26-يوليو-2020

تعيين لوزير أول أقرب منه لرئيس حكومة

مقال رأي

 

اختار رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في آخر الساعات قبل انتهاء الأجل الدستوري لكشف اسم الشخصية المكلّفة بتكوين الحكومة الجديدة، تكليف وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال هشام المشيشي بهذه المهمّة، وهو اختيار يؤكد، بشكل واضح، أن رئيس الجمهورية قرّر ترك الأحزاب والكتل البرلمانية في خانة التسلّل بعد عدم الأخذ بمقترحاتها المقدّمة في شكل كتابي إثر رفضه عقد لقاءات مباشرة معها. وهو تسلّل توازيه خطّة رئاسية هجومية ليبسط رئيس الجمهورية نفوذه على السلطة التنفيذية، ليسود ويحكم أيضًا، وذلك في نظام شبه برلماني للمفارقة. إذ كلّف شخصية مقرّبة منه، كان مستشاره للشؤون القانونية وهو من اقترحه، وفق ما تنقله الكواليس، على الفخفاخ لتولّي حقيبة الداخلية في الحكومة المستقيلة، ليبسط معه تصوّره لطبيعة الحكومة وتركيبتها وتوجهاتها، وبما يجعل البرلمان، وبالخصوص حركة النهضة، تدفع مرة أخرى ضريبة تفويت الفرصة في تكوين حكومة الحبيب الجملي.

مثّلت لحظة عدم منح الثقة لحكومة الجملي انعطافة في صياغة المشهد السياسي في البلاد بإحالة المبادرة من البرلمان إلى رئيس الدولة

مثّلت لحظة عدم منح الثقة لحكومة الجملي انعطافة في صياغة المشهد السياسي في البلاد بإحالة المبادرة من البرلمان إلى رئيس الدولة الذي لمّ يفوّت الفرصة ليمارس سلطانه بحسب الفرضيات المتاحة دستوريًا. وهو يعتبر منذ اختياره للفخفاخ وتأكد الآن مع المشيشي، أن "الشخصية الأقدر" (العبارة الواردة في نص الدستور) لتكوين الحكومة ليست المقدّمة من أغلب الكتل البرلمانية وفق حسابات التوازنات في قصر باردو، بل هي الأقدر على أن تتماثل مع تصوّراته، وما على البرلمان إما القبول بذلك أي منح الثقة للحكومة أو رفض ذلك وما يعنيه بالتتابع حق رئيس الدولة في حلّ البرلمان، والرئيس المستقلّ غير المتحزّب تذكيرًا غير معني بتوازنات المؤسسة التشريعية وحسابات مكوّناتها.

مثل سقوط حكومة الفخفاخ، بعد استقالتها ساعات إثر عريضة لسحب الثقة قدّمها نواب النهضة والمعارضة، بالنسبة لسعيّد ضربة سياسية بالنسبة إليه، باعتباره من قدّم الفخفاخ ودعم توجّهه وبالخصوص رفضه لتوسيع الحزام السياسي للحكومة وفق ما تطالب به حركة النهضة. ولكن سرعان ما قرّر سعيّد "الانتقام" بداية من دعوة الفخفاخ لتقديم استقالته أي عودة الكرة لرئاسة الجمهورية لاختيار رئيس الحكومة الجديد بدل المواصلة في مسار سحب الثقة وما تعنيه أن الأغلبية البرلمانية هي التي ستقترح رئيس الحكومة، وثمّ في تقديم شخصية لرئاسة الحكومة من غير المقترحة من الأحزاب البرلمانية وبالخصوص من الكتل الأساسية، وتحديدًا اسمي الفاضل عبد الكافي وخيام التركي الذين تم اقتراحهما من حزبيْ النهضة و"قلب تونس".

اقرأ/ي أيضًا: هل تترنح الديمقراطية في تونس؟

في كلمة مقتضبة لرئيس الجمهورية بمناسبة تكليف المشيشي، قال "نحترم الشرعية لكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيرًا صادقًا وكاملًا عن إرادة الأغلبية"، في لمز موجّه للبرلمان الذي يعرف منذ تكوّنه تجاذبات حادّة وتوترات بلغت حد الفوضى وتعطّل أعماله، بسبب الاعتصامات المتكرّرة من كتلة الدستوري الحرّ، والتصعيد بين هذه الكتلة وكتلتي النهضة وائتلاف الكرامة، ولعلّ آخر عناوين الحالة البرلمانية المهترئة هي لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي. وسعيّد، المستقلّ غير المتحزّب، هو بصدد توظيف أزمة البرلمان وتزايد تراجع شعبيته في أوساط التونسيين وفق ما تبيّنه استطلاعات الرأي لفائدة مشروعه الأصلي: تجاوز منظومة الأحزاب. وقد أعلن رئيس الدولة، في هذا الجانب، عن إعداده لمشروع لتنقيح القانون الانتخابي باتجاه اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد وليس القائمات، وهو ما لا يخدم الأحزاب، إضافة لإعلان رغبته في تغيير النظام السياسي من النظام شبه البرلماني إلى النظام الرئاسي.

