27-يناير-2022

الولادة عن طريق الجراحة أصبحت بمثابة الكابوس الذي يؤرق أغلب الحوامل (صورة توضيحية/Getty)

 

قبل أسبوعين من إتمام شهرها التاسع، توجهت ضحى إلى عيادة طبيب النساء والتوليد بإحدى ضواحي العاصمة في الموعد الذي حدده لها مسبقًا لتخضع لفحص روتيني وللاطمئنان على صحتها وصحة جنينها.

كانت تعد الأيام والساعات وتحسب الدقائق لاستقبال مولودها الأول والدخول لعالم الأمومة لكن قرار طبيبها المباغت بضرورة إخضاعها لعملية قيصرية في اليوم ذاته أربكها وتفاقمت مخاوفها عندما أعرب عن خشيته من تأذي الجنين في حال تواصل حملها إلى نهاية الشهر التاسع.

ارتفعت نسبة الولادات القيصرية في تونس بشكل لافت وغير مسبوق خاصة في السنتين الأخيرتين حيث بلغت نسبة الولادات القيصرية 50 في المائة من إجمالي الولادات

تقول ضحى، وهي ثلاثينية أصيلة محافظة منوبة، أن وضعها كان مستقرًا ولا تبدو عليها أي علامات ولادة مبكرة حتى أنها تشعر بركلات الجنين في أحشائها بصفة دورية ومع ذلك لم يكن لديها خيار سوى الانصياع لتوجيهات طبيبها المباشر لحالتها "لم أكن مقتنعة بمبررات الطبيب لإخضاعي إلى عملية قيصرية لكن خوفي وشريكي على الجنين الذي ننتظره بفارغ الصبر دفعنا للانصياع دون تفكير فقد كان بالإمكان إعادة التشخيص لدى طبيب آخر للتأكد من  ضرورة هذا التدخل الجراحي من عدمه لكن كما سبق وذكرت الارتباك والخوف حالا دون ذلك".

وقد ارتفعت نسبة الولادات القيصرية في تونس بشكل لافت وغير مسبوق خاصة في السنتين الأخيرتين حيث بلغت نسبة الولادات القيصرية 50 في المائة من إجمالي الولادات أي أن نصف النساء اللاتي تلدن تخضعن لعمليات جراحية في حين أن اللجوء إلى التدخل الجراحي في التسعينيات لم يكن يتجاوز 11 في المائة، وفق إحصائيات كشف عنها رئيس الجمعية التونسية لطب أمراض النساء والتوليد بشير الزواوي، لوكالة الأنباء التونسية.

الولادة عن طريق الجراحة أصبحت بمثابة الكابوس الذي يؤرق أغلب الحوامل ويتضاعف قلقهن عند التفكير في أعراض ما بعد الولادة القيصرية وما يصاحبها من آلام شديدة وصعوبة في الحركة وتأخر في التئام الجرح مقارنة بالولادة الطبيعية ناهيك عن تكلفتها المرتفعة في المصحات الخاصة والتي تتراوح بين 3500د و4000د في حين أن تكلفة الولادة الطبيعية لا تتجاوز 900د.  

بلغت نسبة الولادات القيصرية 50 في المائة من إجمالي الولادات (Getty)

 

اقرأ/ي أيضًا: خوفًا من كورونا وهربًا من عنف لفظي وجسدي.. نسوة يخترن الولادة الطبيعية بالبيت

  • ولادات قيصرية بلا موجب طبي 

(ر.ح) قابلة متحصلة على الإجازة في علوم التوليد، تزاول مهنتها منذ 6 سنوات في القطاع الخاص تروي شهادتها لـ"الترا تونس" بكل تحفظ وتكشف عن تجاوزات تعاينها بشكل شبه يومي في بعض المصحات الخاصة مما يضطرها في بعض الأحيان إلى مغادرتها، وفقها. 

قابلة تشتغل في القطاع الخاص لـ"الترا تونس": "الولادة القيصرية أصبحت تجارة مربحة 100% للمصحات وللأطباء فللأسف بعض الأطباء يعمدون إلى التدخل الجراحي دون مبرر طبي"

تقول: "الولادة القيصرية أصبحت تجارة مربحة نسبة 100 في المائة للمصحات وللأطباء.. درسنا في الكلية أن اللجوء للولادة القيصرية مشروط بخطورة الولادة الطبيعية على حياة المرأة والجنين وهناك وضعيات معينة مثل معاناة الأم من أمراض مزمنة أو أمراض تظهر خلال فترة الحمل كالسكري وضغط الدم وأحياناً يتعلق الأمر بالجنين عندما يكون نبضه ضعيفًا أو حجمه كبيرًا، عندها يتم التدخل الجراحي لكن للأسف بعض الأطباء وأشدد على كلمة "بعض" يعمدون إلى  التدخل الجراحي دون مبرر طبي لربح الوقت لأن الولادة الطبيعية تستغرق وقتًا طويلاً وبالتالي يخسر يوم عمل في عيادته فيخيّر الولادة القيصرية، فهي أسرع ومربحة أكثر له وللمصحة وفي وضعيات أخرى بعض الحوامل يفضلن "الرفاه" ويخيرن الولادة القيصرية وهو ما يعرف بـ(القيصرية المبرمجة)".

