04-يوليو-2021

بدر الدين من منطقة كافأت تهميش دولة الاستقلال بالعلم لتثبت أنّها قادرة على زرع بذور صالحة تنبت في الأرض

 

حين رأيت والد الشاب بدر الدين الماجري، الذي تفوق في البكالوريا وكان الأول على مستوى الجمهورية في شعبة الآداب، وهو يبكي متكئًا على حائط منزله الرمادي يلامس شقوقه، انهمرت الدموع من عيني لأن حلاوة النصر بعد مرارة التعب أهم ما قد نعيشه في حياتنا.

معاناة والده تلخص ألمًا جماعيًا تعيشه العائلات التي تجاوزها حتى خط الهامش، بعيدًا عن أي حسابات سياسية أو مصالح اقتصادية، هنا نربي الأمل بإحياء العلم فينا.

نحن أبناء الريف في الشمال الغربي التونسي المهمش، نصارع الحياة منذ طفولتنا، لا نحصل على أي شيء بسهولة لكن ننبش بأظافرنا لنحقق نجاحًا

نحن أبناء الريف في الشمال الغربي التونسي المهمش، نصارع الحياة منذ طفولتنا، لا نحصل على أي شيء بسهولة لكن ننبش بأظافرنا لنحقق نجاحًا، ليس لأجلنا بل من أجل عيون أهلنا.

تذكرت والدي الذي دخل إلى المدرسة وهو يكبر زملاءه بسنة في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ولا يحمل في يده كراسًا، ولم يكن لديه سوى محفظة خاطتها جدتي من أكياس العلف، ووضعت له فيها محبرة وريشة، وزرعت فيه أملاً بأن التميز حليفه.

اقرأ/ي أيضًا: متفوّقو بكالوريا 2021 لـ"الترا تونس": الهندسة حلم أغلبهم ومغادرة تونس هدفهم

هكذا هم آباؤنا والأجيال التي سبقتنا، يجمعون كل شيء أمامهم صالح للحياكة ليغطوا به نقائصنا. وحاولوا جاهدين أن يبددوا ضعفنا وخوفنا بتجاربهم وأن يغذوا فكرنا بمستقبل لعله أفضل، نكون فيها شموعًا تضيء دربًا من الكفاح.

وبدر الدين الشاب الذي قاوم ليحقق حلم عائلته في التميز وحلمه الخاص في تجاوز، أي نقص أو حرمان عاشه طيلة دراسته، وكل وجع مضن عرفه، يقول مبتسماً لـ"ألترا تونس" "لم أفكر فيما ينقصني بل فكرت كيف أتجاوزه".

بدر الدين الماجري (صاحب المرتبة الأولى في بكالوريا 2021 آداب): لـ"ألترا تونس": "لم أفكر فيما ينقصني بل فكرت كيف أتجاوزه"

وأنا أعرف هذه الابتسامة جيدًا، ليس مكرًا ولا فرحًا، بل تغلبًا على القهر الذي نتجرعه يوميًا ونحن ننتظر حافلات ممتلئة بالتلاميذ بعد مشي مسافة كيلومترات للوصول إلى المحطة، ومنها إلى المدينة بجيوب فارغة، ومحفظة تحمل القليل مما يجب أن تحمله، من أدوات منقوصة وخوفًا حتى من سؤال أستاذ عن كراس يطلبه، ولا نملك ثمنه.

يتحدث بدر الدين ببساطة جميلة، بلكنته الريفية المميزة، وبقناعة قل مثيلها، خاصة حين يستحضر والديه الذين كانا خير سند له طيلة مشواره.

رأس مال العائلة العلم، أخته الكبرى تدرس في جامعة 9 أفريل في العاصمة، متفوقة في دراستها وتطمح إلى تحسين مستقبل عائلتها، رغم الظروف المادية الصعبة. فدخل والدها بالكاد يفي مصاريف البيت اليومية، لكنه رجل مؤمن بأن العلم وحده طريق لخلاص أبنائه من الحاجة والتعب.

يقول بدر الدين إنّ والده تديّن المال وقام بأقصى جهده ليوفر لها جهاز فلاي بوكس للإنترنت المحمول، حتى تتمكن من إنجاز بحوثها في الجامعة ولا تكون أقل من غيرها. وأخوه الأصغر على خطاه يدرس في السنة الأولى ثانوي، يسعى إلى التفوق وبلوغ أعلى المراتب، مفتخرًا بما حققه إخوته، متبعًا أثرهما.

يروي بدر الدين أحد فصول معاناته اليومية في التنقل من قريته في منطقة الدخايلية بوادي مليز إلى المدرسة مشيًا، ثم مسافة الوصول إلى المعهد الثانوي، الذي سيضطر فيه إلى الاعتماد على حافلات النقل العمومي التي تغص بالتلاميذ.

ولا يمكنه العودة إلى المنزل إلا في الأوقات المحددة بالنسبة للحافلات ما يجعله عرضة للبقاء ساعات في الخارج "كنت أجلس في مقهى لا أملك ثمن مشروب فيها، بسبب ضعف إمكانيات الذهاب إلى المنزل في وقت الغداء ثم العودة للدراسة مجددًا"، يتحدث بدر الدين.

بدر الدين الماجري (صاحب المرتبة الأولى في بكالوريا 2021 آداب): لـ"ألترا تونس": "كنت أجلس في مقهى لا أملك ثمن مشروب فيها، بسبب ضعف إمكانيات الذهاب إلى المنزل في وقت الغداء ثم العودة للدراسة مجددًا"

يشق على أبناء جندوبة القاطنين في الأماكن النائية الوصول إلى المدارس والمعاهد خاصة في ظل أوضاع جوية متردية، قد تتسبب في فيضان أودية، تؤدي في بعض الأحيان إلى استشهاد ضحايا العلم، لعل آخرها حادثة التلميذة مها القضقاضي عام 2019.

