو التميّز الثقافي المراد الإشارة إليه.

وأوضح أستاذ الانتروبولوجيا أن المجتمع التونسي لا يتنازل عن حقه الحضاري في هذه العادة الثقافية ولا أدل على ذلك من أن هناك الآلاف من الناس يشترون خرافًا ويذبحونها وهم لا يمارسون شعائرهم الدينية. ومن وجهة نظر فنية، أوضح المحواشي أن العيد يأتي ليكسر تلك الخطية القاتلة لليومي الذي يعيشه التونسي فنلاحظ بعض المظاهر الكرنفالية والاحتفالية التي تقام هنا وهناك، حسب قوله.

ويبقى عيد الأضحى أو "العيد الكبير" بوجهيه الديني والثقافي من مرتكزات الذاكرة الجماعية للشاب التونسي ولم تتحول ميكانيزماته مع الزمن بل هي بصدد الترسخ من سنة إلى أخرى.   

 

اقرأ/ي أيضًا:

عيد أضحى 2018: توفير مليون و390 ألف رأس من الأضاحي ولا توريد هذه السنة

توصيات وزارة الصحة بمناسبة عيد الأضحى