ولكن سعيّد، وبما يمنحه إليه من الدستور من صلاحية اختيار رئيس الحكومة في صورة فشل الحزب الأكبر في تمرير حكومته (حكومة الجملي المقترحة من النهضة) أو حال استقالة الحكومة (حكومة الفخفاخ الذي قدّم استقالته لإعادة الكرة لرئيس الدولة لتفادي سيناريو سحب الثقة الذي يعيد الكرة للنهضة)، قرّر أن يحوّل، وبحكم الأمر الواقع، النظام السياسي إلى نظام أقرب للنظام شبه الرئاسي بتكليف شخصية، الآن، تكون أقرب لصورة الوزير الأوّل منه إلى رئيس حكومة. فالمشيشي مستقلّ، غير محسوب على أي حزب وغير معني بحسابات التوازنات والتحالفات الحزبية، ابن الإدارة التونسية، حديث العهد بالمناصب السياسية، غير معروف بارتباطاته بعالم المال والاعمال، بذلك هو شخصية مثالية بالنسبة لرئيس الدولة الذي يحوّل السلطة التنفيذية إلى سلطة برأس واحد ومن خلفه رئيس الحكومة "التابع"، وذلك بدل سلطة برأسين. الأمر لا يتعلق بتحايل على الدستور، بل ببساطة بتوظيف كل الإمكانات الدستورية ليفرض رئيس الدولة سلطانه على السلطة التنفيذية ليصبح ساكن قرطاج يحكم ويسود في نفس الوقت.

هشام المشيشي هو شخصية مثالية بالنسبة لرئيس الدولة الذي يحوّل السلطة التنفيذية إلى سلطة برأس واحد ومن خلفه رئيس الحكومة "التابع" وذلك بدل سلطة برأسين

بيد أن توجّه سعيّد، بالدلالات التي حملها تكليف المشيشي، يعني، في جانب آخر، تحمّل مشقة الحكومة بداية من مهمّة تكوينها ونيلها الثقة إلى غاية تحمّل أدائها، باعتبار أنه خالف توجهات الأحزاب وما عليه إلا تحمّل تبعات خياراته وتصوراته. ولكن سعيّد يردّ هذه الكلفة، فهو يكسب ولا يخسر، فالحكومة هي وليدة البرلمان وليست خرّيجة قصر قرطاج. أستاذ القانون الدستوري حين تكليف الفخفاخ والحديث وقتها عن "حكومة الرئيس"، خرج ليؤكد أن الحكومة ليست "حكومته" لأن البرلمان من سيمنحها الثقة، وهو يتحمّل مسؤوليتها. يقول سعيّد ذلك وهو يعلم أنه يحاصر البرلمان وبالخصوص مكوّناته الرئيسية مستغلًا كل هوامش التحرّك في الدستور، فالبرلمان أمام خيارين مع المشيشي كما كان مع الفخفاخ: القبول بحكومة، رئيس الدولة هو من اختار رئيسها ويضبط توجهاتها الكبرى ويسيّج حزامها السياسي، أو الحلّ.

بالنهاية، يوجد عطب في تنزيل فلسفة النظام السياسي المحدد نظريًا في الدستور على الواقع السياسي التونسي، وهو عطب بدأ منذ تطبيقه إثر انتخابات 2014. يفترض النظام السياسي أن يتصدى لرئاسة الحكومة مرشّح الحزب الأكثر تمثيلية في البرلمان، ولكن لم تكن تلك الحال بالاتجاه نحو تحالفات حزبية برلمانية لتكوين الحكومات بقيادة رئيس حكومة مستقلّ (الصيد والجملي والآن المشيشي) أو من غير قادة الصف الأول للأحزاب (الشاهد) أو من حزب غير ممثل برلمانيًا (الفخفاخ). وبيّنت الممارسة للنظام السياسي أن رئيس الدولة لا يفوّت أي فرصة لبسط رؤيته وفق الفرضيات الدستورية الممنوحة إليه، وذلك من حقّه، ولكن يؤدي، وهذا المشكل في الواقع، إلى عدم تناغم بين المؤسسات أو صراع فيما بينهما باعتبار أن الممارسة غير الطبيعية للنظام السياسي تنتج آثارًا كريهة، وذلك كما كان الصراع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة زمن السبسي والشاهد، وحاليًا بين رئاسة الجمهورية والبرلمان المفتّت والمنقسم بسبب قانون انتخابي منتج للأزمة حان الوقت لتغييره. فاعتماد نظام الاقتراع على القائمات بأكبر البقايا دون عتبة دنيا في نظام شبه برلماني يعني إنتاج برلمان أزمة ومعطّل قائم على توازنات متقاربة متصارعة ومتحرّكة بما يعني عدم الاستقرار، وقد فشل هذا البرلمان في تقديم حكومة في المرة الأولى، ومنح الثقة لحكومة ثانية لم تدم إلا 6 أشهر، وهو يستعد الآن لامتحان منح الثقة لحكومة ثالثة في ظرف 9 أشهر فقط.

وفي خضم كلّ ذلك، بات رئيس الجمهورية يملك المبادرة، ويتحوّز على المشهد برمّته، يبسط سلطانه وهو يعلم أنه مازال يتصدّر نوايا التصويت بفوارق عريضة على منافسيه، بما قد جعله يتحرّك بأكثر اندفاعية، بل تظهر "صواريخه التي على منصات إطلاقه"، والعبارة إليه، الموجّهة، حقيقة، للبرلمان ومنظومة الأحزاب برمّتها، هي مطالب شعبية يستجيب إليها الرئيس القادم من "الأعماق" البعيد عن ماكينات الأحزاب والمال. وبعيدًا عن هذه الصراعات المشروعة منها وغير المشروعة، وفي مسارات إعادة التأسيس ومباريات التأويل الدستوري والصراع الحزبي، ترزح البلاد في أزمة اقتصادية هي الأثقل منذ استقلال البلد، وتظلّ تبعاتها وما قد تخلّفه من انتفاضات اجتماعية خاصة في الشهور القادمة، هي الشبح الذي يهدّد البناء الديمقراطي في أسوء السيناريوهات الممكنة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة تونس.. أجراس اللاعودة

البرلمان المأزوم.. لماذا؟ وما العمل؟