وتحدثنا (ر.ح) عن تجربتها مع طبيب نساء وتوليد قام بتوليد امرأة واحدة بطريقة طبيعية طيلة سنة كاملة وكانت جميع تدخلاته الأخرى جراحية "لقد كان لسانه ("يغزل الحرير") ويشتغل على الجانب النفسي لمرضاه فيطمئنهم ويقنعهم بأن الطريقة القيصرية هي الأمثل والأكثر أمانًا لهن ولأطفالهن فيصدقنه.. وبالنسبة للحامل التي تتشبث بحقها في الولادة الطبيعية، يمنعني من مساعدتها ولا يمكنها من إبرة التخدير ويقول لي (خليها تتوجع وتطلب العملية بفمها)".

وتؤكد المتحدثة أن عدد العمليات القيصرية في ارتفاع متواصل وحسب الإحصائيات التي تعدها المصحة التي تنتمي إليها فإن نسبة التدخلات الجراحية خلال الولادة تتراوح بين 70 و80 في المائة من إجمالي الولادات هناك، واصفة ذلك بالأمر المؤسف. 

كما اعتبرت أن لهذه التدخلات القيصرية غير المبررة تبعات نفسية على المرأة فتشعر بالندم بعد الولادة وتلقي باللوم على نفسها لأنها لم تصبر على الألم ولم تحاول الوضع بشكل طبيعي لتجرب الإحساس بالولادة الطبيعية في حين أنه لا ذنب لها في ذلك في الحقيقة. 

وتضيف أخصائية التوليد أن نساء أخريات تتابعن فترة الحمل لدى طبيب خاص وتتجهن للمستشفى العمومي للولادة لأنهن يحملن فكرة مسبقة على أن المصحات تخير الولادة القيصرية لأسباب مادية بحتة، مضيفة أن العديد من الحوامل يلجأن للاقتراض من البنوك أو الأقارب لسداد معلوم الولادة في المصحات الذي ارتفع بشكل لافت (من 3500 إلى 5000 آلاف دينار) في ظل تراجع قيمة التغطية التي يقدمها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والتي تقدر بـ 700د للولادات القيصرية عوضًا عن 1500د في السابق و350 د للولادات الطبيعية عوضًا عن 600دينار.

أخصائية توليد لـ"الترا تونس": العديد من الحوامل يلجأن للاقتراض من البنوك أو الأقارب لسداد معلوم الولادة في المصحات الذي ارتفع بشكل لافت في ظل تراجع قيمة التغطية التي يقدمها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي

كما دعت أهل الاختصاص إلى الحفاظ على شرف المهنة واعتباره أولوية مطلقة قبل الجانب المادي، منوهة إلى أن الوقائع التي سردتها تظل في خانة الاستثناءات وأن أغلب الأطباء يعملون بضمير ويسهرون على صحة مرضاهم ولا يسعون وراء الربح المادي.    

اقرأ/ي أيضًا: إهمال وأخطاء طبية.. نساء فقدن أطفالهن يروين تجاربهن لـ"ألترا تونس"

  • وباء الولادات القيصرية

يعصف "وباء" الولادات القيصرية بتونس والعديد من دول العالم على حد السواء فأصبحت الولادة الطبيعية هي الاستثناء وتبعًا لذلك أوصت منظمة الصحة العالمية بالحد من التدخلات الطبية غير الضرورية خلال الولادة تجنبًا لآثارها السلبية على صحة الأم والطفل، مؤكدة أن "الولادة عملية فسيولوجية طبيعية يمكن إنجازها دون مضاعفات بالنسبة لغالبية النساء والرضع".

بعض الحوامل يسعين إلى الخضوع لتدخل جراحي أيضًا خوفا من آلام المخاض وتعقيدات الولادة الطبيعية مع إمكانية تحديد يوم الوضع والتهيئة له وتجنب أعراض الطلق الفجئية

ولئن تتجه أصابع الاتهام إلى الأطباء والمصحات فإن بعض الحوامل يسعين إلى الخضوع لتدخل جراحي أيضًا خوفا من آلام المخاض وتعقيدات الولادة الطبيعية مع إمكانية تحديد يوم الوضع والتهيئة له وتجنب أعراض الطلق الفجئية. 