ويصبح الخروج في فصل الشتاء للدراسة، من أصعب القرارات التي يمكن أن يتخذها المرء، فإذا خرجت قد لا تضمن عودتك وإن عدت فستكون مبتلاً بالكامل ومعرضًا لنزلات برد وأمراض أخرى.

يعيش بدر الدين في قرية لم يظفر سكانها إلى اليوم بشبكة مياه صالحة للشراب، ويقومون بنقل الماء من مناطق أخرى لقضاء حوائجهم. 

هذه المناطق التي يسميها البعض "وراء البلايك" أي وراء اللافتات التي تشير إلى المناطق المأهولة، للدلالة على أن ما وراءها خارج عن التاريخ وحتى الجغرافيا، وتستخدم كعبارة عنصرية في العامية المحلية، وحين تتكرم عليها الدولة بتوفير الماء أو الكهرباء يقولونا ساخرين "جانا الماء، جانا الضوء". وهاهي اليوم تكافئ تهميش دولة الاستقلال بالعلم، لتثبت أنّها قادرة على زرع بذور صالحة تنبت في الأرض.

لم يكن بدر الدين من مرتادي الدروس الخصوصية، ولا من هواتها، بل إنه لا يفضلها ولا يرى أنها نافعة بقدر ما هي مبددة لوقت المراجعة الطبيعي، حسب رأيه.

يشق على أبناء جندوبة القاطنين في الأماكن النائية الوصول إلى المدارس والمعاهد خاصة في ظل أوضاع جوية متردية، قد تتسبب في فيضان أودية، تؤدي في بعض الأحيان إلى استشهاد ضحايا العلم

فرضت ظروفه المادية بداية، عدم الانسياق وراء موجة الدروس بمقابل خارج أسوار المدرسة العمومية، لأنّه لا يريد أن يحرج والده أو أن يعوّل على غيره، فلا يجد من يعيله بعدها ومع تحقيقه نتائج متميزة ومبهرة لم ير لذلك بدًّا.

اقرأ/ي أيضًا: بكالوريا 2021: تلاميذ بين مركز حجر "غير صحي" وتفتيش مهين

ورغم إقباله على سنة دراسية صعبة انتشر فيها فيروس كورونا وقل فيها الحضور في المعهد، حافظ بدر الدين على ثقته بنفسه بل كانت كل التحديات حافزًا له، خاصة مع وجود أساتذة مربين يحترمون فطنته ولا يبايعونه المعدلات بالمال. يقول في حوار مع "ألترا تونس": "مادام لدي أساتذة أكفاء يتابعون مهاراتي ويدفعونني إلى الأمام، فإن الدروس الخصوصية لن تفيدني، بل ربما لو انخرطت في اللعبة لعولت عليها أكثر من تعويلي على نفسي ومراجعتي".

ولا ينسى فضل أستاذ العربية في معهد أبو القاسم الشابي بعين الدراهم، منير الجماعي الذي كان بالنسبة إليه رجلاً خير من ألف. وقال لـ"ألترا تونس" إنّ كل أساتذته كانوا يعاملون الجميع على قدم المساواة ولا يفرقون بينهم، ويعطون لكل ذي حق حقه".

قلب بدر الدين معادلتين، الأولى تتمثل في الصورة النمطية التي تضع الشاب في خانة المتميز في شعبة العلوم مقارنة بتميز الفتيات في السنوات الأخيرة في شعبة الآداب، وعلق في حديثه لـ"ألترا تونس" بأنّ "العلوم ليست حكرًا على الشبان والآداب ليست حكرًا على الفتيات، لأن كل شخص يجد نفسه متميزًا في التوجه الذي يريده، والذي اختاره منذ البداية".

وأضاف: "نحن أيضًا نحب اللغات خاصة العربية ونستمتع بدروس الفلسفة، وأنا أحب العلوم أيضًا لكني أفضل المواد الأدبية لذلك اخترتها".

بدر الدين الماجري لـ"الترا تونس": لدي أساتذة أكفاء يتابعون مهاراتي ويدفعونني إلى الأمام والدروس الخصوصية لن تفيدني، بل ربما لو انخرطت في اللعبة لعولت عليها أكثر من تعويلي على نفسي ومراجعتي

أما المعادلة الثانية فهو التحدي الذي كسبه، حين قال له بعض الأساتذة إن تلاميذ الشمال الغربي في البكالوريا يحصلون عددًا جيدًا في الثلاثية الأولى والثانية، لكن في المناظرة الرسمية ينخفض المعدل بثلاث نقاط على الأقل من العادي، في إشارة إلى أن معدلاتهم خلال السنة الدراسية تكون مبالغة.

لكنه تجاوز العدد الذي حصل عليه في البكالوريا البيضاء بحوالي النقطة، ليؤكد أن العمل وحده قادر على تبديد النظريات.

يعتبر بدر الدين أن الشمال الغربي مظلوم وأنه المنطقة الأكثر تهميشًا في تونس، لكنه يحث على الصبر لتجاوز الصعوبات ويوصي بالأمل للتمرد على الخيبات ويوصي بالثقة لبلوغ أعلى المراتب.

اقرأ/ي أيضًا:

تعرف على نسب النجاح في بكالوريا 2021 والمتفوقين والتوزع الجهوي

مدير عام الامتحانات: نسبة النجاح العامة في الدورة الرئيسية للبكالوريا طيبة