أنس الشارني، عشرينية خضعت لعملية ولادة قيصرية لمرتين على التوالي في مصحة خاصة، "لقد توجهت للمصحة للقيام بتخطيط القلب للجنين بتعليمات من طبيبي وبعد المعاينة أخبرتني القابلة بأن ضيق الحوض لدي يحول دون ولادتي بطريقة طبيعية.. لم أتفاجأ فأنا على بينة بأن معظم الولادات في المصحات قيصرية وخيرت التوجه للقطاع الخاص لتفادي الاكتظاظ والظروف الصعبة التي تشكو منها المستشفيات العمومية في تونس والتي غذتها جائحة كورونا". 

وتضيف محدثة "الترا تونس" أنها حظيت وجنينها برعاية مميزة في المصحة ولم تشكو أية مضاعفات حتى عند خضوعها للعملية القيصرية الثانية. 

أخصائي في أمراض النساء والتوليد: اللجوء إلى العمليات القيصرية له دوافعه (Getty)

 

يؤكد الأخصائي في أمراض النساء والتوليد الدكتور اسكندر بن علية أن اللجوء إلى العمليات القيصرية له دوافعه من بينها ضيق حوض المرأة أو ارتفاع ضغط الدم لديها وكذلك هو مقترن بحجم الجنين في حال تجاوزه للأربع كيلوغرامات ونصف حينها يجبر الطبيب على التدخل الجراحي.

ويوضح بن علية في حديثه لـ"ألترا تونس" أن ارتفاع الولادات القيصرية يعزى بالأساس إلى تطور العلم بما يمكن من التفطن إلى العوامل التي تجعل من الولادة الطبيعية صعبة وخطرة على صحة الحامل وجنينها "في السابق كانت المرأة تلد طبيعيا حتى وان تجاوز حجم الجنين الخمس كيلوغرامات فيصاب بضيق التنفس ويتعرض إلى مشاكل في الدماغ بسبب نقص الأكسجين وبدورها ترهق المرأة كثيرا ويرتفع لديها احتمال حدوث نزيف وحسب إحصائيات عالمية فقد تقلصت نسب الوفاة خلال الولادة من 3 وفيات لكل 100 امرأة  في العشرينات إلى 3 وفيات على كل ألف امرأة".

الدكتور اسكندر بن علية لـ"الترا تونس": ارتفاع الولادات القيصرية يعزى بالأساس إلى تطور العلم بما يمكن من التفطن إلى العوامل التي تجعل من الولادة الطبيعية صعبة وخطرة على صحة الحامل وجنينها 

ويشدد الأخصائي على أن الطبيب ليس مخيّرًا بين الولادة الطبيعية أو القيصرية ولا يتصرف حسب أهواء المرضى والأصل في الشيء هو أن أي امرأة تضع مولودها بطريقة طبيعية إلى أن يأتي ما يخالف ذلك من مشاكل وتعقيدات، مشيرًا إلى وجود قواعد طبية وقانونية وأخلاقية يلتزم بها الطبيب.

الأخصائي في أمراض النساء والتوليد الدكتور اسكندر بن علية

 

وفي رده على الاتهامات الموجهة للمصحات الخاصة بالدفع إلى اعتماد الولادة القيصرية في أغلب الأحيان، اعتبر الأخصائي أنه لا مجال للمقارنة بين القطاع العام والخاص لأن المستشفيات تستقبل يوميًا عشرات الحوامل بينما تستقبل المصحات الخاصة عددًا أقل بكثير. 

الدكتور بشير الزواوي لـ"الترا تونس": هناك توصيات ومبادرات من قبل أطباء للحد من ظاهرة الولادة القيصرية في ظل غياب استراتيجية وطنية 

وبدوره، أكد رئيس الجمعية التونسية لطب أمراض النساء والتوليد بشير الزواوي أن الإحصائيات التي تؤكد بلوغ الولادات القيصرية نسبة 50 بالمائة تعنى بالقطاع العام فقط في ظل غياب إحصائيات دقيقة للمصحات الخاصة وبالتالي فإن النسبة الجملية للتدخلات القيصرية في تونس تتجاوز 50 في المائة باحتساب القطاع الخاص.

ويضيف الزواوي في حديثه لـ"الترا تونس" أن المتعارف عليه هو أن أغلب الولادات في المصحات قيصرية لافتًا إلى وجود توصيات ومبادرات من قبل أطباء للحد من هذه الظاهرة في ظل غياب استراتيجية وطنية. 

رئيس الجمعية التونسية لطب أمراض النساء والتوليد بشير الزواوي

 

اقرأ/ي أيضًا:

طفل الأنبوب ... السّعي وراء حلم الأمومة

تجميد البويضات في تونس.. عندما يصبح الوقت عدوًا لتحقيق الحلم!